صفحات سوريةمحمد ديبو

هل النظام السوري ممانع حقاً؟

 

محمد ديبو

جاءت حادثة اختراق الطيران الإسرائيلي للمجال الجوي السوري وإطلاق النار على مركز للبحوث العلمية في “جمرايا” لتدق المسمار الأخير في نعش أيديولوجية الممانعة التي اعتمدها النظام السوري طيلة عقود سابقة في وجه محكوميه في الداخل، والمعترضين على سياسته في الخارج (إقليمياً ودولياً)، رغم احتفاظ النظام (كعادته!) بحق الرد في المكان والزمان المناسبين، لتزيد المفارقة السورية امتهانا وغرابة وسط أنهار الدماء التي تغرق فيها سورية.

والمفارقة السورية لم تعر النظام “الممانع” فحسب، بل امتدت لتكشف زيف أيديولوجيات وأحزاب ومثقفين طالما اقتنعوا بأيديولوجية النظام الممانعة وهللوا لها، حتى في اللحظات التي كان فيها النظام يدمر دولة الممانعة وشعبها عبر القتل والسجن لمجرد أنهم قالوا إن “سورية لينا وما هي لبيت الأسد”، معبراً عن ممانعته بـ” الأسد أو نحرق البلد” في الوقت الذي يحتفظ فيه بحق الرد ضد عدو سورية الأول!

ورغم صحة كل ما سبق، فإن الأمر يلقي الضوء على تراجيدية نظم الممانعة والمقاومة والمآل الذي آل إليه نموذج دولة التحرر الوطني أو “الفاشستية الشعبية” التي ساد الاحتفاء به في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، و التي رفعت شعار “الديمقراطية الشعبية” في وجه الديمقراطية الليبرالية، مع تقديمها مجموعة من الإصلاحات المتمثلة بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم والتعليم المجاني، ورفع شعار “استعادة فلسطين” لحصد قاعدة شعبية ستعينها كثيراً في توطيد أسس حكم توتاليتاري، ربما كان نظاما البعث في سورية والعراق هما التعبير الأكثر تكثيفاً ودلالة حوله.

إلا أن هذه النظم، ومنها النظام السوري امتازت برفعها شعار الممانعة ودعم المقاومة الذي لا تزال مقاربته على نحو علمي ودقيق تحظى بتشوش كبير وأدلجة وأدلجة مضادة تجعل من محاولة الفهم المعرفي للأمر أمراً محفوفاً بمخاطر ومصاعب كثيرة، إذ يصعب القول مثلا إن النظام السوري لم يدعم حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله الذي لولا الدعم السوري لما تمكن من الصمود في حرب 2006 وحماس 2008، ومن جهة ثانية يصعب القول أيضا إن هذا الأمر يصب في خدمة القضية الفلسطينية أكثر مما يصب في خدمة المحاور المتشكلة في الإقليم والحفاظ على سلطة تلك النظم الداعمة (إيران وسورية)، وهو ما يتجلى بكثافة في اللحظة الحالية.

يشرح الكاتب رايموند هينبوش في كتابه “سورية، ثورة من فوق” أن سياسة حافظ الأسد الخارجية تشكلت على بعد جوهري أساسي وهو مواجهة إسرائيل، حيث لم يوفر الأسد الأب فرصة إلا واستغلها لتحسين ميزان الصراع مع هذا العدو الذي شكل للأسد عقدة شخصية ووطنية طيلة حياته، إلا أن سقف هذه السياسة كان محدوداً بسلطة الأسد، بمعنى الذهاب في دعم المقاومة إلى الحد الذي تحسن أوراق الأسد التفاوضية فحسب، بغية الحفاظ على سلطته، إذ بمجرد تهديد السلطة والاستقرار السوري الداخلي يتم التراجع عن تلك السياسة أو تجميدها أو حتى المتاجرة بها إن اقتضى الأمر، وهو ما تجلى في محطات تاريخية عديدة.

لا يمكن قراءة الأمر بعيدا عن وضع نظام الأسد في ظل تحولات العالم، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، حيث فقد الأسد الأب الكتف التي كان يستند إليها لتعزيز “توازن القوة والرعب” بوجه إسرائيل، فاضطر للبحث عن بدائل أخرى وتقديم تنازلات تجلت في المشاركة بحرب الخليج والموافقة على مؤتمر للسلام برعاية واشنطن، في حين أن الأسد سابقاً كان بإمكانه الحصول على الجولان من خلال تسوية منفردة كما فعل السادات. البعض يرى أن دافع الأسد لم يكن ممانعا أو مقاوما بل الحفاظ على السلطة التي كان يرى أنها ستهدد حال وقع اتفاق سلام مع إسرائيل خاصة أن النظام السوري يقوم على بنية طائفية / علوية دون أن يكون علويا أيضا كما يحلو للبعض أن يقول.

هذه التناقضات بين المقاومة حقيقة والممانعة كأداة لا يمكن فهمها خارج سياق موازين القوى الدولية من جهة، وخارج سياق فهم طبيعة السلطة ذاتها في نظم الفاشستية الشعبية، التي تقاوم وتسعى للاستقلال والقيام بسياسات وطنية حين يسمح لها الظرف مقابل” الاندماج في المنظومة الدولية حين تفقد موازين القوى أي تتقلص لمجرد سلطة انكشارية، وهو ما عبر عنه سمير أمين في كتابه الأخير “ثورة مصر” حين قال: ” نظام الحكم يميل إلى أن يكون “برجوازيا” بمعنى أنه يسعى إلى أن يكون ناجحا في جمع السلطة والثروة، كما هو الشأن في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وإذا أتاحت الظروف بعض التقدم في إطار الانتماء إلى المنظومة الرأسمالية العالمية، أي بمعنى آخر إذا فتحت هذه الظروف مجالا للتحرك، فإن “البرجوازية” الحاكمة تتخذ مواقف وطنية في مواجهة الطرف الإمبريالي السائد عالميا. أما إذا أصبحت هذه الظروف غير ملائمة، فإن ” البرجوازية” نفسها تقبل التكيف والخضوع، فتصير كومبرادورية”.

إن محاولة إسقاط الكلام السابق على حالة النظام السوري وعلاقته بالممانعة والمقاومة ستعطينا فكرة واضحة عن آلية عمل هذا النظام الذي أصبح في سنواته الأخيرة يحكم من قبل برجوازية جديدة تشكلت في كنف النظام الاشتراكي السابق الذي حاول البعث إرساءه في سورية، حيث سنجد أن النظام فعلا دعم المقاومة حين كانت موازين القوى تسمح بذلك شرط أن لا تؤثر على سلطته وموقعه في الداخل، وكان يتنازل مباشرة في أوقات الضعف لتصبح الممانعة مجرد أداة للبقاء، وهو ما بات محكوما به منذ العام 2005 حين انسحب من لبنان مباشرة حين اشتد الضغط الدولي عليه، وعاد لدعم المقاومة (2006) لقلب الطاولة على الجميع حين سنح الوضع الدولي بذلك، وها هو يعيش محطة مترنحة من محطات ممانعته اليوم، وأغلب الظن أنها ستكون نهاية ورقة الممانعة للنظام السوري لأن الورقة تلك فقدت وظيفتها في الداخل منذ أن رفع متظاهرو مدينة درعا القريبة من الجولان السوري لافتة مرسوم عليها دبابة وسبطانتها موجهة نحو الداخل السوري مرفقة بعبارة: انتبه هنا درعا وليس الجولان!.

الايام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى