هروب من الجحيم.. شباب سورية يبحثون عن مستقبلهم/ عامر عبد السلام
يتداول السوريون منذ خمس سنوات نكتة عن واقعهم تقول: “فقط في سورية، يستطيع الشاب أن يؤدي الخدمة العسكرية لدى أحد جيشَين، وتحت أحد علمَين، ومع أحد شعبَين، وفي أي أرض يشاء”. وعلى الرغم من الخيار المفتوح، إلا أن الحياة الصعبة التي يعيشها الشباب، واستهدافهم اليومي بشتى الطرق يجعل الهروب إلى دول أخرى أو مناطق أسهل الخيارات التي يبحثون عنها بذكورهم وإناثهم.
على الرغم من أنّ الجنسين يعانيان من الأزمة نفسها والأسباب ذاتها الدافعة إلى الهروب على كثرتها، إلا أنّ المجتمع السوري، سواء في مناطق سيطرة النظام أو المعارضة، يميّز ما بين هروب الشاب وهروب الشابة. الأخيرة تلحق بها الفضيحة إذا ما غابت عن منزل أهلها، على الرغم مما تتعرض له خارج المنزل وداخله من ضغوط تجعل حياتها جحيماً يضاف إلى جحيم الحرب.
أحد هؤلاء الشباب محمد ن. الذي يعتبر أنّ مناطق النظام حيث يعيش تشكل خطراً واضحاً على حياته. هو في السابعة عشرة، يقرأ التعاويذ والآيات التي يحفظها قبل مروره بأي حاجز أمني، أو عندما يرى سيارة عسكرية. فالطريق إلى العمل من منزله وإليه باتت تحمل مخاطر أكثر مما تحمله القذائف الهابطة من السماء.
يوافق على ذلك مصطفى ع. (16 عاماً) الذي يعيش في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة. يعتقد أنّ الحياة التي يعيشونها تجعلهم مشاريع أرقام، ستضعها منظمات حقوق الإنسان في قوائمها لتندد بها. يفسر: “نحن قتلى، إما اليوم أو غداً، فالأفضل أن نجد طريقة نهرب من خلالها، لنؤمن مستقبلاً بعيداً عن الحرب التي نحن حطبها”.
حالة الإحباط والتشاؤم التي يعيشها الشباب لم تأت من الأوضاع الأمنية السيئة فقط، بل من تبدل العادات والتقاليد اليوم عمّا تربوا عليه. الأسرة التي كان أفرادها يؤازرون بعضهم بعضاً، بات كبيرها في دولة وصغيرها في أخرى، وغيرهما يتناثرون هنا وهناك. تقول هديل أ. (20 عاماً) القاطنة في مناطق النظام: “أشقائي الثلاثة سافروا، أحدهم علق في تركيا، والآخر وصل إلى ألمانيا، أما الثالث فمفقود منذ أكثر من شهر ولا نعرف مكانه”. تتابع: “أبي وأمي اعتزلا الناس نهائياً. أما أنا فأريد أن أصنع مستقبلي. هنا لا أمان يسمح لنا بالخروج من المنزل إلى العمل، ولا حياة نستطيع ممارستها، عدا عن التحرشات التي نتعرض لها على الحواجز”.
ليست كلّ الفتيات كهديل. هناك من هربت مع حبيبها، لتخبر أهلها في ما بعد أنها تزوجت، بينما تعتقد العائلة أنها خطفت أو اعتقلت أو حتى قتلت. هذه هي حال بيان ش. التي تأمل أن تسامحها والدتها “لأني تركتها من دون أن أخبرها أين أنا. رفض والدتي زواجي من شاب، فقط لأنه من طائفة أخرى، جعل حياتنا صعبة. بالتأكيد ستسامحني في المستقبل، وتتمنى لي حياة جميلة”. استقرت بيان في أحد البيوت عند الساحل السوري، بعدما تعرفت إلى الشاب عند أحد الحواجز العسكرية في قلب دمشق.
يشير عماد ح. بيده إلى الأراضي السورية التي يصل إليها نظره، ويقول: “كل ما حولك يدعوك إلى الهروب، فالشباب يلاحقهم التجنيد والقتل والصراع اليومي من أجل لقمة العيش. سابقاً كنا نصارع من أجل لقمة العيش، لكنّ تأمينها اليوم محفوف بمخاطر القتل، عدا عن الاعتقال من أجل لا شيء. أنت متهم حتى تثبت براءتك إذا جرى إثباتها. هنا التهم جاهزة، أولها أنك طائفي التفكير والمعتقد. ومهما قلت وفعلت أنت متهم، فقط لأنك تعيش. أما الشابات، فيخفن من الاختطاف والاغتصاب والقتل والاعتقال. حياتهن لم تعد كالسابق. الكلّ يتذكر مقطع الفيديو الذي يخرج فيه أحد الشباب ليقول إنّ شقيقته تخرج في الثالثة ليلاً من دون أن يتحرش بها أحد، فسخر الجميع من المقطع. لكن، بالفعل، لم يكن شاب يتجرأ على النظر إلى شابة أو معاكستها من قبل”.
بدورها، تقول علياء ح: “يتهموننا أننا نهرب مع عشيق أو حبيب أو أي تسمية يريدون. قبل أن نهرب، يضرب الجميع بنا المثل، فلا ينتهي الكلام الجميل عنا. وفي حال هروبنا، نصبح الشياطين التي عرفوها. نتحول إلى بنات سوء في نظرهم. ولا يحاولون إنقاذنا مما نحن فيه. أعلم أن هروبي مع شاب خاطئ، لكنّ هذا الشاب فعل ما لم يستطع أخي أو أبي فعله، أخرجني من جحيم الحرب إلى وطن جديد”.
يفرّق المجتمع ما بين هروب شاب وهروب شابة. القيم الاجتماعية تحدد للأب والأخ ومن بعدهما الزوج مسؤولية رعاية الأنثى مهما كان عمرها وموقعها بحسب المتخصصة في علم النفس الاجتماعي سماح العبد الله. تقول لـ”العربي الجديد” إنّ هروب الشباب في الوقت الحالي من المناطق السورية مبرر أكثر من هروب الشابات في نظر المجتمع. الشاب معرّض في كلّ المناطق السورية لعمليات القتل العشوائية، فأي تنظيم مسلح مؤيد للنظام أم معارض يستهدف بداية الشباب ما دون العشرين وحتى الخمسين، عدا عن عمليات الاعتقال والتجنيد الإجباري في مناطق النظام، والإجبار والإكراه على الانضمام إلى فصائل مقاتلة في مناطق المعارضة.
تضيف العبد الله: “المجتمع نفسه لا يبرر هروب الشابة من الجحيم نفسه، فالشابات اليوم معرضات للمشكلات نفسها تقريباً. الاعتقال والتعذيب لأجل الانتماء الطائفي هو السبب الأول والتهمة الأعظم. لكن ما نراه في كثير من الحالات هو انعكاس أزمة الثقة بين الوالدين والشابة، على هروبها مع شاب”. تشرح: “عندما تنعدم طرق التواصل بين الوالدين والشابة، أو ولي الأمر والشابة، يصبح التواصل من طرف واحد فقط، يجري فيه نقل التوجيهات والأدوار من دون نقاش أو جدال، ومن دون أخذ وجهة نظر الشابات في شؤونهن الخاصة بالذات. وهو ما يجعل الشابة بحاجة إلى الحب والاعتراف والقبول وهذا غير محقق في الأسرة، ما يجعل انفصالها عن عائلتها أمراً بسيطاً، حين تغرق في عالمها المكتئب الخاص، وتصل إلى حالة اللامبالاة. حتى إنّ بعض الشابات يفكرن في الانتحار، إن لم يحاولن فعلاً، أو ينتحرن حتى. كلّ هذا الجو يدفع الشابة إلى الهروب من المنزل، من أجل وضع حد للصراع الذي تعيشه”. كذلك ترى أنّ الفقر الشديد من الأسباب الرئيسية التي تدفع الشابات بعيداً عن المنزل. هو يجعلهن يتطلعن إلى حياة أخرى مختلفة، خصوصاً مع ظهور دوافع وإغراءات خارجية.
قليل من الأرقام فقط
تلخّص الخبيرة، سماح العبد الله، أسباب الهروب من المنزل بالتفسخ العائلي، وأوضاع الحرب الخطرة، والأزمة الاقتصادية. تضيف: “لا ننسى، أيضاً، أصدقاء الشاب أو الشابة الذين يحرّضونهم على الهروب”. تتابع: “لا يصل إلينا إلاّ قليل من الأرقام، خصوصاً أنّ كثيرة من حالات الهروب يفضّل الأهل عدم الكشف عنها لأسباب أخلاقية”.
العربي الجديد