صفحات العالم

هل دخل الربيع العربي مرحلة التسويات؟


 نقولا زيدان

يسود اعتقاد يزداد رسوخاً واتساعاً لدى الجماهير العربية ابتداء بالنخب وانتهاء بالفئات الشعبية الأكثر فقراً وتهميشاً بأن الربيع العربي الذي بدا واعداً ومشبعاً بالآمال والطموحات قد بدأت تعتريه ظواهر الذبول والاكفهرار. ذلك أن الانتفاضات العربية قد بليت على جدتها ونضارتها، فجذوتها المشتعلة قد أصابها الوهن والضعف والسقوط في خط انحداري يصل لحدّ الانكفاء والتراجع. فالمجتمعات العربية ما زالت تحمل في طياتها وثناياها عوامل التخلف على تلاوينها من عصبيات قبلية وعشائرية وجهوية، وأمية وجهل وانقسامات دينية ومذهبية عصية تردها على الدوام الى ماضٍ ولّى عهده. فليس التهافت على شراء الحواسيب المتطورة ولا الكومبيوترات ولا الهواتف النقالة بنسبة هائلة هو الدليل على دخول الحداثة والعصرنة إنما التغيير العميق في البنى الفوقية، في الفكر والثقافة والحالة العقلية والقوانين هو المعيار والدليل. فالبنى الفوقية هي مجموعة القوانين والدساتير التي تسود في مجتمع ما وتعكس بالضرورة سيطرة فئة اجتماعية معينة تفرض قوانينها ودساتيرها وقيمها الفكرية والأدبية، ما دامت هذه الطبقة هي التي تملك وسائل الانتاج والتبادل.

إن الانتفاضات الشعبية، التي أطاحت بالأنظمة السياسية والعسكر الممسك بالسلطة طيلة عقود زمنية طويلة، لم تترافق فعلياً مع التبدل المنشود والتغيير الضروري والوعي الذي لا بد منه ولا مفر عنه، فالجماهير ما زالت تعشش فيها المفاهيم والأفكار القديمة البالية. وقد شاهدنا وما زلنا كيف استطاعت قوى الثورة المضادة والسلطة البائدة، بعد المد الجماهيري الصاخب والساخط الذي أطاح بها، أن تعود لتمسك بزمام الحكم وذلك تحت شعارات جديدة في الظاهر لكنها قديمة بالية في المحتوى والمضمون. ففي المغرب الأقصى بعد التسوية التي عقدها النظام الملكي مع القوى الإسلامية تم إقصاء القوى الديموقراطية والراديكالية عملياً خارج الصفقة التي أبرمت، وإذا بهذه القوى الإسلامية نفسها التي شكلت الحكومة تغرّق في ممارسات قمعية وتكشّر عن أنيابها، فإذا بالأكلاف المعيشية وبالأسعار ترتفع في شهور معدودة بوتيرة جنونية، فتخرج جماهير الفقراء والمعوزين والعمال والفلاحين الى الشوارع غاضبة منددة بالسلطة الجديدة.

أما في ليبيا. فقد تكشف الوضع الجديد بعد سقوط نظام القذافي عن مشكلات هائلة عصية غير قابلة لحلول جدية ناجعة: الميليشيات المسلحة التي تجوب البلاد والمدن التي تفتقد الى قيادة سياسية موحدة والتي تطالب بتأمين العمل وبدخل شهري يؤمن لها قوتها اليومي بعد سقوط “الطاغية”، لا يتم استيعابها في الجيش ولا تشغيلها في المرافق البترولية المتخمة بالموظفين التي سارعت الشركات الأجنبية للاستيلاء عليها. الصراعات القبلية والعشائرية الدموية التي تعجز السلطة عن ايجاد حل لها. السلطة الجديدة التي لا تملك برنامجاً لأي إصلاحات جدية تنهض بالبلاد المثخنة بالدمار الذي خلّفته حرب التحرير. بروز الاتجاهات الانفصالية والجهوية بطروحات وشعارات فدرالية.

حقاً: لم نعد نعرف الآن بالضبط من يمسك هناك بزمام السلطة!.

أما في تونس فقد صحت البلاد بعد وصول حزب النهضة المعتدل الى السلطة على أزمة سياسية اجتماعية خانقة. فمن جهة يضغط السلفيون المتشددون لفرض تطبيق حرفي للشريعة الإسلامية، ومن جهة أخرى تقاوم القوى الديموقراطية للحفاظ على المكتسبات العلمانية الموروثة من نظام بورقيبة الليبرالي. هذا وسط انتشار يزداد حدة للبطالة والفقر والتعاسة الاجتماعية.

أجل لقد أنجزت في اليمن التسوية الداخلية للأزمة برعاية خليجية سعودية وبركة أميركية واضحة المعالم. لقد أقصي عبدالله صالح عن السلطة لكن الأزمة الداخلية ما زالت على حالها في وقت أصبح هم السلطة الجديدة اجتثاث جيوب تنظيم “القاعدة” المعشش في مناطق عدة وإدارة الأزمة من خلال تسوية بين الفرقاء المتصارعين.

وتبقى مصر هي بيت القصيد في الربيع العربي المتعثر، حيث وصل الاخوان المسلمون الى السلطة بل لتقاسم السلطة مع المجلس العسكري الأميركي الولاء. لقد تم إقصاء القوى الديموقراطية والقومية بعيداً عن السلطة والبرلمان، هذا البرلمان نفسه الذي قام المجلس العسكري بحلّه نظراً لعدم دستوريته. فالرئيس الجديد المنتخب لا يملك صلاحيات واضحة ومحددة، وعليه أن يتصدى لأزمة اقتصادية معيشية خانقة، وغير قادر على تطبيق أحكام شريعة إسلامية صارمة في بلد بحاجة ماسة للاستقرار وهو الشرط الضروري لإحياء السياحة التي تشكل المصدر الثاني للدخل القومي المصري بعد عائدات قناة السويس. والأحكام الحرفية للشريعة والتشدد فيها من شأنه تعطيل السياحة، لا بل يتعارض مع نسبة سكانية من الأقباط والمسيحيين لا يُستهان بها، فلا تتكرر في مصر تجربة السودان الوخيمة العواقب. ثم أن القوى الديموقراطية والقومية العلمانية في مصر وازنة. كما أن أنصار النظام البائد ما زالوا أقوياء، والدليل أن مرسي كاد يُهزم في انتخابات الرئاسة أمام أحمد شفيق آخر رئيس للوزراء في عهد مبارك.

فمن تسوية تقاسم السلطة مع المجلس العسكري الى تسوية أخرى لتولي إحدى الشخصيات المستقلة رئاسة الحكومة، الى ضرورة الوصول الى تسوية ما مع المجلس الدستوري الأعلى حول حل البرلمان، لقد أضحت مصر بلد التسويات المؤقتة لتصبح بحق بلداً متخماً بالتناقضات.

أخيراً يبدو الربيع السوري مرهوناً بتسوية دولية، فالنظام الأسدي الدموي راح يفقد السيطرة على معظم الساحة السورية و.. يتخبط بين محاولاته تصدير أزمته الى لبنان فيصطدم بوصاية حزب الله والرعاية الإيرانية المشغوفة بالوضع اللبناني، ومحاولاته تأجيل سقوطه بالتحرش المتعمد بتركيا (إسقاط الصواريخ الروسية للمقاتلة التركية) وحلف الأطلسي غير الراغب في التورط في حرب إقليمية ذات أبعاد دولية، وذلك بانتظار صفقة أميركية روسية يتطلب إنجازها التضحية بالأسرة الأسدية الحاكمة وصولاً الى تسوية تضمن للروس مصالحهم بل للنظام الإيراني أيضاً الذي يصر الروس على حضوره مؤتمر جنيف المصغر غداً السبت في 30 حزيران للبحث في مستقبل الوضع السوري المتداعي.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى