هل ستكسر سورية قاعدة سيطرة الإسلام السياسي على ثورات الربيع العربي؟
سمير سعيفان
سيطر الإسلام السياسي حتى الآن على ثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر واليمن، بل ربح الانتخابات في المغرب مما شكل قاعدة لمسار ثورات الربيع العربي، فهل سيختلف مآل الثورة السورية عن هذا الاتجاه العام، وهل يمكن للثورة السورية أن تكسر هذا المسار وهذه القاعدة؟
بعض الوقائع تفيد بأن مآل الثورة السورية قد يختلف، فسورية تتميز بميزتين:
الأولى: أن نحو 30′ ينتمون، وبحكم الولادة وليس الاختيار، لطوائف وأقليات غير سنية. يضاف لها 10′ أكراد يغلب عليهم الهم القومي وليس الإسلامي. بينما يشكل المنتمون بحكم الولادة أيضاً للطائفة السنية نحو 60’، وأن جزءاً كبير من السنة يتشكل من فئات مدنية و علمانية وليبرالية وقومية وإسلام شعبي لا تسير خلف الإسلام السياسي،. كل هذا يجعل الفئات المؤيدة لسيطرة الإسلام السياسي أقلية في سورية.
الثانية: أن السمة العامة للشعب السوري بكافة طوائفه وفئاته بما فيها السنة الذين تنتشر بينهم الصوفية، هو التسامح وقبول العيش المشترك وقبول الآخر. وهي سمة جاءت من دور سورية الثقافي والتجاري عبر تاريخ المنطقة، وهو ما يفسر بقاء كل هذه الطوائف والأقليات في سورية حتى اليوم. مثلاً استقبلت سورية الشركس الهاربين من القمع الروسي أواخر القرن 19، واستقبلت الأرمن الهاربين من مذابح العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، واستقبلت الأكراد الهاربين من القمع التركي بعد عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. وقد أصبح اليوم الأرمن والأكراد والشركس مكونات متساوية في الحقوق والواجبات كبقية السوريين. ورغم نمو المشاعر الطائفية منذ سبعينات القرن العشرين فلا يوجد على صعيد المجتمع احتقان طائفي أو أحداث ذات طابع طائفي سابق عدا حالات فردية. كما أن العلاقة الآن بين المعارضة الإسلامية والمعارضة العلمانية ليست علاقة عداء بل علاقة طيبة، بل إن المجلس الوطني السوري المعارض يتشكل شراكة من إسلاميين وعلمانيين. وأن النظام استطاع تحييد فئات واسعة من السنة بل وتحشيدها حوله وخاصة في أكبر مدينتين سوريتين دمشق وحلب. وبهذا يتشابه جميع السوريين في مواقفهم المؤيدة والمعارضة للنظام مما يمهد لعلاقة تنافسية وليست تصادمية بين مختلف قوى المجتمع السوري ومن بينها قوى الإسلام السياسي.
مما ذكر أعلاه يمكن الاستنتاج بأن هذا لن يفتح المجال أمام سيطرة الإسلام السياسي على المشهد السوري ما بعد سقوط نظام الأسد، بل سيكون الإسلام السياسي أحد اللاعبين في الساحة السياسية السورية القادمة وهذا أمر لا ضير فيه وهي لعبة ديمقراطية مفتوحة لمشاركة الجميع والأجدر هو من سيفوز. وهذا الاحتمال الأول.
ولكن وقائع أخرى تقود لاستنتاج مضاد واحتمال ثان معاكس. إذ يلعب اليوم رجال الدين السنة مع قبضايات وناشطي الأحياء الدور الأبرز في الدعوة للتظاهر وتنظيمه، وتشكل الجوامع نقطة تجميع قوى التظاهر وانطلاقها. وقد جاء هذا بحكم أن الجامع بقي المكان الوحيد الذي لم يستطع فيه النظام منع تجمع الناس، ويشكل الدافع المذهبي أحد المحركات الرئيسية للتظاهر انطلاقاً من مقولة ‘أن سورية في غالبها سنة ولا يجوز أن تحكم من أقلية’، لذلك يشكل السنة باختلاف مشاربهم وتوجهاتهم معظم حشود المتظاهرين، بل تكاد تقتصر عليهم. فقد استطاع النظام تحشيد أو تحييد الطوائف الأخرى، عدا مشاركات صغيرة. كما أن اللعبة الديمقراطية هي ساحة صراع بين مصالح ومعتقدات وقيم، وليست منتدى ثقافيا، وإن من ينظم نفسه على نحو أفضل ومن يملك إمكانيات أفضل، وخاصة المالية، سيفوز ويسيطر. والإسلام السياسي يتفوق على العلماني في هذا، إذ لديه المؤسسة الدينية والجوامع التي ستستمر في كونها نقطة تجمع ودعم لها. وهذه دروس تجربة مصر وتونس وليبيا واليمن، ولديها مؤسساتها وجمعياتها القائمة، بينما منع النظام العلمانيين من امتلاك أية منظمة أو مؤسسة ذات تأثير مستقلة عن السلطة. ويحصل الإسلام السياسي على دعم مالي عبر قناتين رئيسيتين، الأولى تبرعات داخلية وجزء من أموال الزكاة، والثانية تبرعات خارجية، وخاصة من المجتمع الأهلي السعودي، رغم خشية النظام الرسمي السعودي اليوم من الإسلام السياسي، كونه حركة انقلابية يخشى من تمددها للسعودية وبلدان الخليج. وفي تجربة الثورة السورية خلال الشهور العشر السابقة، فإن نفوذ الإسلام السياسي يتمدد ويتوسع بين المتظاهرين والتنسيقيات لأنه يملك إمكانيات مالية أكبر من القوى العلمانية، وهم لديهم مصادرهم وأقنيتهم المالية ومؤسساتهم منذ عقود. بينما لا يتوفر للقوى العلمانية مثل هذه الإمكانيات. كما أن الإسلاميين أكثر قدرة على تجميع أنفسهم والانضواء في تنظيم موحد في نظام ما بعد الأسد. فطبيعة التدين تشكل شخصية قابلة للانصياع والانضواء في هرمية محددة، بينما بينت تجربة مصر وتونس أن الفئات الديمقراطية والعلمانية والمدنية والليبرالية مصابة بداء التشرذم والتشتت وصعوبة الاتفاق، وتم إدارة اللعبة الديمقراطية بحيث لم تمنح القوى العلمانية والديمقراطية فرصة كافية لتنظيم صفوفها.
خلال الشهور السابقة استهدف نظام الأسد قتل القيادات الأولى للمظاهرات، وقد كانت فئات أكثر تعلماً وثقافةً وانفتاحاً، فجاءت قيادات أخرى تشكلت في مناخ القمع الذي يولد التطرف، وهو اليوم وعبر حله الأمني القمعي لم يسمح بالتظاهر السلمي الذي يفسح في المجال أمام فئات واسعة للمشاركة وفرض وجودها ودورها وحصتها في تقاسم السلطة مستقبلاً، لأن بشار يريدها حرباً على الجميع حتى آخر رجل. ولا يترك فسحة لأية قوى ديمقراطية علمانية ليبرالية منفتحة للمشاركة والبروز، فلا نرى مظاهرات في طرطوس واللاذقية خارج أحياء السنة، ولا نرى مظاهرات في معظم أحياء دمشق مثل المالكي وأبو رمانة والمزرعة وباب توما والتجارة في دمشق، ولا نرى مظاهرات في معظم أحياء حلب مثل السبيل والمحافظة والشهباء والسيلمانية والعزيزية في حلب، ولم يبق غير قوى مناطق وأحياء شعبية تتسم بالتضامن مع بعضها حيث يلعب رجال الدين الدور الأكبر. وهذا كله يهيء المناخ للقوى الأكثر تطرفاً وراديكالية في البروز والسيطرة. من التحليل أعلاه يبدو أن كلا الاحتمالين واردين، وإذا كان من الصعب الجزم الآن بمآل الثورة السورية، فيمكن القول بأن الحل السلمي للأزمة السورية، والانتقال السلمي للسلطة من نظام الأسد إلى نظام ديمقراطي تعددي إنما يعزز احتمالات التوجه الأول وكسر القاعدة، بينما يعزز تمسك الأسد بالسلطة ولجوءه للحل الأمني البديل الثاني، وبالتالي فنظام الأسد وموقف بشار الأسد بالذات هو المسؤول وهو ما سيحدد إلى حد بعيد مسار الثورة وتوجهها نحو البديل الأول أم البديل الثاني ويحدد مستقبل سورية ككل. وفي حال غلبة البديل الثاني فهذا يعني أن حافظ أسد مازال يحكم سورية بعد موته.
قد لا تكون المشكلة في دخول الإسلام السياسي معترك السياسة علناً وحتى فوزه في انتخابات لدورة أو أكثر. ولكن المشكلة قد تكون في أن الديمقراطية لا تمنع الديكتاتورية، لأن الديمقراطية تشترط الدولة المدنية والثقافة المدنية والعلمانية، ولا ديمقراطية مع صراع مذهبي، فالعراق لديه ‘نظام ديكتاتوري منتخب’، فالميكانيزم الديمقراطي شرط لازم ولكن غير كاف، لأنه عندما تسيطر الدوافع المذهبية الضيقة ستكون الديمقراطية أداة لمنح الشرعية للتعصب والمذهبية والتطرف والديكتاتورية كما هو في العراق الآن. أي المشكلة في التعصب وفي نمو حجم ودور الدافع المذهبي في الخروج للتظاهر لإسقاط حكومة الأسد. وإن كان هذا الدافع ما زال محدود نسبياً وتحت السيطرة، ولا يتحول لدعوات انتقامية، غير أن نظام الأسد يغذيه ويدفع لتنميته كي يخيف الفئات الأخرى. والحل الأمني والقمع والقتل يجعل هذا التوجه ينمو ونجد الآن فرقاً كبيراً بين طبيعة التظاهر ودوافعه التي كانت في بدايات انطلاق الثورة، وبين المشاعر والشعارات والدوافع الآن بعد مضي عشرة أشهر من القمع الوحشي الدموي للتظاهر. وتحول المشهد إلى حرب أهلية، فيما لو تم، سيفاقم هذا الدافع.
إن تعزيز غلبة الاحتمال الأول، وكسر سورية لقاعدة سيطرة الإسلام السياسي على ثورات الربيع العربي وتحولها إلى دولة علمانية ديمقراطية حقيقية ترفع شعار سعد زغلول ‘الدين لله والوطن للجميع’، والذي كانت تتبناه مختلف التيارات السورية قبل الوحدة مع مصر وقبل حكم البعث، وأن تقيم دولة مدنية، أي ليست عسكرية وليست دينية أيضاً هو احتمال ممكن جداً وقابل للتحقق ضمن أربعة شروط:
أن تخرج فوراً جميع قوى المجتمع الديمقراطية والليبرالية وفئاته الوسطى وطوائف العلويين والمسيحيين والدروز وبقية السنة ليأخذوا مكانهم في التظاهر ليكون لهم دورهم في تشكيل النظام السياسي ما بعد بشار الأسد.
أن يتم حل الأزمة في سورية حلاً سلمياً عبر إرغام بشار الأسد على التنحي وقبل تدهور الأوضاع نحو الحرب الأهلية ضمن فترة انتقالية وحكومة مشتركة تضم كل قوى المجتمع وفئاته.
أن تتغلب القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية على فرقتها، وأن تنظم صفوفها منذ الآن في تنظيم سياسي كبير يضم معظم قواها ليكون لها تأثير كبير.
أن يتم تقديم دعم سياسي ومادي داخلي ودولي لهذا التنظيم الديمقراطي العلماني الذي يتسع أيضاً لمتدينين مستنيرين، ليكون قوة قادرة على التأثير، ويقع على رجال الأعمال السوريين ذوي التوجه الديمقراطي والليبرالي والعلماني داخل سورية وخارجها المسؤولية الأكبر في هذه المهمة.
‘ كاتب سوري