هل تصحّ الكرامة الإنسانية الإسكندنافية عربياً؟
صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب حرية – مساواة – كرامة إنسانية: طوباوية العدالة من منظور النموذج الليبرالي الإسكندنافي لمراد دياني (3688 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)، وفيه مقدمة وقسمان وخاتمة. في المقدمة، يقول المؤلف إنّ شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” غير دقيقٍ لما ينطوي عليه من خلط عميق بين مفهومي العدالة الاجتماعية والمساواة الاجتماعية، “فمفهوم العدالة هو مفهومٌ واسع يشتمل – ضمن أمور أخرى – على بعدي الحرية والمساواة معًا. ولذا فمكنون المطلب الجماهيري الثالث في هذا الشعار يخص بعد المساواة تحديدًا، في حين أن العدالة شاملةٌ لكل هذه الأبعاد”.
في رأيه، يوجز شعار “عيش، حرية، كرامة إنسانية” يوتوبيا “ميدان التحرير”، ميدان ثورة 25 يناير المصرية، بشكل مرض أكثر من أي شعار أو تيمة أخرى رفعت في تلك الثورة، واللحظة التاريخية التي تمثلها “طوباوية التحرير” تطرح أسئلة أكثر مما تجيب عنها، من قبيل المنظومة القيمية التي تستوعب التعددية القيمية في المجتمع، أو الشكل المجتمعي الذي يستوعب البعد الديني. ومن خلال عرض النموذج الإسكندنافي وتحليله في هذا الكتاب، يهدف دياني إلى استيحاء بعض عناصره غير الملتصقة بالسياق الذاتي لدول الشمال، “من جهةٍ لتبيان مدى واقعية اليوتوبيا العربية المعاصرة المتجسدة في رفع مبادئ الحرية والمساواة والكرامة بوصفها شعاراتٍ موجهة للحراك الاجتماعي الشعبي والثقافي، ومن جهةٍ أخرى من أجل السعي إلى تمثلها المعياري في سياقات ظرفيةٍ واقعية تنأى عن النموذجين الاشتراكي والرأسمالي اللذين ما فتئا يعطيان الدلائل والقرائن عن إخفاقهما المزمن في إرساء قواعد التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المتسق والمستدام”.
***
يطرح دياني في القسم الأول، استقاء النموذج الإسكندنافي في شقه الوضعي – رفاهية وإنصاف واستدامة، سؤال حقيقة وجود نموذج إسكندنافي مميز وقائم بذاته، “بمعنى: هل يوجد في الواقع نظامٌ اجتماعي واقتصادي يمكن أن نشير إليه على أنه نموذجٌ إسكندنافي؟ وهل ما يجمع البلدان الإسكندنافية في ما بينها كفيلٌ بإضفاء صفة نموذج على ترتيباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟”.
يتألف هذا القسم من ثلاثة فصول. يتناول المؤلف في الفصل الأول، تجليات النموذج الإسكندنافي: الاقتران المذهل للنجاعة الاقتصادية بالمساواة الاجتماعية والاستدامة، التجليات البينة للنجاعة الاقتصادية، والاقتران المذهل للنجاعة الاقتصادية بالمساواة الاجتماعية، والاتساق البيئي الإسكندنافي، والأوجه المتعددة للاستدامة الإسكندنافية، وثقافة السلم والانفتاح على الخارج. ويخلص إلى القول إنه ربما يتبادر إلى الذهن أن النموذج الإسكندنافي القائم على التضامن والتكامل والتكافل والتعاون ودرء النزاع وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة يصنع أفرادًا سلبيين متواكلين، “في حين أن ما يجري هو العكس تمامًا؛ إذ إن روح الاستقلالية والمسؤولية تظل هي السائدة لدى الشعوب الإسكندنافية”.
ويضيف: “عندما تلح الحاجة إلى الحفاظ على التماسك الاجتماعي العضوي، يمكن بشكلٍ طبيعي دمج معايير أخرى من غير النجاعة الاقتصادية في اتخاذ القرار، بدءًا من الفرضية المؤسسة الأولى أن ما هو عادلٌ أو منصف لا يتعارض بالضرورة مع ما هو فاعل أو ناجع”.
***
في الفصل الثاني، الأسس العميقة للنموذج الإسكندنافي: اللوثرية والحس المدني والمجتمع الأفقي، يرى دياني أنه لا يمكن أن نفهم جيدًا النموذج الإسكندنافي من خلال أنماطه الظاهرية فحسب، وإنما ينبغي سبر أغوار طرازه الأصولي أيضًا، فيسلط الضوء على أبعاد “الفولكهايم” و”قوانين جانت” واللوثرية والحس المدني بوصفها الأسس العميقة للنموذج الإسكندنافي، معالجًا الحس المدني والتوافق والإجماع، والثقة الاجتماعية، والمجتمع الأفقي المميز بالبساطة والتماثل والمساواة، ويصور المجتمعات التي تمشي على رجلين، ويعرض تحديات المجتمع الأفقي المساواتي والتوافقي.
أمّا في الفصل الثالث، آفاق توطن النموذج الإسكندنافي في السياق العربي: إشكالية تمييز الذاتي عن الكوني، فيتناول دياني جاذبية النموذج الإسكندنافي ومحاولات استلهامه، وبعض مكامن خلله، وما ينبغي تفادي اقتباسه، وما يستعصي اقتباسه، وما ينبغي السعي إلى اقتباسه، وقدرة النموذج على التكيف والتطور. يُجمل المؤلف الاستراتيجيات التي انتهجتها الدول الإسكندنافية في: التسليم بالمبادئ الليبرالية للسوق الحرة والمنافسة والمرونة وإقرارها أسسًا للنجاعة الاقتصادية؛ والتركيز على المعرفة والابتكار والجامعات والبحث والتطوير بصفتها قوى ناقلة نحو الاقتصاد الجديد؛ وتنفيذ إصلاح عميق للدولة قائم على مبادئ الكفاءة العمومية؛ والقدرة على تعزيز الثقة الاجتماعية والثقة في المؤسسات وسيادة القانون، واستقلالية الفرد بما يتفق مع منطق مجتمع السوق. ويقول إنّ هذه العناصر نتجت من بناء عقلاني متعمد، غير أنها في أساسها ذات طبيعة انبثاقية ناتجة من مسار تطوري يُبنى على آليات التنوع والانتقاء والاستبقاء التطورية، مؤكدًا – في ربطه ما سبق بالتغيير العربي – ضرورة مراعاة أمد التغيير وتفادي سياسة الحلول الجاهزة، “بمعنى أنه لا يمكن أن يدعي أحدٌ أن التغيرات ستأتي بين عشيةٍ وضحاها”.
***
في القسم الثاني، استيحاء النموذج الإسكندنافي في شقه المعياري – منظور الديمقراطية الجوهرية، يقول دياني إنه في حين تظل النظريات المعيارية والمشروعات المجتمعية القائمة في العالم العربي تفتقر اليوم إلى الرؤى التقدمية الواضحة لما يمكن أن تبدو عليه الديمقراطية الحديثة، فإن قيم التجارب الإسكندنافية ومبادئها تبدو قادرة على خلق مثل هذه الرؤية.
يتألف هذا القسم من ثلاثة فصول. في الفصل الرابع، من بناء الديمقراطية الإجرائية إلى انبثاق الديمقراطية الجوهرية، يقدم مقاربات إجرائية للديمقراطية، ويتناول المنظور الجوهري للديمقراطية، والديمقراطية الجوهرية في فكر طه حسين، وإشكالية التجسير بين الديمقراطية الإجرائية والديمقراطية الجوهرية، وأسس الديمقراطية الجوهرية من منظور التجارب الإسكندنافية. يقول: “يكتسي استقراء هذه النماذج الإسكندنافية القائمة على التداول والتبادلية والسعي إلى معايرتها أهميةً بالغة تتباين مع الأهمية التي أصبحت تكتسيها استطلاعات الرأي التي تكتفي باقتباس وجهات النظر المختلفة من دون أن تكون قادرةً على مواجهة بعضها ببعض. ومن ثم تبرز مخاطر تأثيرات ما يسمى بالرأي العام في الحكومات والمنظمات والمواطنين؛ الرأي العام الذي تكشفه استطلاعات الرأي انطلاقًا من الاختيارات الآنية غير المتجانسة والقابلة للتلاعب به”.
***
يعالج دياني في الفصل الخامس، روافد الديمقراطية الجوهرية من منظور العدالة الاجتماعية، مسائل عدة كالحرية بوصفها الرافد الأساسي للديمقراطية الجوهرية، والمسار المساواتي بوصفه الرافد المكمل للديمقراطية الجوهرية، والاندماج الاجتماعي والإخاء من حيث هي ملتقى روافد الديمقراطية الجوهرية، والديمقراطية بين القطيعة والوصل مع التقاليد والجماعاتية الأهلية، والديمقراطية الجوهرية من منظور العدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية.
وبحسب دياني تتمثل إحدى أبرز صعوبات الربط بين نظرية الديمقراطية ونظرية العدالة بفهم كيفية التوفيق بين القيود الخارجية الملزمة للإجراءات الديمقراطية، مع الاعتقاد بأنّ الديمقراطية هي أساس الأنظمة السياسية الشرعية. وقد سعى إلى تقديم مثل هذه النظرية عبر تصور العدالة بوصفها جوهرًا للديمقراطية، وعبر تصور الديمقراطية الجوهرية كمثالية تقدم بيانًا عن الضمانات الإجرائية والحقوق الأساسية.
في الفصل السادس، ديمقراطية امتلاك الملكية: الديمقراطية السياسية من مدخل الاقتصاد والاجتماع، يبحث المؤلف في الأمور الأولية لديمقراطية امتلاك الملكية، وديمقراطية امتلاك الملكية عند جيمس ميد وجون رولز وألكسي دو توكفيل، والتطويرات اللاحقة لنظرية ديمقراطية امتلاك الملكية، والانتقال من الديمقراطية إلى العدالة ووسائط الكرامة والاعتراف، وديمقراطية امتلاك الملكية في ضوء التجارب الإسكندنافية. ويقول إنّ ديمقراطية امتلاك الملكية تجسد إجاباتٍ عن العديد من الأسئلة الجوهرية التي تطرح اليوم في عالمنا العربي تجاه الملكية والفردانية والحرية الاقتصادية وتقسيم العمل والمواطنة وغيرها، وإنّ الديمقراطية الجوهرية من منظور العدالة الاجتماعية هي الأقرب للإجابة عن سؤال تجسيد “طوباوية التحرير”، وإنّ الديمقراطية الشكلية تظل محدودةً بحدود الإجراء السياسي، في حين تصل الديمقراطية الحقيقية إلى مستوى دمقرطة الجوهر الاقتصادي عبر إرساء مجتمع متساوٍ اقتصاديًا، لتبدو المساواة السياسية ثانوية جدًّا.
***
في خاتمة الكتاب، وعنوانها نحو “طوباوية واقعية” مؤسسة للمستقبل العربي المرتجى، يرى دياني أنّ جميع اليوتوبيات تظل بعيدة المنال، أي أنّ دورها الأساسي يتمثل في الأساس بتدمير قرائن الوجود، وإجراء إزاحة للواقع. وبعبارة أخرى، أهم شيء بالنسبة إلى اليوتوبيا ليس هو تخيل مجتمع سعيد ينحو إلى الكمال، بل هو في المقام الأول التملص من الواقع، من ثقله وتحجره، فاليوتوبيا لها بالدرجة الأولى وظيفة رفع وزن الواقع أو ما يقدم على هذا النحو. ومن أجل التملص منه، تعمد اليوتوبيا إلى إزاحته، وتحريكه، من أجل لمح الغيرية، أي الوجود المغاير.
ويضيف: “حين نعرض معالم يوتوبيا التحرير في ضوء النموذج الإسكندنافي، نتلمس البون الشاسع الذي يفصلنا عن تمثلها على أرض الواقع، ولا يسعنا سوى أن نحلم باليوم الذي نعتمد فيه إصلاح سوق العمل مثل الدانمارك، أو إصلاح الصحة والتعليم مثل فنلندا والسويد، فضلًا عن تمكين المرأة في النرويج، أو تحرير الأسواق والتجارة الحرة والخصخصة كما فعلت هذه البلدان. كما نظل والهين أمام تصور يومٍ يقبل فيه المواطن العربي نسب الضرائب العالية جدًا، بل يشجعها عن طيب خاطر، في مقابل تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، كخطوةٍ أساسية في اتجاه تثوير الأوضاع القائمة وإصلاحها”.
ويختم دياني كتابه متمنيًا: “وكما أن البلاد الإسكندنافية استطاعت أن تبدع في ثلاثينيات القرن الماضي (نحن) جديدة، ملائمة للعصر وتطورية وموصولة بموروث الماضي في آنٍ معًا، على أساس طوباويةٍ واقعية، (بيت الشعب)، فمن شأن طوباوية التحرير (عيش، حرية، كرامة إنسانية) أن تشكل طوباوية واقعية، (حرية، مساواة، كرامة إنسانية) تؤسس للمستقبل العربي المرتجى”.
ضفة ثالثة