هـذه لاذقيتـي، وكـلّ مـا يحـدث زمـنٌ عابـر
هنادي زرقة
ما إن يتوقّف باص النقل الداخليّ على حاجز الجيش النظامي في مدخل المدينة حتى تنطلق التنهّدات: كم سيطول انتظارُنا! ينفتح الباب وأعدو خارجه.
يبدو رتل السيارات الواقفة بلا نهاية!
لا يلوح من المدينة سوى سارية طويلة يرفرف في ذروتها علم البلاد الأحمر والأسود ذو النجمتين الخضراوين. أحدّق بالسارية من دون أن ألتفت إلى أيّ شيء آخر. أشعر أنها تشدّني. ويُخيّل إليّ، في لحظة تالية، أنها ستسقط وتنغرز في صدري.
لا يخرجني من هذا الشعور سوى رجل يتكلّم على جوّاله بصوت مرتفع. أنتبه إلى ازدحام الناس المهرولين على الرصيف وإلى كثافة السيارات. أنتقل بخفّة إلى الطرف الآخر من الطريق السريع هامسةً لنفسي: إذا حدث انفجار على هذا الجانب المكتظّ بالسيارات والناس فسيكون الطرف الآخر أكثر أماناً وسأنجو.
أتمهّل قليلاً حين أقترب من عناصر الجيش على الحاجز. أمدُّ بطاقتي الشخصية إلى العنصر الذي ينظر إلى القيد المدني ومكان الولادة ولا يكترث لاسمي أو شكلي. وحدهما القيد المدني ومكان الولادة يكفلان مرورك الآمن في هذه المدينة!
بات منظر عنصر الجيش ببندقيته المصوبة مألوفاً، ولم يعد يقلقني، أنا التي أرتعد من سكين المطبخ. جميع من أراهم الآن جثث محتملة تحمل عصا خشبية وتمضي إلى حتفها دون دراية. ما يلفت نظري هو أعدادهم التي تتزايد يوماً إثر آخر.
منذ عامين أو ثلاثة، لا أذكر بالضبط، بدأوا بتجميل مدخل المدينة أسوة بالمدن السورية جميعها. زرعوا الأزهار الموسمية وأشجار الزينة. لطالما أضحكتني هذه الفكرة وذكّرتني بالنساء اللواتي يحرصن على نظافة مدخل البيت وغرفة الضيوف وترك المنزل كلّه دون تنظيف! لكنَّ اللافت في حديقة مدخل المدينة وضع بسطار عسكري مملوء بالورود الحمراء على جانبي الطريق.
غدا البسطار رمزاً هنا!
كان مقدّراً لهذه المدينة أن تعيش العنف كأخواتها، وربّما النزاع الطائفي المدبَّر. لكنّها بوعي أو ربما بخوف، تداركت أمر النزاع الطائفي، أو لعلّه تأجّل فحسب.. هذا ما لا يمكن التكهّن به الآن.
أجتاز الشوارع بسرعة غير مسبوقة. تقلقني الذكريات… أزيحها جانباً، لكنها تغافلني. أتلفّت إلى حجارة الرصيف، إلى أماكني التي أحب.
هل للمكان ذاكرة؟
غادر الذين عشقوا هذه الأرصفة.
غاب من أحبَّهم!
لم أعد أطيل التوقّف أمام الواجهات البلورية. بات النظر إلى المرايا يرعبني: لقد تغيّرتُ كثيراً! والحقّ، إنني كبرت عشرة أعوام في هذين العامين.
ازداد عدد المتسولين: أحدّث نفسي وأحاول التملّص من الذين يلحقون بي طالبين المعونة. لكن منظر الأطفال وهم يرجونك أن تعطيهم شيئاً، أي شيء، يبدو جديداً تماماً على هذه المدينة.
تعلو الأصوات وسط الشارع، تختلط اللهجات السورية حتى لا أكاد أميّز، الحلبية والحمصية والديرية… يعمل معظم القادمين من حلب سائقي سيارات أجرة وعليك أن ترشدهم الى وجهتك.
تعلو الأصوات وترتفع ويعلو معها صوت الأذان. تفرّ أسراب الحمام. أرفع بصري إلى السماء: هل ستنجو هذه المدينة؟ أنزل بصري بهدوء ليتسمّر على الشقق الفارهة المغلقة. لقد غادر أصحابها، فيما آلاف السوريين يرزحون تحت وطأة السماء.
لطالما كانت تأسرني مقاهي الرصيف في هذه المدينة. لكنني حين أرنو الآن إلى روّاد هذه المقاهي أرى أن الزمن قد توقف في لحظة ونسيهم، أو أنّهم اختاروا مغادرة الحياة. يُخيَّل إليَّ أنهم تماثيل شمعية على كراسي، لم تتبدّل هيئتهم منذ عامين، لكن أعدادهم تناقصت.
في جهة أخرى من المدينة، يمارس الناس حياتهم على النحو الذي اعتادوه، رغم مقتل أبنائهم الشباب «فداءً للوطن».
يلعب العجائز النرد على الشرفات ويحتسون المتّة. ولعلك تسمع سيارات تمرّ مسرعة تصدح عالياً بأغانٍ «تمجّد قائد الوطن» غير آبهة بالنعوات التي تتكدّس على الجدران وأعمدة الإنارة، تبدأ بعبارة «الشهيد البطل» تتلوها رتبته العسكرية، ثم «يد الغدر والإرهاب»، وكأن هؤلاء الشباب اختاروا موتهم بالرصاص قبل أن تتعدى أعمارهم الخامسة والثلاثين!
على مقربة من البحر، في جزء المدينة الغربي، ترى صورة أخرى للمدينة، مقاهي مكتظّة بشباب يرتمون في أحضان بعضهم بعضاً. يدخنون. يضحكون بأصوات عالية. كلّ شاب أمامه حاسوبه المفتوح على شبكات التواصل الاجتماعي. قد تحسب، لوهلة، أنَّ هؤلاء الشباب لا يعنيهم الجزء الشرقي من المدينة، ولا يهتمون بما يجري في مدن أخرى. لكنّ واقع الحال قد يفاجئك، فلهؤلاء الشباب موقفهم السياسي المستقل، وكثير منهم يعمل على إغاثة النازحين، لكنهم قرروا أن يعيشوا حياتهم مستمتعين بلحظات قد لا تتكرر وخائفين في الوقت نفسه من موت يترصّدهم. وفي هذا الجزء قد تسمع الموسيقى والأغاني الغربية تنطلق من السيارات الفارهة بما لا يقارن مع الجزء الشرقي، ستختلف أوراق النعي، إذ قلما تجد نعياً تبدأ بالشهيد البطل، لا يموت هنا سوى العجائز، يموتون ميتة طبيعية يحلم بها كلّ سوري بمن فيهم أنا.
قد تسمع في أي ّ وقت من الأوقات أصوات سيارات الإسعاف قادمة إلى المدينة وخارجة منها. يتكرر ذلك مرات في اليوم، لكنّ هذا الصوت لم يعد مقلقاً، ولن يكلّف المارة أنفسهم مجرّد النظر؛ لقد تعبوا وملّوا انتظارهم الطويل. يركلون رؤوسهم المتدلية إلى الأمام…. وفي قرارة أنفسهم لا ينفكّ السؤال نفسه يتكرّر بلا جواب: هل سننجو؟
في الجناح الجنوبي من المدينة، وفي الحي الذي شهد بدايات التظاهرات، لن تجد نعوات أو جنازات مهيبة. يدفنون موتاهم بصمت. وإن رأيت نعياً، فستقرأ «مات وهو في ريعان الصبا»، فلا مجال لذكر سبب الوفاة. ستدرك حينها أنّ الموت قد اختلف هنا. لن تجد أيّ لقب. لن تسمع موسيقى تصدح. لن ترى سوى حواجز عسكرية كثيرة وسواتر رملية عالية تزداد كلما توغلت في هذا الجزء من المدينة.
الفارق بين الرمل الشمالي والرمل الجنوبي الفلسطيني، وهما حيّان في هذه المدينة، هو فارق في وجهات النظر: تختلف الكتابات على جدرانهما، ومن يسقط في هذا الرمل فسيعيش في الرمل الآخر إلى ما وراء وراء الأبد. لم تعد الرياضة ما يفرّق ناديي «حطين» و«تشرين».
بيد أنَّ للبحر وكورنيشه الجنوبي قصة أخرى، تختلف عن كلّ ما سبق. ثمّة شباب وشابات من مختلف الأعمار يتسلقون صخور الشاطئ العالية، يلتقطون الصور، وآخرون أكبر سنّاً يصطادون. شاب يلف ذراعه حول حبيبته ويقبّلها بشغف متجاهلاً كلَّ ما يحيط بهما. يكمل الآخرون التقاط الصور. يرمي الصيادون سنانيرهم الخائبة مرة أخرى إلى البحر. أجلس على إحدى الصخور وأسند رأسي بكلتا يديَّ وأقول بصوت عال:
هذه لاذقيتي… وكلّ ما يحدث عابر في زمن عابر.
(شاعرة سورية)
السفير