هل ستغير معركة إدلب التفاهمات العسكرية والسياسية؟/ حسين عبد العزيز
اختبارات أستانا
تحالفات مهددة
مآلات سوتشي
هل معركة إدلب معركة تكتيكية يراد منها تحقيق إنجاز سياسي؟ أم إنها تحمل في طياتها أبعادا أكثر من ذلك تعيد إلى الأذهان ما حدث في حلب بالأمس القريب؟ وهل ستكون هذه المعركة فاصلا زمنيا بين مرحلتين بحيث تترتب عليها توازنات عسكرية وسياسية جديدة؟ أم إن ما يجري لن يؤثر على اتفاق مناطق خفض التوتر؟
لمعركة إدلب خصوصية تختلف عن بقية المحافظات بسبب الحضور التركي المباشر فيها، وبسبب التشابك الحاصل على الأرض بين قوى تُصنّف “إرهابية”، وفصائل إسلامية معتدلة، وفصائل معارضة وطنية.
اختبارات أستانا
بدا واضحا منذ اجتماع “أستانا 7” أن روسيا اكتفت بتحديد حدود مناطق خفض التوتر ووقف إطلاق النار وإن لم يكن بشكل كلي، وتقاعست بوضوح في تثبيت التوافقات حول آليات المراقبة، في حين رفضت تبادل الخرائط مع تركيا وفصائل المعارضة.
فإما أن روسيا وضعت فخا للأتراك والمعارضة، أو أنها خضعت لضغوط دمشق وطهران بأن اتفاق مناطق خفض التوتر الحالي غير مقبول، لأنه يضرب بانتصارات النظام العسكرية عرض الحائط بسبب مساواته بين الطرفين، ويسمح للمعارضة بالسيطرة على مساحات تعتبر من وجهة نظر دمشق وطهران خطيرة (ريف حماة الشمالي، ريف حلب الجنوبي، ريف حلب الغربي، إدلب).
وبحسب اتفاق مناطق خفض التوتر، فقد قُسمت إدلب إلى ثلاث مناطق جغرافية:
1- شرق سكة الحجاز وحتى الحدود الإدارية لمحافظ حلب، وتكون هذه المنطقة منزوعة السلاح وتخضع لسيطرة الأهالي على أن تنتشر فيها قوات شيشانية خفيفة، فيما تنتشر قوات روسية وإيرانية خارج حدود إدلب في محافظة حلب.
2- منطقة غرب سكة القطار وحتى الطريق الدولي حلب/دمشق تكون تحت سيطرة فصائل المعارضة مع انتشار لنقاط مراقبة تابعة للجيش التركي.
3- منطقة غرب الطريق الدولي حلب/دمشق، وتمتد إلى كامل محافظة إدلب باتجاه الغرب، وهي منطقة سيطرة “هيئة تحرير الشام”.
إذا كانت اجتماعات أستانا قد حددت خريطة جغرافية مقسمة لإدلب، فإنها لم تحدد ماهية منطقة شرقي سكة الحجاز في إدلب.
لقد تُركت منطقة شرقي سكة الحجاز منطقة خالية من أي وجود عسكري للمعارضة، ولم تقم روسيا بنشر قوات لها كي تكون حاجزا أمام أي طرف للتقدم إلى هذه المنطقة.
لم يكن هذا التوزيع اعتباطيا، فليس صدفة أن تفاصيل الاتفاق حول شرقي إدلب ظلت سرية وبعيدة عن أعين الإعلام أشهرا عدة، كما لم يكن بالإمكان لعملية عسكرية من هذا النوع أن تتم دون علم تركيا، وربما هذا ما يفسر تأخر الأتراك في ردود فعلهم، فعندما استشعروا أن هجوم النظام قد يتخذ أبعادا تتجاوز الخطوط الحمر بدأت أنقرة التحرك سياسيا، ثم عسكريا عبر دفع المعارضة لتشكيل غرفة عمليات موحدة.
وتصريح المتحدث باسم القاعدة الروسية في حميميم ألكسندر إيفانوف يؤكد أن ما يحدث يتم ضمن التوافقات بين الثلاثي الضامن لأستانا، فقد قال إن “على تركيا أن تعي تماماً أن الهجوم الذي تشنه القوات الحكومية -بدعم من القوات الجوية الفضائية الروسية- في منطقة خفض التصعيد بإدلب لا يتنافى مع بنود الاتفاق (خفض التوتر)”.
إن ما يجري الآن في إدلب له ثلاثة أهداف:
1- النظام لديه مصلحة في الوصول إلى مطار أبو الضهور العسكري كي تكون قاعدة انطلاق له في عمق الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة، فضلا عن أن السيطرة على هذه القاعدة ستسمح له أيضا بشق طريق عسكري يمتد شرقا نحو بلدة الحاضر في ريف حلب الجنوبي.
وسيكون هذا الطريق العسكري بمثابة حاجز يفصل بين قوات المعارضة في ريفيْ حلب الجنوبي والغربي. كما يسعى النظام إلى السيطرة لاحقا على الطريق الدولي حلب/دمشق، لما له من أهمية اقتصادية وعسكرية ومعنوية.
2- بالنسبة لإيران، فإن هدفها هو الوصول إلى بلدتيْ كفريا والفوعة المحاصرتين منذ سنوات.
3- أما روسيا فهدفها سياسي، ويتمثل في الضغط على المعارضة وتركيا لحضور ودعم مؤتمر سوتشي، بعدما شهدت موسكو تراخياً تركياً في هذا الموضوع.
تحالفات مهددة
إذا كانت الأزمة السورية سببا رئيسيا في التقارب بين روسيا وتركيا، فإنها يمكن أن تكون سببا في تباعدهما، وقد كشفت الفترة الأخيرة وجود خلافات قوية، سواء على مستوى أستانا، أو في جنيف، أو بشأن سوتشي.
ويبدو أن تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بأن بلاده ستعقد اجتماعا لوزراء خارجية الدول التي تتشاطر معها المواقف من الأزمة السورية، يحمل دلالات سياسية تفيد بأن أنقرة مضطرة إلى توسيع خياراتها وعدم حصرها في الروس.
ومع ذلك، لا يُتوقع أن تتطور الأمور إلى حد سقوط اتفاق مناطق خفض التوتر ونهاية التفاهمات الروسية التركية، لأن ذلك سيقضي على جهود موسكو في اجتراح مسار سياسي جديد، وسيضع تركيا في نفق مظلم مع انعدام أية خطة عسكرية واقعية لها وللمعارضة.
بالنسبة لموسكو، فهي ليست في وارد الانقلاب على التفاهمات مع أنقرة مع انعدام وجود شريك قوي وفاعل في الجانب الآخر تستطيع معه ترتيب المشهد السوري في الحدود الممكنة. وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لأنقرة، فهي لا تستطيع الحفاظ على مكتسباتها أو تحصيل مكاسب أخرى إلا عبر البوابة الروسية بعدما أوصدت البوابة الأميركية.
صحيح أن القدرة الروسية وصلت إلى نهايتها تقريبا، وأن حل الملف الكردي مرتبط بالولايات المتحدة وليس بروسيا، إلا أن الأتراك لا يستطيعون المخاطرة بالانتقال إلى الغرب مع غياب أية ضمانات أميركية تلبي حاجات أنقرة، خصوصا إذا تعلق الأمر بقضايا عسكرية.
ولذلك ستتعامل تركيا مع معركة إدلب وفق الإمكانيات المتاحة، وبالنسبة لها يعني وصول النظام إلى الطريق الدولي حلب/دمشق تغييرا في معادلات الصراع داخل المحافظة، بحيث يتمكن النظام -عند أي مفترق طرق دولي- من الانقضاض على ما تبقى من إدلب، الأمر الذي يعني خسارة تركيا لموطئ قدم مهمّ في الشمال الغربي لسوريا.
كما أنها لا تريد خسارة القوى العسكرية الموجودة في المحافظة، في وقت تسعى شيئا فشيئا إلى سحب البساط من تحت أقدام “جبهة النصرة” (سابقا- هيئة تحرير الشام حاليا)، وإطلاق معركة كبيرة ضد إدلب ستضع الفصائل في جبهة موحدة مع “هيئة تحرير الشام”، وهذا ما حصل.
خيارات محدودة
المشكلة أن خيارات تركيا محدودة في معركة إدلب، وكل ما يمكن أن تقوم به -غير القنوات الدبلوماسية- هو توحيد صفوف الفصائل وإمدادها بدعم عسكري لوجستي، كالعربات المصفحة التي نشر “فيلق الشام” صورها بطريقة مدروسة، لإيصال رسائل بأن تركيا لن تتساهل في مواجهة تقدم قوات النظام.
ومع كل ذلك، قد تقبل تركيا بخروج بعض أجزاء إدلب من عباءتها، إذا ما حصلت على مقابل مهم في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” كما حصل في حلب.
وهنا لا يمكن استبعاد تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة حين قال: “ليس عليكم أن تشكّوا أبداً، قد نأتي في أي ليلة فجأة، نقوم اليوم عبر العمليات في إدلب بإسقاط الجناح الغربي للممر الإرهابي..، لن يتجاوز الأمر الأسبوع الواحد كي يروا ماذا سنفعل، سنستمر في نضالنا حتى لا يبقى أي إرهابي”.
أما بشأن مآلات هذه المعركة على مؤتمر سوتشي؛ فبطبيعة الحال ستؤثر سلبا معاركُ إدلب والتوترات بين أنقرة وموسكو على “مؤتمر الحوار الوطني” المزمع عقده في سوتشي بروسيا، ولذا فأغلب الظن هو أن يتم تأجيل المؤتمر إلى حين نضج شروط نجاحه، وأحد شروط نجاحه مرتبط بالأتراك.
ليس المقصود بالتأثير السلبي لمعركة إدلب على سوتشي أن الانتصارات العسكرية التي يحققها النظام ستدفع المعارضة وتركيا للابتعاد عن سوتشي، فهذا أمر غير ممكن لأن الأتراك غير قادرين على الذهاب في مواجهة مفتوحة وحادة مع روسيا.
وإنما المقصود هو أن عملية إدلب العسكرية أخلّت بالتوازنات القائمة بين موسكو وأنقرة، ولن يتم تجاوز هذا الإخلال إلا بوقف العمليات العسكرية أو حصول صفقة مشابهة لصفقة حلب.
وحتى لو استمر النظام في إحراز تقدم، فلن تستطيع أنقرة تجاهل سوتشي لأن ذلك سيُعتبر طعنة لروسيا التي تعوّل كثيرا عليه، وتحذيرات لافروف شديدة الوضوح: “من دون عقد مؤتمر سوتشي وأخذ نتائج جولات أستانا في الاعتبار، فلن يحصل أي تقدم مهم في محادثات جنيف”.
في أسوأ الأحوال، قد تقوم أنقرة بتخفيف مستوى ضغطها على المعارضة، والخروج بموقف باهت بشأن سوتشي، وهذا ما بدأت موسكو تدركه، ولعل التحركات الروسية الأخيرة تجاه طهران ودمشق توحي بأن الروس بحاجة إلى تأمين اختراق سياسي من بوابة دمشق قبيل عقد المؤتمر، في حال لم تقم تركيا بما يلزم تجاهه.
وربما يكون سماح الروس للنظام بالمضي قُدُما في شرقي إدلب مرتبطا بالحصول على تنازل سياسي سيُعلن من سوتشي، لكن التحضيرات للمؤتمر كشفت محدودية القدرة الروسية وفعالية الأطراف الإقليمية حين يتعلق الأمر بقضايا السياسة.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2018