هذيانات المريض النرويجي/ مالك داغستاني
عودت نفسي، في كل صباح اسطنبولي جديد، حتى قبل أن أشعر بالحاجة الملحة لعيادة طبيب نفسيّ، أن تأخذني خيالاتي (التي اعتاد من حولي جموحها) إلى طرح الكثير من الأسئلة والاحتمالات الافتراضية. ساعة صباحية أُقلّب فيها افتراضات أعتقد أنها لا تخطر إطلاقاً ببال باقي الأشخاص الطبيعيين، أو لأعرّفهم هنا بأنهم الأشخاص الذين يعرفون الكيفية الطبيعية للعيش البشري، وإن شئتم أن أخصص أكثر، سأحددهم على أنهم كل البشر من غير السوريين. ذلك أن أصعبَ أسئلتي الخيالية تتعلق بهذه الهوية اللاإرادية التي وجدت نفسي منذ ولادتي عالقاً بها.
ماذا لو لم أكن سورياً؟ إنه واحد من الأسئلة الأساسية والمفتاحية في ألعابي التخيُّلية الصباحية، الذي يكاد يكون فاتحة كل أسئلة الصباح الفرعية الأخرى. ومنه سوف تتفرع كل ألعابي. فأنا أبدأ كل يوم لعبتي مع هذا السؤال، محاولاً على أساسه ضبط محور الزمن لحياتي بافتراضات مُتخيلة، منذ تاريخ ولادتي حتى صباح اليوم الذي ما زلت أعيشه. مثلاً أبدأ على النحو التالي: أنا ولدت صيف عام 1957، فماذا لو ولدت فرنسياً أو هولندياً في ذلك الصيف؟ طبعاً لست غبيّاً بما يكفي لأختار الأمثلة السيئة لبلدان ككوريا الشمالية أو كمبوديا أو…
من المؤكد أنني سوف أتحاشى تخيل الانتماء لمثل هذه الدول. فأنا إنما ألعب لأسلي نفسي، وأستمتع بأحلام اليقظة، ويكفيني في الواقع أنني سوري، فلمَ سأعذب نفسي بالأمثلة المشابهة، وربما الأكثر سوءاً؟ (ستلاحظون هنا، أنني أحاول من أجل الموضوعية، افتراض أنه قد تكون هناك أمثلة أكثر سوءاً من أن أكون سورياً). فربما كان هناك زميلٌ كمبوديّ، يمارس في اللحظة نفسها (مع فارق التوقيت) لعبتي، مفترضاً أنه كان يعيش في العاصمة «بنوم بنه» يوم 17 أبريل/نيسان عام 1975 عندما اجتاحتها قوات الخمير الحمر (يا للمصادفة، 17 أبريل العيد الوطني في سوريا)، وتصادف أنه كان الناجي الوحيد في عائلته التي ترقد الآن في إحدى المقابر الجماعية المعروفة باسم «حقول القتل»، ناجٍ من مجازر الرفيق «بول بوت» التي أبادت ربع الكمبوديين، وأنه مثلي كان (هرباً من كوابيسه) يحاول أن يلعب لعبتي ذاتها مفترضاً أنه ليس كمبودياً، ولا يهدف من لعبته سوى أن ينجو بروحهِ لساعةٍ صباحية كل يوم. أوليسَ هذا من حقه أيضاً؟
من أجل عدم الشطط، لنعد إلى موضوعنا. أتخيل مثلاً أنني كنت مواطناً نرويجياً، ولد في عام 1957 حيث كانت البلاد حزينةً (أو هكذا بَدَت) لوفاة الملك هاكون السابع، ثم مباشرة بعدها، سعيدة لتنصيب ابنه أولاف الخامس (اللعنة. ها أنا أخوض هذا المثال رغم رعبي الشديد من مجرد تخيل العيش في البلدان الباردة. وبغضي الشديد لكارثة توريث العروش). وهكذا سوف يكون عمري ثلاثون سنةً في عام1987 أعمل بعد تخرجي من الجامعة (كما كنت في سوريا تماماً) مبرمجاً للكمبيوتر في شركة حكومية، لدي زوجة جميلة، وطفلة عمرها أربع سنوات وزوجتي حامل في شهرها الرابع بطفلة (سأتعرف عليها عبر شبكين معدنيين في سجن صيدنايا بعد ثلاث سنوات من ولادتها). وهكذا أتابع لعبتي (بنسختها النرويجية) كما كانت في الواقع مع التعديلات التحسينية اللازمة، مفترضاً أن فرع فلسطين التابع لشعبة المخابرات العسكرية النرويجية، لم يرسل دوريته إلى بيتي في ليلة السابع من أيلول/سبتمبر في ذلك العام، وأنني لم أكن رهن السجن لتسع سنوات من أجل رأي سياسي يعارض ما كانت تراه حكومتي النرويجية من سياسات حكيمة في تلك الفترة (طبعاً لن يفوتكم أن سياسات الحكومة النرويجية هي دائماً «حكيمة» مهما تقافزت، وكيفما بدلتها بين فترة وأخرى حسب مصالحها، كباقي حكومات الأرض). ولي رأي (مجرد رأي) يعارض سلمياً تسلط الملك أولاف الخامس (الذي تزعجني أصوله الدنماركية) على عموم الشعب النرويجي. حسناً لأكمل نرويجياً، بأنني تابعت عملي الناجح، وأنا أعيش بين أفراد أسرتي، ألاعب طفلتيَّ كل مساء كأي أب نرويجي صالح (وأني أبداً لم أكن أحترق كل ليلة في إحدى زنازين السجن، في ضواحي العاصمة أوسلو، وأنا أتأمل صورهما، وأهجس بهما وهما تكبران بعيداً عن عيني). وفي كل يوم كنت أصحبهما صباحاً في طريقي للعمل إلى مدرستهما الجميلة، التي يزينها العلم النرويجي الجميل (الذي لا يحتوي على أي نجمة كما تعلمون). هكذا إذن. أتابع لعبتي مع بعض التعديلات الطفيفة كل يوم. مشدداً على حذف واستبعاد أيّ من الأسماء البغيضة من لعبة الصباح، أتابع بنعومةٍ حياتي النرويجية الهانئة، دون شحنات كهربائية فائضة في الدماغ، وبعيداً عن حافظ الأسد، جلادي فرع الأمن العسكري، مدير سجن صيدنايا، وبشكل خاص (ولأسباب شخصية جداً، وستعذروني هنا إن تبدّت لدي بعض الأحاسيس القائمة على الكراهية) أستبعد سيادة العقيد علي الذي قام بقلع أظافري وتفزير جسدي قبل تغذيته وشحنه بالكهرباء. فهذه النماذج من الأسماء وغيرها هي من محرمات لعبتي، كما يفترض بكم أن تخمّنوا. هكذا إذن، أعيش ساعتي الصباحية الهانئة، متخففاً من صورهم التي تثقل ذاكرتي منذ سنوات طويلة.
ومن باب فرط التعاطف الذاتي، أحاول غالباً افتراض خاتمة جميلة لألعابي فأتخيل نفسي متقاعداً، وأجدني سعيداً وقد انتهيت من أداء واجبات العمل الذي واظبت عليه أربعين عاماً، وأن حكومة النرويج كانت ممتنة لي، وقد عبرت عن ذلك بمنحي وسام الخدمة العامة، مرفقاً بشهادة أحتفظ بها ضمن إطار خشبي في الصالة الرئيسية لمنزلي، شهادة يُذكر فيها أني مواطن خدم وطنه بإخلاص وعلى أكمل وجه، وقربها صورة تذكارية في إحدى مناسبات الاستقبال الحكومية، تجمعني مع «إرنا سولبرغ» رئيسة وزرائنا الجميلة (بالمناسبة، زوجتي تحب هذه الصورة كثيراً). ولأتابع، ما دام ليس هناك من سيتهمني بنشر الأخبار الكاذبة، أن المحكمة المسلكية النرويجية للعاملين في الدولة لم تقرر طردي من العمل بعد السجن، استناداً إلى أنني محكوم لدى محكمة أمن الدولة العليا بتهمة «شائنة» (أجل «شائنة». هكذا صدر قرار الحكم حرفياً). ثم أستطرد، من أجل متعة الخواتيم الجميلة، أنني، على العكس مما يظن البعض، لا أعيش لاجئاً (يفتقد لأي إحساس بأن الغد آمن) في هذا الحي الشعبي من أحياء إسطنبول، بعد أن هرب من مخابرات الأسد الابن، وريث أبيه، خوفاً من العودة ثانية إلى السجن. فالحقيقة أنني أسكن بيتاً جميلاً محاطاً بحديقة واسعة ومشجرة (أتسلى بتشذيبها كل صباح) على سفوح قرية نرويجية هادئة. إنه البيت الذي اشتريناه بعد التقاعد من مدخراتنا بهدف الابتعاد عن ضجيج أوسلو، والخلود إلى السكينة التي تناسبنا أنا وزوجتي في هذه السنّ، وأننا ننتظر بفارغ الصبر أنا وزوجتي، نهاية كل أسبوع، موعد مجيء أحفادنا لقضاء عطلة الأسبوع في بيتنا الكبير، بعد أن نكون قد حضّرنا كل ما سوف يسعدهم ويجعل من زيارتهم لنا أمراً محبباً. فما يفيض عن رواتبنا التقاعدية لن يدع هذه المصاريف البسيطة تربك ميزانيتنا.
أرأيتم؟ أرأيتم كيف كانت لتكون حياتي اليوم؟ فقط لو نجوتُ، ولم أكن سورياً جعلته تصاريف القدر، شديدة اللؤم، يولد ويعيش في زمن البعث وعائلة الأسد. وقبل أن أختتم لعبتي، ومن أجل حفظ الحقوق الأخلاقية لزميلي المسكين، لا بد لي أن أضيف (بصفتي شخصاً منصفاً، كما تعلمون) بأنه من محاسن المصادفات أيضاً، لم أكن كمبودياً عاش في زمن «بول بوت» والخمير الحمر.
٭ كاتب سوري مقيم في اسطنبول
القدس العربي