هنا عرسال … الوضع سيّئ جداً/ ريّـان ماجـد
عرسال، البقاع ــ “هذه المنطقة الصغيرة حملت همّ لبنان وسوريا. بالأمس شعرتُ وأنا عالق في زحمة شوارعها بأنني داخل الى الشام”. هذا ما قاله ناشط سوري عن منطقة عرسال البقاعية في لبنان، التي استقبلت أخيراً، إضافة الى 46 ألف لاجئ سوري قدِموا إليها منذ اندلاع الثورة في سوريا، أكثر من ألفي عائلة وصلت في الأيام القليلة الماضية قادمةً من بلدة “قارة” الواقعة في منطقة القلمون شمال العاصمة السورية، والتي تعدّ نقطة استراتيجية، كونها تصل بين مدينتي دمشق وحمص وتحوي مستودعات مركزية للأسلحة.
“يوم الجمعة، من الساعة العاشرة صباحاً ولغاية السادسة مساء، كانت السيارة خلف السيارة على طول الطريق البالغة قرابة 18 كلم من قارة إلى عرسال”، قال أحمد الفليطي، نائب رئيس بلدية عرسال، وأضاف: “وقفنا على مداخل عرسال، وبإمكانياتنا المتواضعة أحصينا 1200 عائلة سورية لجأت الى المنطقة. كان الناس هنا في عرسال يدخلون بالـ”سيكسويل” إلى قارة، يضعون الناس فيها ويأتون بهم إلى عرسال. الساعة السادسة مساء، أُعلن عن هدنة في قارة ريثما يتم إخلاؤها من المدنيين. بدأت تأتينا نداءات الاستغاثة من داخل البلدة السورية. أرسلنا كل ما لدينا من سيارات وبيك آبات لإنقاذ المدنيين. من الجمعة ليلاً ولغاية السبت، أدخلنا 500 عائلة أخرى الى عرسال وأعلنّا حالة الطوارئ”.
وصف الفليطي حالة الناس القادمين من سوريا، الذين قضى بعضهم الليل البارد في البيك آبات، ونام جزءٌ آخر في الشوارع. أخبرنا كيف فتحت الجوامع أبوابها للاجئين واستأجرت البلدية بعض الصالات المخصّصة للأفراح وفتحتها للعائلات السورية، وكيف استقبل أهل عرسال عائلات سوريّة في بيوتهم. “هناك علاقات قربى بين أهل قارة وأهل عرسال. يوجد عائلات نصفها في قارة والنصف الثاني في عرسال، كعائلة عزّالدين، ونوح، ورجب. ويوجد معرفة بين الناس أيضاً بحكم التهريب. هذا طبعاً عدا عن التعاطف الإنساني مع السوريين والموقف الموحّد من أهالي عرسال مع الثورة السورية المحقّة”.
على مدخل المنطقة، وعلى “الحجر العرسالي” الشهير، كُتبت أسماء بعض المناطق السورية ومنها “درعا” و”حمص”، ورُسم علم الثورة السورية. وفي قلب عرسال، سيارات وموتوسيكلات ومُشاة. نساء يحملن أطفالهنّ ويمشين، ورجال يبحثون عن مأوى لعائلاتهم.
الشوارع والمنازل ضاقت بالوافدين إليها هرباً من قصف النظام السوري لبلدة قارة بالطيران والمدفعية وصواريخ أرض أرض. “صرنا نترحّم على الطيّارة، عالقليلة منسمع صوتها وفينا نتخبّى. صاروخ الأرض أرض ما بتعرفي وين بينزل، وما بتسمعيلو صوت!”، علّق أحد الواقفين على باب جامع “وادي الحصن” الذي أوى منذ يوم الجمعة مئات العائلات السورية.
“كنتُ في الغوطة. هربتُ أنا وعائلتي منها إلى قارة. ومن قارة الى الجبال. ومن جبالنا الغربية إلى هنا. منذ الصباح ونحن في الشارع. لا نعرف إن كنا سنتمكن من الحصول على مكان في الجامع”. هذا ما أخبره محمد، رجل أربعيني، كان يعمل “نجّار موبيليا”. هو يريد العودة الى قارة، لكن زوجته ترفض ذلك. “مش مضطرين نموت”، قالت له. “خلّينا نموت ونخلص من هالعيشة”، أجابها.
شاب آخر نزح مع عائلته من القصير في حمص الى قارة. ولجأ من قارة الى عرسال. كان جالساً أمام البيك آبّ المحمّل بالحرامات والفرش. يغنّي موالاً بصوت خافت وحزين: “سكابا يا دموع العين سكابا، على شهدا سوريا وشبابا”.
داخل جامع “وادي الحصن” نساء وأطفال وبعض الشيوخ يفترشون الأرض الباردة والرطبة. أم جمال، التي كانت تضمّ الى صدرها “ملاك النور” ــ طفلتها الصغيرة ذات العامين ــ قدِمت هي وزوجها وأولادها السبعة من قارة. رحلة شاقّة وباردة ومحفوفة بالمخاطر، إذ إن “الصواريخ الحرارية” لاحقتهم حتى بعدما هربوا وتركوا بيوتهم. “لو ما ولادي ما كنت طلعت. ولو بتشوفي أخلاق هالولاد كيف انقلبت. بكاء وصريخ وما عم بناموا وبردانين”.
لم يبقَ بحسب أم جمال في قارة، التي استقبلت نازحين سوريين من مدن عديدة في الداخل السوري وأغلبهم من مدينة القصير، غير الكبار في السنّ. “أمي وأبي لم يقبلا مغادرة بيتهما. أبي فضّل أن يُهدم البيت على رأسه وأن لا يغادر في آخر عمره خارج بلده. الآن سمعنا أن جيش النظام دخل إلى الضيعة، مشغول بالي عليهما. لا أعلم ما حلّ بهما والخطوط مقطوعة”.
تجدر الإشارة هنا الى أن شبكة الخطوط في عرسال مقطوعة من “اليوم الأول لمعركة القلمون”، ومشوّش عليها. “كتّر خير أهل عرسال. حطّوا روحهم على كفّهم كرمالنا. دخلوا على قلب الضيعة. يحطّوا هالناس بالسيارات ويجيبوهم لهون. في ناس من القارة ذهبوا عند أقارب لهم في الشام، آخرون ذهبوا الى يبرود. ويللي ما عندو حدا، إجا لهون”، قالت إحدى النازحات.
وقُتل شابان من عرسال، هما إبنا عمّ رئيس البلدية، على مقربة من الحدود بين لبنان وسوريا قبل يومين، نتيجة انفجار (لم يؤكِّد أحدٌ بعد إن كان ناجماً عن لغم أرضي أو عن غارة جوية). وكان الشابان ينقلان جريحين سوريين في سيارتهما الى المشفى الميداني في عرسال، توفّي أحدهما أيضاً.
“الشابان لم يذهبا للجهاد في سوريا كما قالت بعض وسائل الإعلام. ماتا وهما ينقلان الجرحى”، يؤكّد نائب رئيس البلدية، الذي تابع قائلاً إن الوضع صعب بل سيّئ جداً. بالرغم من شراء بعض أصحاب رؤوس الأموال من السوريين، استباقاً لما قد ينتج عن معركة القلمون من تهجير، بيوتاً كبيرة في عرسال ضمّت عائلات سوريّة عديدة، إلّا أن عدد القادمين فاق التوقعات. والبيوت التي فتحت أبوابها لعائلات سورية لا تستطيع أن تستضيفهم لوقت طويل، وكذلك الجوامع المفتوحة والصالات.
“الحاجة الأساسية الآن هي إيجاد المأوى للنازحين، وتعزيز المشفى الميداني في المنطقة ليستقبل الجرحى ويتمكّن من معالجتهم”، أضاف أحمد الفليطي. وقال أيضاً إنه طلب من وزارة الشؤون الاجتماعية مجموعة من الخيم، وهي لبّت الطلب، منوّهاً بعملها الجاد في المنطقة. “ما تقوم به وزارة الشؤون لم نرَه من الدولة اللبنانية منذ العام 76 ولغاية اليوم في عرسال”.
أمام مركز البلدية في وسط عرسال، محلّ ألبسة إسمه: “بكرا أحلى”. لكن “بكرا” لا يبدو “أحلى” بالنسبة للسوريين الذين تشردّوا من بلدهم. في عيون من التقيناهم خوف وحزن وقلق من المجهول. “ما طالع بإيدنا شي غير الدعاء لربّ العالمين”، قالت أم جمال. “معقول يلحقونا لهون؟”، سألت ريما.
في طريق العودة الى بيروت، التي هزّها صباح الثلاثاء انفجاران إجراميّان أوديا بحياة العديد من المواطنين، وصل خبر إغارة الطيران الحربي السوري على منطقة عقبة المبيضة في عرسال، وهي منطقة مأهولة. كأن تساؤل ريما في محلّه وجواب صديقتها أيضاً. “نعم، كل شي معقول من هيدا النظام”.
موقع لبنان ناو