هذا العناق المخيف/ شوقي بغدادي
ليست هذه كلمة وداع وإن كانت تبدو كذلك، فالباقون أحياء في بلدي لن يبقوا أحياء لفترة طويلة كما يبدو.
سوف يموتون بالتأكيد من الجوع أو المرض أو من رصاصة طائشة او قذيفة تفجرت في طريق آمن أو سيارة مفخخة أعدها لقتل الآخرين إنسان شبيه بنا مع اختلاف بسيط عنا، ذلك اننا لا نحب القتل والتقتيل مثله.
يسألونني إذن لماذا لم تغادر بلدك الموبوء هذا، فلم أجد جوابا سوى انني لا أريد أن أموت في «استنبول» او «الدوحة» او «دبي» او «باريس» او اي بلد آخر غير بلدي. هنا قبري جاهز ينتظرني برصانة محمودة وحين زرته في عيد الأضحى الأخير وجدته متداعيا بعض الشيء وقد انهارت احدى زواياه، ولعل حارس المقبرة ـ كما قيل لي ـ هو من يصنع ذلك عادة مع القبور التي لا يزورها اصحابها بانتظام وهكذا يستطيع التصرف به وبيعه ـ كما يقال مع الغلاء الاسطوري الذي يطبق على البلد ـ بمبلغ يقارب المليون ليرة سورية في مقبرة «الباب الصغير» الشهيرة حيث لا يوجد فيها الآن مكان لقبر جديد.
يسألونني أيضا لمن تنتمي إذن؟ فأجيب بأنني لا أنتمي إلى أي من القوى التي تتصارع الآن على أرض بلادي تحت شعارات هي غير الشعارات التي بدأت بها التجليات الأولى للتظاهرات الجماهيرية الراغبة في التغيير إلى الافضل، وإن لا فأين هي اليافطات التي كانت تحمل كلمات الحرية والكرامة والأخوة المذهبية الدينية التي رفعتها عاليا تلك التظاهرات السلمية الأولى.
أنا أنتمي حقا إلى هذه الكلمات التي اختفت وأسعى للتذكير بها لعلها تعود فوق رؤوسنا في رايات خضراء او بيضاء أو حمراء! أنا انتمي الى «العدالة» ضد الظلم، و «الرقة» ضد العنف، و «التسامح» ضد الحقد والتعصب، و «الحرية الفردية» ضمن قانون يضعه شعب حر لا حاكم يحتكر السلطة.
ويسألونني أيضا لماذا يذكر الجوع والمرض في هذا السياق، وهل صار الناس عندكم يموتون بسبب الجوع والأمراض المستفحلة؟!
أقول لهم: نعم.. فمع هذا الغلاء المرعب الذي يجتاح جميع حاجات البشر لا بد أن يجتاح الحرمان من الغذاء والغالي الثمن والأدوية المفقودة او غير المنتظمة في مواعيدها بالجوع والمرض ليس في خيام المشردين اللاجئين بالملايين فقط بل لا بد أن ينال حتى المقيمين في بلدهم حصتهم من هذا الوباء. أما التجار فهم في منجى نسبيّ من هذا الخطر ما داموا قادرين على رفع أسعار المواد التي يبيعونها كما يشاؤون، ومثلهم الموظفون في الدولة القادرون على فرض الرشوة واقتناصها ومثلهم طبعا اصحاب السطوة والنفوذ في المؤسسات الحكومية المختلفة.. يبقى المتقاعدون واللاجئون والعاطلون عن العمل وما أكثرهم.. فهم وحدهم من يرزح تحت وطأة هذا الطوفان من الرعب والعنف والغلاء والحرمان.. وإن لا فماذا يصنع متقاعد مثلي راتبه الشهري لا يسد حاجاته لأكثر من أربعة أو خمسة أيام.. ماذا يصنع غير أن يستغيث بأقربائه الذين هاجروا وصاروا قادرين على مدّ يد العون لأقربائهم في الداخل.
ولكن ماذا يصنع الآخرون الذين لا أقرباء لهم قادرون، أولا معونات دولية كافية تنقذهم من أخطار الحرمان من الغذاء والأمن والتعليم.. من يحب سوريا حقاً؟ هل يحبها فعلاً هؤلاء الذين يدمرونها؟
حسناً.. ليست هذه كلمة وداع وإن كانت تبدو كذلك.. إن سوريا التي يتبارى المتصارعون في التعبير عن حبهم إياها تقول لهم بكل صراحة أسيانة: أرجوكم.. لا تشدوا عليّ في عناقكم كي تعبّروا عن حبكم.. إنكم تكسرون عظام صدري.. أرجوكم.. أرجوكم.. لا تحبوني بهذه الطريقة الوحشية!
ولكن هيهات، فلقد فات الأوان على التفريق بين الحب والكراهية! أو بين الأثَرة والإيثار! لقد آن لنا جميعا أن نودع بعضنا بعضا كي نستريح أمدا كافيا لاسترداد أنفاسنا قبل أن نعاود عناقنا المخيف!
القدس العربي