هوامش فيما حول العلمانية/ عمر قدور
يفيدنا النموذج اللبناني، رغم كل ثغراته، بتوضيح مفهوم بسيط يخص منطقتنا. غياب الدولة في النموذج اللبناني هو كناية عن غياب تمركز السلطة.
رغم الانتقادات التقليدية الموجّهة للنموذج اللبناني، يبقى مع ذلك النموذج الأفضل عربياً لتحقق العلمانية. قد يبدو في هذا القول مجازفة، فنحن نتحدث عن بلد محكوم بالمحاصصة الطائفية وفيه انتقادات تعلو بين الحين والآخر فيما خصّ ضعف الدولة أو غيابها أو تعطيلها. في المقابل، يمكن الحديث عن مساحة من الحريات العامة، يرى البعض أنها تقارب الفوضى، لكنها متحقّقة في الواقع دون وجود أرضية قانونية مواكبة لها. بالأحرى، يجوز القول بأنّ تحقق هذه الحريات هو معادل لضعف الدولة، لا أحد مخرجات الدولة الحديثة كما درجت المطالبة فيها من قبل العلمانيين.
يفيدنا النموذج اللبناني، رغم كل ثغراته، بتوضيح مفهوم بسيط يخص منطقتنا. غياب الدولة في النموذج اللبناني هو كناية عن غياب تمركز السلطة وكما هو معلوم كان من شأن الميثاق الوطني اللبناني تبديد مركزية السلطة بتوزيعها على المجموعات اللبنانية، من ثم فالميثاق يعني عملياً تبديد مفهومَي الدولة والسلطة معاً. ذلك على الضد مما هو سائد في عموم المنطقة، لجهة تماهي مفهومي الدولة والسلطة، وتغوّل الأخيرة على الدولة، بحيث يجوز القول بوجود تبديد للدولة يتناسب طرداً مع تمركز السلطة.
وعندما نتحدث عن تمركز السلطة لا بد من الإشارة إلى تفاقمه على حساب المجتمع أيضاً، بدءاً من محاربة المجتمع السياسي بلا هوادة، مع التركيز على السيطرة التامة على الفضاء الرمزي الاجتماعي الذي غالباً ما يُنظر إليه ممثلاً بالدين. تأميم الدين، بهذا المعنى، هو نزعه من فضائه الاجتماعي الرمزي تحت زعم قوننته، وأيضاً نزعه من كونه مشاعاً ومُلكاً عاماً أسوة بتأميم الثروات الطبيعية الأخرى التي تسيطر عليها الطبقة الحاكمة. السلطة في حالتنا هذه تزعم أنها تحرس الدين بالسيطرة عليه، وقد تزعم أنّها تحرس المجتمع من فهم خطر للدين، وربما تزعم تالياً أنها علمانية بخلاف المجتمع الذي ينبغي نزع “سلاح” الدين منه. ذلك ينتعش نموذجياً مع كل تهديد للسلطة القائمة، وبشكل تلقائي يكون جزء من مقاومة السلطة الطغيانية محاولة استرداد الدين من سطوتها، الأمر الذي لا يحدث على قاعدة إعادة الدين إلى كونه مشاعاً، وإنما من قبل جماعات إسلامية تنافس السلطة على تأميم الدين لصالحها.
إننا، غالباً، إزاء نقاش علماني إسلامي لا ينطق فيه العلمانيون باسم المجتمع، مطالبين من خلاله بإعادة ذلك الفضاء الرمزي إلى ملكيته العامة، بقدر ما يظهرون ناطقين باسم الدولة، سواء الدولة الحالية أو المتوخاة. في مثل هذا النقاش أيضاً غالباً ما يتخلى العلمانيون عن حصتهم من الفضاء الرمزي العام، ليصبح حكراً على تنازع الإسلاميين عليه فقط. وقد يكون ضرورياً توضيح أن الشراكة في الفضاء الرمزي للدين أمر مختلف عن التدين الشخصي، فالشراكة ليست في الطقوس والعبادات، وإنما هي شراكة ثقافية مجتمعية متحقّقة واقعاً، وما عمل على كسرها طوال العقود الأخيرة هي الجهود الحثيثة من السلطات ومن الجماعات الإسلامية المنافسة والمتنافسة.
هكذا، لا نستطيع مفهومياً المفاضلة بين السلطات الطغيانية والجماعات الإسلامية على مستويين؛ مستوى السلطة الذي يتعيّن عند الطرفين بمركزية مطلقة، ومستوى تأميم الدين الذي ينفي العلمانية، حتى إذا أتى من خلال مشاريع طغيان علماني يتوسل الهندسة الاجتماعية، ولا يتعين فقط بتأميم الدين أو احتكاره أو ادعاء امتلاك الفهم الصحيح له. المستوى الثالث الغائب، كما جرت الإشارة من قبل، يتعين في تغييب الدولة، وتغييب “الدولة/ الأمة”، بمفهومها المعاصر هو في صلب نهج الطغيان، ودائماً تمت الاستعاضة عنها بمفهوم “الأمة”، حيث لا يتعين الأخير في الواقع وإنما في المتخيَّل أو الطوبى.
من هذا النقص المريع في ثقافة الدولة يمكننا فهم نسبة ضخمة من التنازع الحالي، فهو في قسم كبير منه تنازع على السلطة، دون أن تتعين الأخيرة في الدولة بل هي نفي مسبق لها. ويحدث في كثير من الأحيان أن يكون الجدل على أرضية معرفية مختلفة، بين من ينطلق من مفهوم الدولة المتوخاة، ومن ينطلق من مفهوم السلطة القائمة أو المأمولة. الدين في هذا النقاش هو وسيلة سلطة بالتعريف، مثلما الدولة في المفهوم ذاته هي دولة ريعية تتحكم الطغمة المسيطرة فيها بكافة الثروات الطبيعية، وتهيمن على سبل الإنتاج على قلتها.
ليس مصادفة بالطبع أن كافة الأنظمة الطغيانية أيضاً اتخذت موقفاً عدائياً من التحديث الاقتصادي، قبل أن تضطر إلى القبول مرغمة بالحد الأدنى منه تحت يافطة الاقتصاد الموّجه، أو رأسمالية الدولة، ولقد أدت تجربة النموذجين إلى ما نعرفه من احتكار مطلق. فانتشار الرسملة بالمفهوم الليبرالي يحتم انقضاء عصر السلطة الريعية، الإنتاج الحديث بطبيعته هو انقطاع عن الصراع القديم على الثروات الطبيعية، بما فيها الفضاء الرمزي العام متعيّناً بالدين، إلى التنافس والصراع في سوق الإنتاج والسلع المستحدثة، وتالياً الانصراف إلى ثقافة الصراع الجديد، بما فيها الجانب الاجتماعي الذي يختص بتوزيع أكثر عدالة للثروات المنتَجة. فالدولة، وفق الوضعية الحديثة، هي صمام لإدارة الصراعات الحديثة، بما يكفل التوازن الاجتماعي وتوزيع الثروات بشكل يوفر الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية. والرسملة على الصعيد الكلي هي القدرة أيضاً على إنتاج وتسويق الثقافات والفنون بعدّها جزءاً أساسياً من الفضاء الرمزي العام.
عادةً، يغلب لدينا التصور المبسّط عن الإصلاح الديني في الغرب وربطه بالعلمانية، دون أخذ الاعتبارات المحايثة له في الاعتبار. من ذلك أن الانزياح في مكانة الدين، بوصفه حاجة روحية شخصية وبوصفه فضاء رمزياً عاماً، يحدث على خلفية التراكم والرسملة في الفضاء الثقافي العام، أي بقدر ما تتقدم الثقافة والفنون لتشبع الحاجات الروحية، وبقدر ما يصبح الدين جزءاً من كلٍّ، وبقدر ما يتعزز جانبه الإيماني على حساب مشروعات احتكاره وتأميمه. بتعبير آخر، بقدر ما يصبح الدين مشاعاً يصبح شخصياً.
هذه الملاحظات الأولية تبتغي التفكر في العديد من القضايا التي يُستحسن ألا تغيب عن أطروحات العلمانية اليوم، والتي تنغمس أكثر فأكثر فيما نعرفه من صراع في المنطقة تنشط فيها أنظمة احتكارية بالمطلق وجماعات إسلامية احتكارية في المطلق أيضاً. ولئلا يبدو وصف الجماعات الإسلامية مصادرة عليها قبل بلوغها السلطة، تكفي الإشارة إلى الاقتتال بين تلك الجماعات ضمن فهم كل منها للإسلام، وكما نعلم فإن هذا الاختلاف في الفهم لا يُبنى على خلاف فقهي، بقدر ما يُستلهم الأخير للتغطية على المشروع السياسي الاحتكاري لكل جماعة.
قد تكون الصراعات الإسلامية البينية الحالية مدخلاً جيداً لتوضيح إضافي لما يعنيه تأميم الدين واحتكاره، بعد أن أدت السلطات الطغيانية دورها في توضيح ما يعنيه الاحتكار المطلق. لكن الانطلاق إلى ما بعد هذا الاستثمار السريع يقتضي الانتباه جيداً إلى عدم عودته مجدداً، وكما دللت تجارب الماضي عودته على نحو أكثر دموية. الدخول من بوابة حداثة القوانين فقط لن يكون كافياً، ما لم يكن مدعوماً بنظرة أكثر شمولية لمفهوم الدولة الحديثة ذاته، وكيفية تشكل الأخير وتطوره. المفهوم الأشمل للعلمانية يتحرى فهماً أعمق من ذلك الجدل حول العلمانية والديموقراطية فقط، لأن ترابط الاثنتين يرجع إلى صيرورة من التطورات المتلازمة على صعيد الرسملة والتنافس المجتمعي العام، والدولة بوصفها حكَماً يمنع الاحتكار من تهديد التوازن المجتمعي، لا بوصفها سلطة احتكارية مضادة في الأساس للمجتمع وتوازناته التي يحدث بعضها بفعل ميل اجتماعي غريزي.
نموذج لبنان الذي تمت الإشارة إليه في المستهل دلالة على أهمية ضعف الدولة، وهي مرحلة قد تكون ضرورية لدول المنطقة بعد عقود من التسلط المطلق باسمها. هذه ليست إشادة مطلقة بالتجربة اللبنانية، الواقعة اليوم تحت تهديد سلاح حزب الله، والواقعة من قبل وطأة التنازع على مكاسب السلطة من قبل أمراء الطوائف. إنه فقط تنويه بأهمية التفكر في توزيع السلطة نفسها، الأمر الذي يتطلب جهداً لنقض كافة تجليات ثقافة السلطة بعدّها ثقافة احتكارية في الصميم. وهي أيضاً إشارة تبتغي التخلص من الأوهام حول دور متعالٍ للدولة على المجتمع، ما يبرر لأية سلطة مصادرة الدولة والمجتمع. تبديد الدولة المركزية والسلطة قد يكون شرطاً لازماً وضرورياً اليوم لمنع الاحتكار، ولمنع الديموقراطية الناشئة من النكوص إليه.
بهذا المعنى، الذي يبدو متشعباً بين الدولة والرسملة المادية والرمزية، تكون العلمانية مشروعاً مجتمعياً لا مشروعاً “دولتياً”، لأنّها في الأصل تعني إطلاق الطاقات المجتمعية ليُعبّر عنها إنتاجاً وصراعاً. من دون ذلك، ستبقى الدولة مجرد كناية كاذبة عن مشروع ريعي احتكاري، لن يُصدَّق الكلامُ عن الدولة بعد ارتكاب الجرائم والأهوال باسمها، بل ستنصرف الأذهان فوراً إلى استبداد قادم تحت يافطتها.
حكاية ما انحكت