هكذا يهتف شبان الحارات السورية.. ويلحّنون
فاطمة حوحو
يخوض السوريون اليوم عبر الاغاني غمار تجربة مميزة وفريدة في النضال لإسقاط نظام لعين بكل معنى الكلمة، نظام وضع “التطور” في ثلاجة “الممانعة”، لكن ضوء التغيير شعّ أخيراً هنا وهناك. أذاب البياض وأعاد للحياة ألوانها. هي تجربة اكتشفتها عبر “Link” على صفحة “الفيس بوك”، للمغني السوري المعارض وصفي المعصراني، الذي دفعني شريطه الى البحث عن هؤلاء المغنين الذين يملأون ساحات المدن السورية بصراخهم واغانيهم وبرقصات الحرية في التظاهرات لاسيما ايام “الجمعة”، قبل ان تأتي رصاصة “شبيح” لتصيب اجسادهم وتصيب قلوبنا، فنخضع مرغمين لحلمهم.
نشطت الأغنية الثورية في سوريا في الشارع، كما في مصر المشتعلة منذ ثورة “25 يناير”، وكذلك في تونس.
أغنية مختلفة عن الأغاني السياسية الملتزمة التي عرفناها خلال سنوات الحرب. اغنية موجهة الى الناس لا الى النخب. تلخص معاناتهم بحد أدنى من المهنية.
يقول ناشط سياسي في المعارضة السورية إن “مغنّي الثورة هم شباب من الأحياء الثائرة والمشاركين في التظاهرات السلمية. صوتهم من النوع المقبول، فيه حد بسيط من الجمالية يكفي ليكون مقبولاً من الجمهور الثائر، الذي يركز على الرسالة التي يريد المغني أن يوصلها إلى النظام أو الشعب أو الخارج أو أهالي الشهداء، وبالتالي تطغى الكلمة على نوعية الأغنية والتقنية التي تقدم بها”.
ويرى أن من الشروط التي يجب أن تتوافر في المغني قوة الصوت، والقدرة على الحضور الجذاب والحد الأدنى من الجمالية الصوتية والأهم من ذلك كله الشجاعة، لأن رأسه سيكون مطلوباً من النظام، سواء كان حياً أم ميتاً، وعائلته أيضاً ستكون معرّضة للملاحقة والمضايقات ولأعمال القتل.
ويقسم ناشط آخر مغنّي الثورة إلى قسمين؛ الأول هو “الهتِّيف” أو “العدِّيد” والثاني هم المطربون أو أنصاف المطربين التسجيليين من كل اتجاه سياسي الذين انتشرت أعمالهم على محطات التلفزيون التابعة للمعارضة وعلى شبكة “الانترنت” التي افردت مواقع خاصة لهذه الأغاني، كما فتحت صفحات خاصة بالمطربين وتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين الناشطين السياسيين السوريين والعرب المتضامنين معهم، لا سيما عبر مواقع “الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها.
ويوضح ناشط اتصلنا به عبر موقع للتواصل الاجتماعي أن “كُتَّاب الأغاني هم شباب الأحياء أنفسهم الذين يخرجون في التظاهرات”، مضيفاً أن “مَن يلقي الأغنية ويؤديها أمام المتظاهرين يكون غالباً هو مَن كتب كلماتها، وقد نجد أحياناً أن هناك مَن يكتب الأغنية ويؤديها شاب آخر يتمتع بأداء مميز وحضور وقدرة على الوقوف أمام الجمهور”.
ويشير ناشط آخر إلى أن كتّاب هذه الأغاني، هم في الغالب “هواة عاديون يعيدون ترتيب كلام على أوزان أغنيات معروفة لمطربين سوريين أو عرب، وهناك مبدعون مغمورون وجدوا في التحركات الشعبية إمكانية لإظهار إبداعهم وابتكار أبيات شعرية جديدة معبّرة عن حال الثورة والشعب”.
ويؤكد أن شرط النجاح في كتابة الأغنية هي “أن تكون قادرة على تصوير المعاناة اليومية والسياسية والثورية للشعب، وأن تتضمن رسائل واضحة معبّرة عن نبض الثورة، وأن يكون الكلام متزنا ومعبرا ومفهوما”.
ويرى الناشط السياسي أنه “بالنسبة إلى الألحان فإنّ الشارع ونبض المتظاهرين هما خير مساعد على ابتكار ألحان، أما في الاستديوات فهناك محاولات لإبداع حقيقي ومتطور بحسب الإمكانات المتوافرة”، موضحاً ان “ألحان هذه الأغنيات تكون عادة بسيطة لا تحتوي على الكثير من الحرفية والإبداع الموسيقي، إذ يكفي أن يكون اللحن متزناً وسهل السمع والأداء، لأننا غالباً ما نكون أمام هتافات ثورية تركز على المعاني بشكل تام مع اهتمام أقل بالأمور الفنية والموسيقية”.
ويضيف مستدركاً “هذا لا يعني الاستهتار باللحن، بل لا بد من توافر الحد الأدنى من الكلام والصوت واللحن ليكون العمل ناجحاً، الألحان المستوحاة قليلة، وأكثرية الألحان فيها إبداع وتأليف موسيقي قد يكون بسيطاً إلا أنه يكون جديداً”.
وتصل أغاني الثورة إلى الجمهور عبر التظاهرات الشعبية اليومية ويتم تناقلها من قرية إلى قرية ومن حي إلى آخر، كما أن أقنية التلفزيون تساهم في إيصالها إلى جمهور المنازل.
يقول الناشط السياسي: “يتم إنتاج أغاني الثورة في بيوت الناشطين السياسيين والمتظاهرين بالطرق المتوافرة، ومن ثم تعرض وتُغنّى في التظاهرات، ومَن يحكم عليها هم المتظاهرون أنفسهم، وتكون ناجحة بمقدار ما تجسّد الواقع والمعاناة وتعرِّي النظام المجرم القاتل والحاقد”.
وفي مقارنة بين طبيعة أغنية الثورة الحالية والأغنية السياسية الملتزمة التي كانت تنتشر سابقاً، يلفت أحد الناشطين المتابعين لهذا الملف، إلى أن ” الكثير من الأغاني السياسية التي كانت منتشرة جرى إعادة الروح إليها في التظاهرات وعاد مجدها مجدداً لأنها أصبحت ملائمة للانتشار في الأجواء الجديدة ومتماشية مع الأوضاع المستجدة. وهناك كثير من الأغاني التي خبا نجمها بسبب عدم تفاعلها بوجدان الشعب الآن”، موضحاً أن الأغنية المفضلة حاليا “هي التي تعبّر عن وجع الشعب وتصل إلى عمق جروحه ووجدانه ولا يهم في أي وقت تم غناؤها”.
ويشير آخر إلى تمايز بين أغاني الثورة والأغنية السياسية الملتزمة ما قبل الثورة وخلالها والتي أداها فنانون ملتزمون معروفون، لكن “هناك تقارباً ونقاط تشابه بينهم تزداد يوماً بعد يوم”، مضيفا “مهما كان التشابه كبيراً فالاختلافات قائمة. فالأغاني الثورية في الشارع ينشدها شبان وصبايا أقل تخصصاً أو أقل ملكية للأدوات والدعم المادي والتقني، كذلك فإنّ الأغاني الثورية أكثر صدقاً وصراحة وقسوة ازاء الطغاة وهي لا تراعي المرجعية السياسية كما تكون العادة في الأغاني الملتزمة”.
ويرى أن “الأغاني الثورية أكثر قرباً من معاناة الشهداء وأهالي الشهداء والبيوت المهدمة”، وبرأيه أيضاً أن هذه الأغنيات “هي الأكثر تعبيراً عن الواقع على الرغم من ضعف أدواتها”، مستدركاً “مع احترامي وتقديري للأغاني السياسية التي برأيي أيضاً تحاول الاقتراب والتشابه مع الأغاني الثورية المعبرة عن نبض الشارع، إلا أن هناك دائماً خطاً فاصلاً بينهما يعطي خصوصية لكل نوع”.
وصفي المعصراني، مغنٍ يواكب الثورة، لم يستطع البقاء حيادياً. وانتشرت أغنياته على صفحات “الفيس بوك”. غنّى مع حارس مرمى فريق “الكرامة” الحمصي المناضل الحمصي عبد الباسط الساروت ومع الشهيد محمد عبدالحميد الحمود الذي غنّى “يما مويل الهوا، يما مونيليا، ضرب الخناجر ولا حكم الأسد ليَ” قبل أن يُقتل، فمزج المعصراني صوت الشهيد بصوته في أول “ديو” غنائي.
يقيم وصفي في تشيكيا منذ 12 عاماً، لم يستطع تحمُّل ظلم النظام، غنّى وطالبه المتظاهرون بالمزيد. وكان يلبّي دائماً من دون خوف، يتعاون مع الساروت، ويتماهى مع أهازيج المتظاهرين، فيغنيها ويمزج في أغانيه الهتافات. يقول ان موسيقاه مرآة غضب، تعتمد على البيانو و”الترومبيت” و”الغيتار”، الآلات التي يجيد العزف عليها، وألحانه احيانا تعتمد على “الجاز” وتتصاعد كلمات الاغاني بصوته ذي البحة الساحرة. وصفي يعيد اليوم للأغنية السياسية مكانتها بعد تخلف فنانين سوريين آخرين عن القيام بدورهم في دعم الشعب في مواجهة النظام.
يسجل وصفي أغنياته في استديو صغير يملكه بمساعدة أصدقائه وزملائه في الفرقة، وهو جمع أغاني الثورة في ألبوم يعود ريعه إلى المحتاجين من عائلات الشهداء والمعتقلين والجرحى.
وتورد وسائل الإعلام معلومات ليست كثيرة، تحاول رصد الأغنيات الثورية في الشارع السوري، لتدعم المعارضة، ومن هذه الأغنيات التي نقلت كلماتها صحيفة “لوس انجلس تايمز” أغنية على طريقة “الراب” بيان رقم واحد وتقول: “بيان رقم واحد، الشعب السوري ما بينذل، بيان رقم واحد، أكيد هيك ما حنضل، بيان رقم واحد، من حوران جاءت البشاير، بيان رقم واحد، الشعب السوري ثائر”.
ويسعى معارضو النظام السوريون إلى توفير الإمكانات الفنية لإصدار أعمال معبّرة. فرياض غنام أنتج اغنية “الشعب السوري واحد” في القاهرة، والأغنية من كلماته وألحان محمود الشابوري وغناء المجموعة وتقول كلماتها: “الله عليك يا سوريا لما بتنادي ولادك، بدمهم ورموش عينهم يحموا ترابك، شهداء وناس كتير متغربين،
صغار وناس كبار متشردين، وشباب يسجن جلادك متعذبين، أطفال صغار ضوافرهم من لحمها متقلعين، دمهم مالي الشوارع مذبوحين، والثورة قامت من هنا يا مؤمنين، واحد واحد الشعب السوري واحد”.
في ليالي الثورة بحماه صدح صوت ابراهيم القاشوش في جمعة “ارحل يا بشار”، عندما غنّى “ارحل ارحل يا بشار”. ويقول فيها: “يا بشار حاجي تدور، دمك بحماه مهدور، وخطأك مانو مغفور، ويللا ارحل يا بشار، بدنا نشيلو لبشار، بهمتنا القوية، سوريا بدا حرية، سوريا بدا حرية، وبلا ماهر وبلا بشار، وهالعصابة الهمجية، سوريا بدا حرية، سوريا بدا حرية”.
كانت نهاية ابراهيم سوريالية. وُجد بعد أيام قليلة من تلك الجمعة مذبوحاً حيث انتزعت حنجرته بعد قطع عنقه بالسكين من الوريد إلى الوريد وتمزق جسده بالرصاص المتفجر ورمي في نهر العاصي. أصدقاؤه أطلقوا عليه لقب “بلبل الثورة السورية”. دفع ثمن كلمته، وهو يحيا كل يوم في أصوات المتظاهرين من حماه إلى حمص ودرعا وغيرها.
لم يقف الفنان السوري سميح شقير على الحياد. سميح الذي غنّى للقضية الفلسطينية، واكب ثورة تونس ومصر في أغنيات خاصة، وعندما انفجر الشارع السوري مطالباً بإسقاط النظام، ظلت عينه على التطورات، ومن باريس حيث يقيم للعلاج أطلق أغنية “يا حيف” ووجهها إلى شهداء الحرية في درعا وإلى أطفالها.
ومن كلماتها: “يا حيف، زخ رصاص على الناس العزل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف، كيف وأنت ابن بلادي وتقتل بولادي، وضهرك للعادي وعليّ هاجم بالسيف، وهادا اللي صاير يا حيف، وبدرعا ويايما ويا حيف”.