هل غيّرت إسرائيل مقارباتها السورية؟/ عيسى الشعيبي
لا تشكل غارة إسرائيلية بمفردها، مهما كان دوي وقعها وكانت شدّتها، دليلاً كافياً على أن الدولة العبرية قد غيّرت مقارباتها الملتبسة، منذ نحو ست سنوات، إزاء الأوضاع السورية القائمة في البلد الذي بات مرتعاً خصباً للتدخلات الخارجية، وتحول إلى مناطق نفوذ موزّعة بين القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة، بل وصار ميدان رمايةٍ مثاليا لاختبار صنوف الأسلحة الحديثة، لا سيما وأن إسرائيل هي الدولة الأقل حضوراً، قياساً بسائر جيران سورية، في مجريات هذه الأزمة التي خالفت مآلاتها توقعات كبار القادة والمحللين الإسرائيليين.
غير أن سيلا من المراجعات التي حفلت بها الصحافة العبرية، أخيرا، قبل شن هذا العدوان الاستفزازي السافر، وما عكسته من مشاعر خيبة أمل حيال عدم أخذ الدولتين الكبريين (روسيا وأميركا) في حسابهما المصالح الأمنية الإسرائيلية، لدى عقد اتفاقية خفض التوتر في الجنوب السوري، وما عبّرت عنه تلك السجالات من ندمٍ على تفويت عدد من الفرص السانحة لحجز مقعد إسرائيلي كبير على مائدة التسوية المحتملة، نقول لعل ذلك كله يشير إلى أن هذه الغارة التي وقعت في مكان غير بعيد عن قاعدة حميميم الروسية قد تكون فاتحة لمقاربة إسرائيلية مختلفة.
بحسب تعليقاتٍ فوريةٍ من جنرالات إسرائيليين متقاعدين، لم تكن هذه الغارة المتزامنة مع
“من المرجح أن تعمل واشنطن من خلف أبواب مغلقة على تهدئة روع ربيبتها في المنطقة” الذكرى السنوية العاشرة لضرب مفاعل دير الزور روتينيةً على غرار عشرات الغارات السابقة، بل كانت غارة استثنائية من حيث الهدف والتوقيت والرسائل المبثوثة، تهدف إلى نقل إسرائيل من دور المراقب للأزمة السورية إلى دور الشريك الفاعل حول مائدة التسوية المرتقبة، أو كما قال وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان؛ الذي أعلن عن تحمل تل أبيب المسؤولية، لأول مرة، إن هذه الغارة وضعت خطاً أحمر لن تسمح إسرائيل بتجاوزه، وهو ما يعني أن الدولة العبرية عمدت إلى تعميق تدخلها في الشؤون السورية.
ويمكن للمراقب أن يضيف إلى هذه الأقوال المتحدية قولين اثنين؛ أولهما أن إسرائيل، المطمئنة حيال سياسة أميركية مستقرة، تحفظ لحليفها المدلل في الشرق الأوسط كامل مصالحه بعيدة المدى، ينتابها الآن حسٌّ بالخذلان والترك، جرّاء ما تراه قصوراً شديداً في استراتيجية أميركا تجاه الأزمة السورية، وثانيهما أن حكومة بنيامين نتنياهو المعوّلة على تفاهماتها المستجدة مع الرئيس الروسي، خسرت رهانها الهشّ على حسن نيات فلاديمير بوتين الذي أوضح لها، خلال لقائهما أخيرا في منتجع سوتشي، أن بلاده لن تضحّي بحليفها الإيراني في هذه الآونة.
وعليه، تكون هذه الغارة، في مغزاها ومبناها، قد انطوت على احتجاجٍ إسرائيلي مزدوج، كُتب بالحديد والنار، تجاه تجاهل كل من أميركا وروسيا لمطالب تل أبيب المتعلقة أساساً بالوجود الإيراني والمليشيات الملحقة به، خصوصاً في المنطقة اللصيقة بهضبة الجولان ودرعا والسويداء، وفيما بدا هذا الاحتجاج مصوغاً بنبرةٍ سياسيةٍ عاتبة تجاه الحليف الأميركي القديم، بدا متحدّياً ومستفزاً بشدة للحليف الروسي الجديد الذي أحرجه، حتى لا نقول أهانه، اختراق أربع طائرات مقاتلة المنظومة الدفاعية التي تعد فخر التكنولوجيا الحربية الروسية المتطوّرة.
من المرجّح أن تتفهم واشنطن حالة الغضب الإسرائيلي هذه، وأن تعمل من خلف أبواب مغلقة على تهدئة روع ربيبتها في المنطقة، بتقديم مزيدٍ من الطائرات الحربية والخدمات الأمنية الحديثة، هذا إن لم تكن أميركا قد أومأت برأسها، وأعطت الضوء الأخضر لهذه الغارة. أما موسكو المهانة بانكشاف عجزها وقلة حيلتها، وهي صاحبة المنظومة التي قيل إنها قادرة على رصد المقاتلات منذ لحظة إقلاعها في أيٍّ من مطارات المنطقة، فإن من غير المحتمل أن تبدي أي تسامح مع مثل هذا الصلف الإسرائيلي الذي وضع دولة كبرى في موضع اختبارٍ لا تحسد عليه أبداً.
من المفارقة الفارقة هنا أن الدولة السورية المستهدفة في صميم سيادتها بهذه الغارة لم تكن، من قريب أو بعيد، ضمن الحسابات الإسرائيلية، المستخفّة تماماً برد الفعل السوري المعهود “الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان الملائمين”. إذ إن أقصى ما قاله الإعلام الحربي السوري إن الغارة حدثت من داخل الأجواء اللبنانية، في محاولةٍ ساذجةٍ لتخفيف حدة وقع الغارة على نجاعة القدرات التكنولوجية الروسية التي أظهرت ضعفاً مخجلاً أمام تفوق الأسلحة الأميركية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال صمت الكرملين المطبق، إن لم نقل الذعر، إزاء الفارق النوعي بين الترسانتين المتبارزتين في الأجواء السورية المستباحة.
وبالعودة إلى العنوان أعلاه، “هل غيرت إسرائيل مقارباتها السورية؟”، يمكن القول إن تغيراً ما قد دخل على الحسابات المسكونة بالقلق العميق لدى هذه القوة الإقليمية ذات الخلفية الأمنية
“يجدر بالمراقب الموضوعي أخذ قسط من التحفظ، وهو يقرأ كامل الصورة السورية المتحولة بين يوم وآخر” المتطيرة، كعادتها، حيال أيٍّ من المتغيرات السياسية والعسكرية المحيطة، فما بالك إذا كانت هذه المتغيرات تشي بإمكانية اشتعال جبهتين شماليتين، عوضاً عن جبهةٍ واحدةٍ مع حزب الله، في أي حربٍ محتملة في المدى المنظور، الأمر الذي أهّل هذه الغارة النوعية لتدشين فصلٍ جديد من أزمةٍ لا تزال بعيدةً عن نهايتها، وجعل منها فاتحة أولية لمقاربةٍ إسرائيلية قد تعيد خلط الأوراق مجدّداً، وتزيد من درجة تعقيدات الأزمة المديدة، بصورة تحبس الأنفاس لدى كل المنخرطين فيها.
ومع أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على مدى ما انطوت عليه هذه الغارة من متغيراتٍ تخصّ الرؤية الإسرائيلية الحاسمة، إذا ما جرى تفعيل أدواتها بصورةٍ متزايدةٍ في المستقبل القريب، فإن مجموع الرسائل المحمولة على جناحي هذه الغارة، المترافقة مع أكبر مناورة عسكرية في العقدين الماضيين، تفيد بأن العقل الإسرائيلي الهاجس بالأمن، والأمن أولاً وأخيراً، قد أخذ يميل إلى حمل مخاطر أكبر من ذي قبل إزاء احتمال تورّطه أكثر وأعمق في المسألة السورية، المفتوحة بعد على تطوراتٍ لا يمكن التنبؤ بها من الآن، خصوصاً إن تمخض الصمت الروسي على الإهانة التي لحقت به، وهو في عز إمساكه بمعظم مقاليد المشهد السوري، عن ردة فعلٍ ملموسةٍ ضد العربدة الإسرائيلية.
إزاء ذلك كله، يجدر بالمراقب الموضوعي أخذ قسط من التحفظ، وهو يقرأ كامل الصورة السورية المتحولة بين يوم وآخر، وأن يُمسك قليلاً عن التخمينات السياسية والعسكرية المتعلقة بوضعٍ قد يخرج عن السيطرة في أي وقت، لعل غارة إسرائيلية أخرى تواجه بردّ فعلٍ روسي غير مستبعد تماماً، تعزّز من هذا الافتراض الذي لا يمكن الاطمئنان إليه الآن بصورة كلية.
العربي الجديد