هناك…حيث يذهبُ خِيارُ السوريين
في طريقي إلى هناك شعرت شعورا غريبا جدا. لم أكن أدري إلى أين كنت ذاهبة و لكن شعورا بالطمأنينة و الراحة اكتنف كياني كله. الحقيقة أنني لم أكن كيانا و إنما نسمة رقيقة. ذكّرني ذلك الشعور بأحلامي عندما كنت هنا و لست هنا في الوقت نفسه! قد تجدون الشعور غريبا و لكنه حقيقي.
في لحظات معدودة مرت و كأنها سنوات (أو لعلها كانت سنوات مرت كلحظات؟) وصلنا. بالطبع لم أكن وحيدة هناك. كان هنالك كُثُر مثلي. بعضهم كانوا أطفالا مثلي و بعضهم كانوا نساء و لكن غالبيتهم كانوا من الشباب. كانوا جميعا مبتسمين باطمئنان. لم أتمكن من رؤية ملامحهم لأن وجوههم تماهت مع الضوء الساطع باتجاهنا. ما أنا متأكدة منه هو أنهم كانوا يبتسمون مطمئنين.
علمنا أننا وصلنا عندما رأينا مرجا ممتدا و كأنه بحر أخضر برّاق مرصع بكثيرٍ من شقائق النعمان…و كأن شقائق النعمان كانت تنبثق كل بضع لحظات و كأنما بفعل السحر.
فقط عندما رأيت جدتي مقبلة علي عرفت أين أنا. لقد كنت في الجنَّة.
أظن أنني مِتُّ في منزلي في اللاذقية عندما بدأ الجنود بإطلاق الرصاصِ على المتظاهرين و بدأت البارجاتُ بقصف المنازل من البحر. و لكنني حقا بخير..أنا لستُ الطفلة الوحيدة التي تموت! لقد سمعتهم يقولون أن 160 طفلا استشهدوا منذ اندلاع الثورة منذ ستة أشهر. سوف يكون هنالك المزيد من الأطفال المقتولين بيد جيشهم…وهم أيضا سيكونون بخير. الجنة حلوة كتير! و ما الذي سأعترض عليه هنا؟ أنت تعيش كل لحظة هنا في صحبة الأخيار. لا يمكن لكم أن تتخيلوا مدى روعة الحياة خالية من أي شر…أن تنسَوا معنى القسوة…أن تعيشوا في سلام لا ينتهي.
الحقيقة؟ حتى الموت لم يكن سيئا أبدا. كنا قد ذهبنا للنوم لتونا حين سمعنا أصوات القذائف القادمة من البحر. و بينما كنت أغادر هذه الأرض سمعت صوت أقدام أمي و أبي مسرعة نحو غرفتي و لكنهم لم يلحقوني. الشئ الوحيد الذي يحزنني حقّا هو أن أهلي و لا بد مفطورو القلب حزنا علي. كم أتمنى لو كان بإمكاني بطريقة ما أن أخبرهم أنني في قمة السعادة هنا…كم أتمنى لو أستطيع أن أخبرهم أن موتي كان سريعا جدا و خاليا من أي ألم إذ أنني حتى لم أملك الوقت الكافي لأحس بخوف!
بعد عدة أيامٍ من وصولي إلى الجنة تقدّمَ نحوي رجل بعينين سوداوين دافئتين و ابتسامة حانية و سألني عن أحوال سوريا الحبيبة كما سمّاها عندما تركتُها. عرَّفني عن نفسه قائلا أنه اسمه صلاح الدين الأيّوبي. كنت قد سمعت كثيرا باسمه في التلفزيون و كتاب التاريخ. كان متلهفا لمعرفة أخبار سورية و الاطمئنان عليها لأن آخر سوري وافدٍ إلى الجنة كان قد أخبره أن حالها يُرثى له و أنها جزء مما يسمى “العالم الثالث”. و كم جرحهُ أن يسمع أن سورياه الغالية و التي كانت متفوقة على أوروبا أصبحت الآن تلهث في آخر الرّكبِ. سألني و الألم في عينيه “كيف ترك السوريون هذا يحدث؟ و هل لا زالوا كذلك عندما تركتِهم؟”
سُرَّ صلاح الدين عندما أخبرته أن السوريين ينفضون عنهم الغبار و شعرَ بالفخر يملؤه حين أخبرتهُ أن أحفادَهُ انتفضوا أخيرا ثورة لحقوقهم و كرامتهم و لكن لم أشأ أن أخبرهُ أنهم أيضا يُقتلون و يُعَذّبون كل يوم. كم كرهتُ أن أُفسِدَ نشوتهُ بإخبارِهِ أن خيرة شباب سورية كانوا مفقودين…ربما للأبد.
كنت لا زلت أفكر بصمتٍ فيما إذا كان عليّ أن أخبره عن الثمن الباهظ الذي كان الشعب السوريُّ يدفعه مقابل الحقوق و الكرامة حين لمحته ينظر إلي بعينيه الحكيمتين و كأنه خمَّن ما كنت أفكر به. أخذ صلاح الدين بيدي الصغيرة و قال “هنالك ما أودُّ أن أريَكِ إيّاه”. و في الطريقِ سألتُه عن سبب انبثاق شقائق النعمان كل بضعِ لحظات. “ألا تعلمين؟” قال لي “مع كل شهيدٍ يُستَشهَدُ تتسرب دماؤه عبر الترابِ و تنمو زهرة شقائق نعمان عوضا عنها”.
طُفنا معا حتى وصلنا إلى نهاية المرج الأخضرِ النديِّ حيث وضعَ صلاح الدين يده خلف أذنه طالبا من الإنصات للطرف الآخر من السور العالي الذي يفصل بين الجنة و جهنم. سمعنا صوتَ أناسٍ يصرخون و يستغيثون من النار. خفتُ كثيرا في البداية و لكن بعدها استطعت أن أميز صوت شيخ يصرخ. كان يصيح بأعلى صوته: “توقف…توقف أرجــــــــــوك! يا بشار توقف! كَفاكَ قتلا…يــــــــا ويلاه…مع كلِ روحٍ تأخذها..مع كلِّ نارٍ تُضرِمُها تُلعَنُ روح أبيك و يحترق هنــــــا. يا ليتني لم أُنجبك…ألا لعنة الله عليك”.
شعر كلانا بالأسفِ عليه كما هي حال جميع أهل الجنة و لكن لم أستطع أن أتمنى لهُ الخلاص من المصيرِ الذي جلبه لنفسه. إنَّ أهلي يعانون بسبب خياراته السيئة و أفعاله الشنيعة. أنا آسفة يا حافظ…لقد أضرمت جحيمك….فلتحترق به!
* نفس القصة باللغة الإنكليزية؟ http://english.the-syrian.com/2011/09/01/there-where-the-good-syrians-are/
http://the-syrian.com/archives/35777