هوامش مهملة… من العذاب السوري
خليل علي حيدر
قلة من المعارضين والساسة والثوّار السوريين كانوا يتصورون أو يتوقعون، أن تبقى بلادهم الثائرة، معلقة على منصة التعذيب والقتل كل هذه الفترة. وحتى عندما أوغل النظام في القتل والتدمير واغتصاب الأحياء السكنية وحرق تاريخ المدن، راود الكثير من السوريين ومؤيدي ثورتهم، ألا يقف العالم، وبخاصة قواه العظمى، متفرجاً على كل هذه المذابح والتصفيات، وأن تنعقد المؤتمرات واللقاءات دون ظهور أي أمل بالخلاص.
كيف يغطي المجتمع الدولي وجهه؟ وخلف أية حواجز يختفي؟ وكيف يمكن لشعب مدني في الحواضر والأرياف السورية أن يجابه قنابل الطائرات وقذائف الدبابات وصواريخ سكود؟! ولا يعلم أحد ما الأسلحة الأخرى التي ستستخدم ضد الشعب السوري في المراحل القادمة من الصراع إن استمر. من الحجج التي تروج لتبرير عدم الحزم الدولي، وصف ما يجري في سوريا على أنه «حرب أهلية» لا «ثورة شعبية ضد نظام استبدادي»، ثورة متواصلة قدم الشعب السوري خلالها، يقول رضوان زيادة، مدير المركز السوري للدراسات بواشنطن، أكثر من سبعين ألف إنسان ما بين عامي 1980 و 2000، وفي أقل من عامين «بلغ عدد الضحايا في سوريا أكثر من 60 ألفاً، أكثر من 90 في المائة منهم من المدنيين». وتقول إحصائيات مجلس الأمن الدولي «إن عدد الضحايا ارتفع من ألف شهرياً مع بداية الثورة إلى خمسة آلاف شهرياً بسبب استخدام النظام السوري المكثف لسلاح الطيران والأسلحة الثقيلة كراجمات الصواريخ والقنابل الفراغية والعنقودية».
الخروج من جحيم النار والصواريخ بالنزوح، وترك البيت والبلد، أو ما بقي منهما، بات مصير آلاف السوريين. وبحسب مفوضية اللاجئين، فإن عدد النازحين الذين تركوا سوريا يقترب من المليون. هؤلاء ارغموا على الهرب من وطنهم بعد أن تحولت أحياؤهم، التي كانت هادئة وآمنة في الماضي، إلى ساحات للقتل. ولكن حياتهم في مناطق النزوح ودولة باتت جحيماً. و«يعاني هؤلاء صدمة انتزاعهم من أراضيهم وابتعادهم عن أناس يمنحونهم إحساس العيش في مجتمع، كذلك رأوا أحباءهم يُقتلون، واضطروا إلى الهرب حاملين معهم الحد الأدنى من ممتلكاتهم، وجارين وراءهم أولادهم الخائفين إلى مدن خيام أقيمت في الدول المجاورة». حياة هؤلاء النازحين قاسية جداً، كما هو معروف ومتوقع. كما أن الاستياء أو التنافس على الحاجيات الأساسية يدفعان بعض اللاجئين إلى أعمال شغب عنيفة الأسوأ من كل هذا على الصعيد النفسي، «أن قلة من هؤلاء السوريين المحتجزين في هذه الدوامة القاتلة يأملون حقاً بالعودة إلى وطنهم قريباً. وهم يدركون أن ما سيرجعون إليه لن يشبه البتة ما يتذكرونه عن الوطن. فقد خلفت الحرب دماراً مهولاً».
يتوزع النازحون السوريون على دول الجوار، ولكل دولة من هذه مخاوفها من النازحين وحساباتها السياسية والاقتصادية. فالأتراك تقلقهم المشكلة الكردية وبخاصة أن بين السوريين نسبة كبيرة من الأكراد داخل سوريا وبين النازحين إلى شمال العراق. وللأردن مخاوفها المعروفة من التوازنات الداخلية وثقل الإسلاميين والتزامات الدولة الاقتصادية، وحتى في لبنان، حيث يسهل اندماج السوريين، يعانون من مشاكل، بما في ذلك من يحاول أن يجد له عملاً كي لا يكون عالة على الآخرين، وكي يسترد شيئاً من نبض البقاء على قيد الحياة الطبيعية!
وقد تخطى عدد النازحين السوريين في لبنان الـ 265 ألف نازح، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ويشتكي هؤلاء، كما يقول تقرير، «من استغلالهم في لبنان برواتب زهيدة».
وحتى من لا يتم استغلاله يتحول إلى إحدى ضحايا غول التضخم وارتفاع الأسعار. من هؤلاء مثلاً «سليمان»، 40 عاماً، مدير سابق لميني ماركت في سوريا. فهو يتقاضى 500 دولار أميركي في لبنان، ينتهي فور قبضه. ويوضح سليمان أنه يدفع 350 دولاراً من راتبه بدل إيجار منزل، فيما يخصص الباقي لدفع بدل تنقلاته من منطقة الأوزاعي إلى الحمراء ذهاباً وإياباً. وأبقى ولده الوحيد المصاب بمرض التوحد من غير دواء ولا عناية، «لأنني عاجز عن توفير دوائه، وعن وضعه في مدرسة متخصصة نظراً لأن تكلفتها، كما أبلغتني إحداها، تصل إلى عشرة آلاف دولار».
وينسحب واقع سليمان، على عدد كبير من النازحين السوريين الذين اكتسحوا سوق العمل البناني منذ أربعة أشهر، «حيث يعمل هؤلاء في ميادين صناعية وتجارية بسيطة، مقابل أجر زهيد يعادل نصف ما يتقاضاه اللبناني في المكان نفسه، فوجدوا وظائف في مواقع سياحية وتجارية كبيرة. ويبحث معظم أفراد الأسر النازحة من سوريا عن عمل في لبنان، حتى لو كان بسيطاً ولا تكفي أجرته لتناول الطعام.
ففي أحد المخابز في لبنان، تم توظيف ما يزيد على 15 فتاة سورية لبيع الخبز والحلويات في الصالة، مقابل راتب لا يتعدى الـ 260 دولاراً شهرياً. وتتكرر الصورة في متاجر بيع الملابس، وفي المطاعم ومراكز التسوق في لبنان. أما سائقو حافلات الركاب الصغيرة، فباتوا يستعينون بسائقين سوريين، يتقاضون بدلاً يومياً يصل إلى 25 ألف ليرة لبنانية (17 دولاراً) مقابل العمل 12 ساعة على الخطوط التي تربط بيروت بالضواحي».
ويتداول السوريون في دمشق قصة أخوين كان أحدهما متطوعاً في الجيش ثم انشق بعد رفضه إطلاق النار على المتظاهرين الذين خرجوا مطالبين بالحرية، وانضم إلى كتائب «الجيش الحر» جنوبي درعا، فيما يعمل الأخ الثاني في الاستخبارات الجوية في المدينة نفسها… وهكذا أصبح كل أخ منهما مع طرف مضاد، وعلى استعداد لقتل أخيه. أبو حسام، 42 سنة، مؤسس جماعة مسلحة. في كل عملية ينفذها يتذكر أن له أخاً في الجيش النظامي: «الصراع هو صراع بين الحق والباطل، أعلم أنه قد يأتي يوم أقف فيه أنا وأخي ضد بعضنا بعضاً في طرفي الحرب، هو اختار وأنا اخترت، وإذا كان هو على باطل يجب أن أحاربه ليتبين الرشد. «وليد» المنتسب إلى الحزب الشيوعي السوري ما زال يؤيد النظام ويدافع عنه ويدافع كذلك عن موقفه: «في حال سقط النظام يعني وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، يعني مصر ثانية، وستحكمنا الشريعة الإسلامية وجبهة النصرة والتيار السلفي التكفيري».
عائلة «الخياط» دمشقية محافظة. السيدة «أم إياد»، 60 سنة، ربة منزل. زوح أم إياد اعتقل مرتين لموقفه الداعم للثورة، وثلاثة من أبنائها مطلوبون لنشاطهم الداعم لـ«الجيش الحر»، وابن آخر قاطعه إخوته لتبنيه موقفاً مخالفاً لموقفهم، وأصغر الأبناء ما زال عسكرياً يخدم في الجيش النظامي. تقول أم إياد: «هذا ابني والثاني ابني، كل منهما بمكان مختلف، نعيش كل أيامنا في الخوف. أولادي مطلوبون والذي يخدم في الجيش قلبي محروق عليه. طلبنا منه أن ينشق ويلتحق بإخوته لكنه رفض، وهو مقتنع، وابني الثالث غاضب على إخوته لأنه يؤيد حكامنا». الانقسام، تضيف مقالة «الحياة»، امتد ليشمل الأقرباء. عمٌّ مع الثورة وآخر مع النظام. هذه مجرد جوانب من المأساة السورية … قليلاً ما يتحدث عنها الإعلام!
الاتحاد