صفحات سورية

هل ننتظر جنيف 3؟/ رياض نعسان أغا

ما الذي يمكن أن ينتظره السوريون وقد بلغت مأساتهم ذروة من الفواجع لا تطاق ولا تحتمل؟ وما الذي يمكن أن تفعله دول العالم لإيقاف شلال الدم الذي اختلط فيه القاتل بالمقتول، ولم يعد سهلاً أن تعرف فيه من هو قابيل ومن هو هابيل؟ ولقد كانت قمة الكويت تعبيراً واضحاً عن العجز العربي عن إيجاد حلول سياسية للقضية السورية، ورمت الكرة مرة أخرى في ملعب مجلس الأمن الذي تعامل مع السوريين بمفاهيم المصالح بعيداً جداً عن أي شعور بالمسؤولية الإنسانية. وقد حاول أن يغطي على فشله الإنساني عبر العناية بالإغاثة والسعي لإيصال المعونات إلى مناطق محدودة مثل حي محاصر في حمص، واتخذ قرارات لا تحتاج إلى اجتماع الدول العظمى في أعلى سلطة دولية.

كانت الهبّة التمثيلية حول توجيه ضربة صاعقة لسوريا (وأحمد الله أنها كانت تمثيلية لأنني ضد التدخل العسكري الخارجي) قد أفقدت الدول العظمى هيبتها، ولم يكن ثمة داعٍ لتلك الفورة التي شغلت العالم، وقد ذكرتنا بالمثل الشهير تمخض الجبل فولد فأراً. وكان يمكن استخدام تلك الفورة لإيجاد حل سياسي للقضية وليس الاكتفاء بالمطالبة بتدمير الأسلحة الكيماوية لضمان ألا تقع ذات يوم في اليد الخطأ كما قالوا فتنطلق نحو إسرائيل. ولكن العملية أراحت مشاعر الشعوب التي تعاطفت مع الأطفال السوريين الذين قتلوا بالأسلحة الكيماوية. أما الأطفال الذين يقتلون ذبحاً بالسكاكين وبالبراميل المتفجرة وتبقى جثثهم مع ذويهم تحت الأنقاض فهؤلاء لا بواكي لهم سوى قلوب الإنسانيين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

وقد بات السوريون يعتقدون أن الدول الكبرى تريد أن يستمر طوفان الدم في سوريا حتى يتم دمار شامل لا يبقي ولا يذر، وهذا سر صمت قادة العالم عن فضح حقيقة التنظيمات الإرهابية التي شوهت وجه المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، فهذه المنظمات لم تنزل من السماء، ولم تستخرج أسلحتها المتطورة من جوف التراب السوري، ولم تأخذ أموالها من المتبرعين السوريين، لقد جاءت من الخارج تحت سمع وبصر ودعم وتشجيع دول لا تغيب عن أجهزة مخابراتها شاردة ولا واردة، فهي تتنصت حتى على كبار قادة العالم، ولكنها تركت هذه التنظيمات تكبر وتسطو على كثير من المناطق السورية، وتقدم خطاباً لم يقله الشعب السوري قط في شعاراته وأهدافه التي خرجت بها مظاهراته الأولى، وكان هدف هذه التنظيمات التعتيم على الأهداف المشروعة التي طالب بها الشعب وهي الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية.

ومن سوء حظ السوريين أن جاءت قضية القرم فشغلت الدول الكبرى عن قضيتهم، وبدت روسيا مقتحمة وقادرة على المواجهة العسكرية وهي مطمئنة إلى أن أوروبا في وضع لا يسمح لها بمغامرات عسكرية، والولايات المتحدة تفقد هيبتها الدولية وتتراجع عن مكانتها المتوهمة في قيادة النظام الدولي الجديد الذي بدأت فيه روسيا والصين وإيران والهند وبعض دول أميركا اللاتينية تشكل أحلافاً قادرة على التفرد. وكان الغزل الأميركي الإيراني قد بث الريبة في بعض أقطار الوطن العربي، ولم تبدد زيارة أوباما للمملكة السعودية مؤخراً ما اغتلى من شكوك لدى كثير من العرب في الموقف الأميركي، فقد بدت سياسة الاحتواء المزدوج تختل بعد تنامي النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، وبعد الصمت الأميركي المريب حول احتمال انتصار المشروع الإيراني في العراق وسوريا فضلاً عن محاولته تطويق شبه الجزيرة العربية من الجنوب أيضاً عبر تدخل واضح في اليمن.

ومع أنني شخصياً من أنصار التفاهم مع إيران وحل المشكلات معها بطرق سلمية، وعدم الانجرار إلى اعتبار الفرس أعداء للأمة العربية فالغالبية منهم مسلمون بغض النظر عن المذاهب الدينية، ولا يجوز بحال أن ينجح الهدف الصهيوني بتحويل الصراع المركزي في منطقتنا من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع سني شيعي. ويبدو مفجعاً أن يشعر السوريون اليوم بأن «حزب الله» بات أشد خطراً عليهم من إسرائيل، بعد أن قتل آلاف السوريين في القصير ويبرود القلمون وفي الشمال السوري وفي غوطة دمشق بدعم إيراني معلن، وكان عدوانه على السوريين خطيئة كبرى خسر بها حاضنته الشعبية الكبرى في سوريا وفي الوطن العربي، وصار عدواً لها.

لقد كان طبيعياً أمام الأصولية الدينية التي حملها هؤلاء القادمون من خارج سوريا للمشاركة في قتل شعبها وتدمير قراه ومدنه، أن تظهر نزعات دينية متشددة لمواجهتها بذات الخطاب الديني المتشدد، وقد حاول النظام عبر إغراق الحالة السورية بالإرهاب أن يحول البوصلة الدولية في مؤتمر جنيف إلى معالجة قضية الإرهاب بدل مناقشة مطالب الشعب فضيّع فرصة الحل السياسي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر حلول سياسية.

ويبدو أن فتح معركة الساحل كان نتيجة لهذا التعنت في موقف النظام، فقد خرجت المعارضة يائسة تماماً من الحل السياسي، ويمكن القول إن المعتدلين من المعارضين السياسيين وحتى العسكريين الذين قبلوا بإعلان جنيف، فقدوا حجتهم أمام الذين رفضوا وراهنوا على أن النظام سيعتبر قبولهم بجنيف بداية انتصاره عليهم. وكان خطأ استراتيجياً وقع فيه النظام حين ساقه الغرور وحده إلى رفض ما يمكن أن نسميه تنازلات، تفرضها المفاوضات التي تعني القبول بالتسوية ولا تعني الانتصار لطرف على طرف. وكان الداعون إلى القبول -وكنت منهم- يريدون إنهاء شلال الدم، والحفاظ على ما تبقى من البلاد، مؤمنين بأن الحلول العسكرية لن تفضي إلا إلى الدمار الشامل، ولن يكون فيها منتصر، فليس بوسع المنتصر أن يقف مزهواً على جثث أبناء شعبه ليقول لقد انتصرت على شعبي وحولت المواطنين إلى جثث، فدماء تلك الجثث ستلاحقه إلى الأبد، وسيكون مهزوماً بوعد الله للمستضعفين في الأرض ولمن هجّروا من بيوتهم ومن قتلوا بغياً وعدواناً، وبمنطق التاريخ الذي علمنا أن الشعوب لا تهزم. ولئن كنت من الذين يئسوا بعد إخفاق مؤتمر جنيف، وفقدوا حجتهم في الدفاع عن إمكانية إيجاد حل سياسي، إلا أنني أتمنى على المجتمع الدولي أن يكون جاداً وحازماً وعادلاً ومنصفاً، فليس من صالح هذا المجتمع أن يكون هناك عشرة ملايين مشرد ونازح ولاجئ، وأن يحرم ثلاثة ملايين طفل من التعليم وينشأ جيل ضخم من الأميين فقراء يائسين معبئين بالحقد والرغبة بالثأر لأسرهم التي قضت تحت الأنقاض، وإن كان هناك من يسعى لجنيف 3 فعليه أن يدرك أن فشله سيعني انطلاق حروب إبادة لن تتوقف عند حدود.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى