هل تكون الثورة المصرية الثانية ضد التشدّد الديني؟
دلال البزري
في الأسابيع الاولى من إنتصار الثورة المصرية ارتفعت أصوات من هنا وهناك تطالب بالغاء المادة الثانية من الدستور، القاضية بأن “الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع”، واستبدالها بمادة تقر بأن الأديان السماوية والاتفاقات الدولية والقوانين الوضعية، هي مصدر التشريع. ردّ الاسلام السياسي بكافة تنويعاته على هذه المطالبات كان واضحاً وشديداً. القيادي في الاخوان المسلمين، الدكتور عصام العريان، حرّم مناقشة هذه المادة، وأعلن انها “فوق دستورية”. فيما عبود الزمر، الجهادي المتهم بالتخطيط لاغتيال السادات والذي أُطلق سراحه مؤخرا، أصدر فتوى بتطبيق تعاليم الشريعة الاسلامية وبضرورة قطع يد السارق الخ. وعلى المنوال نفسه نسج الدعاة و”المفكرون” الاسلاميون.
الأخذ والردّ حول هذه المادة كان يمكن ان يتحوّل الى سجال لو لم تحضر معركة أخرى مرتبطة به، ولكنها أعمّ وأشدّ الحاحاً؛ هي معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية.
هذه التعديلات رأس لجنة صياغتها طارق البشري، وهو ذو توجه اسلامي؛ وكان من أعضائها صبحي الصالح، وهو نائب سابق عن الاخوان المسلمين. تناولت التعديلات بضعة بنود، فقلّصت ولاية رئيس الجمهورية الى فترتين فقط، كل منها اربع سنوات، وقيّدت صلاحية رئيس الجمهورية في حلّ البرلمان وإعلان حالة الطوارى، وفتحت باب الترشيح لرئاسة الجمهورية أمام القادرين على جمع تواقيع 30 الف مواطن أو ثلاثين عضوا في البرلمان.
الذين صوّتوا بنعم على هذه التعديلات كانت حيثياتهم العلنية إجرائية: قالوا ان هذه التعديلات سوف تفتح الطريق أمام انتخابات برلمانية بعد شهور قليلة وانتخابات رئاسية ايضاً. وهم رأوا فيها اختصارا للمرحلة الانتقالية القائمة الآن، نحو استقرار ورخاء اقتصاديين. اما الرافضون فرأوا فيها “ترقيعاً”، يبقى على صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية؛ وان نتيجتها سوف تفضي الى التعجيل بالانتخابات البرلمانية، ما سيقود الاخوان المسلمين وحلفائهم، وبتأييد ومن الجيش، الى الفوز السهل بها.
أبرزت الحملة من أجل إنجاح التعديلات الكتلة الاسلامية الجديدة المكوّنة من الاخوان اساسا، فضلا عن حلفائهم من سلفيين وجهاديين وفلول الجماعة الاسلامية ودعاة حزب “العمل” الاسلامي وحزب “وسط” الذي نال ترخيصه بعد الثورة. بين ما جمع هؤلاء ان التصويت بـ”نعم” على التعديلات هو ” التكليف الشرعي”، وان الرافضين له يستهدفون “محاربة الشريعة الاسلامية وحذف مرجعيتها من الدستور”. الداعية السلفي محمد حسين يعقوب وصف انتصار الـ”نعم” على الاستفاء بـ”غزوة الصناديق”، واعتبر ان التصويت بـ”نعم” يحمل اشارة الى بقاء المادة الثانية من الدستور، التي وصفها بأنها “قضية حياة أو موت بالنسبة للسلفيين”. باختصار، الحملة المؤيدة للتعديلات الدستورية أفهمت المصوتين على الاستفتاء بأنهم ذاهبون للتصويت على المادة الثانية من الدستور.
هناك احصاء لتوزّع أصوات المستفتين بحسب المحافظات، قام به “مركز الشرق للدراسات الاقليمية والاستتراتيجية” خلص الى: صوّت في هذا الاسفتاء 19،41% من اصل 45 مليون مصري يحق له ذلك. 2،77% منهم قال “نعم” للتعديلات و8،22% قال “لا”.
وبحسب تحليل الاحصاء بدا ان أعلى نِسَب تصويت بـ”نعم” كانت في المحافظتين النائيتين، الوادي الجديد ومطروح، البعيدتين تقليديا عن أي تغير ثقافي أو سياسي في العاصمة. المجموعة الثانية هي المحافظات الريفية بشمال مصر، مثل كفر الشيخ والشرقية والقليوبية والدقهلية، حيث انتشار للثقافة التقليدية والميل نحو “الاستقرار”، وهي خاضعة لتأثير قوي من الاخوان والسلفيين. محافظة البحيرة هي الاستثناء في هذه المجموعة؛ و”المركز” يحيل هذا الاستثناء الى وجود قاعدة صناعية عمالية في عاصمة المحافظة، وهي مدينة المحلّة الكبرى التي شهدت إرهاصات الثورة، قبل عامين، في 6 نيسان (ابريل) 2008. الثالثة في قائمة الـ”نعم” هي المحافظات الريفية في جنوب مصر: اسيوط، سوهاج، المنيا. حيث الكتلة التصويتية المسيحية فيها، الرافضة للتعديلات، وضعتها في الدرجة الثالثة. وفي هذه المحافظة قرية إطفيح التي شهدت قبل الاستفتاء أعمال عنف طائفي قام بها سلفيون. تليها محافظات منطقة السويس وجنوب سيناء التي تختلط فيها الحيثيات بين سياحة وغبْن تاريخي. ولكن المهم في النتائج كان في الحواضر الكبرى مثل القاهرة والاسكندرية، التي كانت في أدنى سلم التصويت بـ”نعم”. ويعتبر “المركز” ان لهاتين الكتلتين القدرة التصويتية الأقوى ضد التعديلات، فهما تمثلان القلب الديموغرافي الحضري الأكبر في مصر، حيث تتبلور الطبقتان المتوسطة والعليا ذات المستوى الاقتصادي والتعليمي والثقافي الأعلى.
اذن يتوضّح شيئاً فشيئاً تياران واسعان: الاول، وهو الاغلبية، يريد المحافظة على الدستور بتعديلاته الطفيفة، ويصارع، خلف هذه التعديلات، من اجل الابقاء على “إسلامية” الدولة دستوريا، وبالتحالف ربما مع فلول النظام الآفل، وبانسجام يتّضح شيئا فشيئا مع توجّهات الجيش. والقاعدة العريضة المصوّتة لها تختلط بداخلها النزعة المحافظة الريفية والأمية، قلّة التعلم وانعدام التنمية، الاقتصادية والثقافية.
والذي يفصل الكتلة الكبيرة والمنظّمة عن الاقلية غير المنظمة، الرافضة للتعديلات والتواقة الى دولة مدنية، هو إما اعتبار طائفي؛ كأن يكون المرء مسيحيا قبطيا، ولا يرضى بأن يكون الحكم الجديد أكثر تهميشا لمواطنيته من الحكم السابق. إما اعتبار طائفي اذن، أو اعتبار ثقافي؛ كأن يكون المرء ليبرالياً، أو يسارياً، أو ديموقراطياً، أو ناصرياً أو علمانياً (وهذه صفة الأخيرة تنعتها المجموعات الاسلامية بالكفر). المعركة بين المعسكرين ارتفعت درجة زخمها بعد الاستفتاء، ونتائجه ملأت المجموعات الدينية شعورا بأنها على قوب قوسين أو أدنى من استلام السلطة. بالرغم من كل تصريحات الاخوان، من انهم لن ينالوا، بمعنى لن يرغبوا بنيل “أكثر من 30% من البرلمان”…!. ولكن كل يوم جديد يطلّ على مصر يجلب معه إشارات اخوانية وسلفية تناقض هذا التواضع الانتخابي التكتيكي المقصود…
يستفيد الاخوان والسلفيون بالطبع من الإرث الذي خلفه العهد المباركي: مجتمع تأسْلم على وقع ضربات النظام ضد الاخوان، كانت تليها أو توازيها تعزيزات إعلامية وثقافية للنظام يدعم التوجه الديني، بنفحات تبدو أحيانا متجاوزة الاخوان باسلاميتها. انها المزايدة الدينية الشهيرة التي دشّنها السادات، وتبعه مبارك وكافة الحكام العرب من ثم. يضعون الفزاعة الاسلامية امام اي احتمال لتنحيتهم، ولكنهم في الوقت نفسه يؤسلمون المجتمع. الأثقل في هذا الارث هو نسبة الامية التي بلغت في مصر، 45% بالنسبة للاحصاءات الرسمية، و65% لغير الرسمية.
مهمة الأقلية ضمن هذا المشهد ليست بالسهلة. انها بمثابة التتمة الطبيعية لثورة 25 يناير، أو الثورة بعد الثورة. الذين نزلوا في ذاك اليوم التاريخي كان مطلبهم الحرية، والتديّن الذي ظهر اثناء الثورة كان تدينا منفتحا متسامحا، لا يشبه التدين الاخواني والسلفي الذي يزيد تشدّداً كلما عظم احساسه باقتراب نيله السلطة.
ليست المهمة سهلة ولا مستحيلة. فالغطاء الذي رفعته الثورة عن العهد القديم هو غطاء الشرعية. كانت شرعية النظام السابق مفقودة، يعوّض عنها النظام بالهروب بعيدا في تشجيع الأسلمة. اما اليوم، فالشرعية انتقلت الى ايدي الشعب، مبدئيا على الأقل. والذين يريدون ربح الانتخابات سريعاً، سوف يلعبون على وتر الأسلمة خير لعب، ولكن لن يكون هناك من يزايد عليهم. لن يكون هناك بالتالي ضياع للمسؤولية عن الذهاب بالأسلمة الى أبعد ما تسمح به مصالح الشعب، صاحب الشرعية الجديدة.
فهل تفلح الأقلية بالدفاع عن هذه المصالح المهدّدة؟ هل تحتاج، من اجل ذلك الى الخوض في ثورة ثانية؟ وهل تكون هذه الثورة الثانية شبيهة بالاولى؟ على نفس وتيرتها ومسلكها؟ أم تحتاج الى نَفَس آخر، الى أشكال أخرى من التعبير والتغيير؟
المستقبل