صفحات العالم

هيكـل وتدمير سوريا


خالد الحروب

قبل عدة سنوات استبشر كثيرون بإعلان محمد حسنين هيكل اعتزاله الكتابة بعد عقود طويلة من ممارستها، صحافة وكتباً. كان ذلك قراراً حكيماً متسقاً مع ما تفترضه طبائع الأمور والحياة في كل حالة يتحول معها الاستمرار في ممارسة ما، خاصة الكتابة، إلى حالة سريالية تجمع التدمير الذاتي إلى تزييف الوعي العام. وتتضاعف حكمة قرار الاعتزال عندما تحدث في الوقت الملائم، كاعتزال لاعبي كرة القدم وهم في قمة عطائهم. وعندما يتأخر الاعتزال عن الوقت الملائم تتطور الاعتلالات إلى انحدار سريع. وبعض الكتاب يستمرون في العطاء حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم وتظل أفكارهم مشعة ومتزنة ومواكبة لتغير الزمن. والبعض الآخر ينغلق في زمن معين، أو حقبة تاريخية ما، أو تجربة محددة، ثم يعمد إلى حشر السياسة والتاريخ والتحليل وكل ما هو مستجد ضمن المنظور الضيق الذي اعتاد عليه، ووقع سجيناً له. وهناك طبقة عريضة من الكتاب والمفكرين الذين عاشوا حقبة الحرب الباردة واستعارها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لا تزال حبيسة تلك الحقبة وحساباتها السياسية والاستراتيجية. في تلك الحقبة لم يُنظر إلى الدول سوى بكونها وحدات جغرافية وسياسية مصمتة تتحدد قيمتها في “سوق” الصراع القطبي بحسب تبعيتها وخدمتها لهذا القطب أو ذاك. وقد ارتكبت أنظمة كثيرة جرائم هائلة ضد شعوبها، ولكن لم يتدخل العالم لاستحالة القيام بذلك، ولأن أي تدخل سيصنف على أنه اعتداء من معسكر على المعسكر الآخر.

وفي العشرين سنة الماضية سارت مياه كثيرة تحت جسور السلطوية والسيادة ورفض “التدخل الخارجي” حتى لو قام نظام ما بإبادة شعبه. تطورت مسؤولية عولمة مشتركة تتداخل فيها آليات الإعلام الكاشف مع المنظمات الدولية والحقوقية وجمعيات حقوق الإنسان غير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، وغيرها من مؤسسات قومية أو عابرة للقوميات تلتقي كلها في مربع مكافحة الاستبداد الانتصار للحرية والضغط على الدول الكبرى لتضمين الانحياز للقيم إلى جانب الانحياز للمصالح.

هيكل بقي أسير الزمن الناصري والسوفييتي، في كتبه وبرامجه التلفزيونية. مؤخراً قدم مساهمة أخرى وجديدة في الدفاع المباشر أو المُستتر عن النظام الأسدي وجرائمه الإبادية في حق الشعب السوري. في هذه المساهمة ينتقد هيكل البيان الذي وقعه عدد من المفكرين والمثقفين في مصر، يطالبون فيه بمقاطعة بضائع روسيا والصين، بسبب استخدام الدولتين حق النقض “الفيتو” ضد مشروع قرار يتعلق بسوريا في مجلس الأمن. وهو يرى أن الموقف الطبيعي هو أن نقدم الشكر لهاتين الدولتين بسبب ذلك الفيتو «حتى إذا كانوا يتخذونه لصالح مطالبهم الاستراتيجية، فذلك ما يفعله أي طرف قوي، لكنهم خُدِعوا مرة قبل ذلك في ليبيا، فقد أجازوا في مجلس الأمن قراراً أخذوا الوعود والعهود بأنه سوف يظل في حدوده، وأهمها أن القوة العسكرية الأوروبية الأميركية لن تُستَعمل في ليبيا».

وتابع: «لكن هؤلاء راوغوا وتدخلوا بقواتهم، وبقوات خاصة نزلت على الأرض، وكانت هي التي فتحت طريق طرابلس، وليس لنا أن نلومهم إذا رفضوا أن يُلدَغوا من نفس الجُحر مرتين».

مقولات هيكل، القومي العربي، يجب أن تقوده إلى محاكمة فكرية في محكمة العروبة التي يدافع عنها والعرب الذين يزعم الحرص على مصالحهم. في تصريحاته المتعددة حول سوريا الغائب الأكبر هو الشعب السوري وثورته وانتفاضته التاريخية على الطغيان والديكتاتورية. والحاضر الأكبر هو “المخططات الاستراتيجية” و”الغرب” و”التآمر”. لا يهتم هيكل بتحول سوريا إلى ميدان صراع للدول الكبرى بسبب روسيا والصين ويقول إن من حقهم أن يدافعوا عن مصالحهم الاستراتيجية. لكن لا يفسر لنا هيكل لماذا يدفع أبناء الشعب السوري وسوريا الثمن الباهظ من تدمير بلادهم وحشر خياراتهم بين القبول باستمرار الأسد أو استمرار نظامه على الطريقة اليمنية؟ ليس هناك أدنى تعاطف من قبل هيكل مع الشعب السوري.”مصباح ديوجين” في التحليل الاستراتيجي الذي يتبناه هو “حتمية” الوقوف على الطرف المضاد من الموقف الذي تتخذه الولايات المتحدة، حتى لو أدى ذلك إلى إبادة الشعب السوري. ليس هناك من ساذج يدعي أن تدخل الولايات المتحدة والغرب عموماً في المنطقة قبل وبعد الثورات العربية يأتي من منطلق القيم والحرص عليها. كلنا يعرف أن هناك مصالح تحرك الدول الكبرى في كل المراحل، ومنها مرحلة الثورات العربية، إذ الكل يحاول تدوير الريح باتجاه سفنه.

على كل حال، يريد هيكل من الشعب السوري أن يقدم أرواح أبنائه فداء للمصالح الاستراتيجية الروسية والصينية، ولا يقول لنا لماذا وعلى أي أساس؟ لا يقول لنا هيكل لماذا اتصفت السياسة الروسية والصينية بالجمود وتفويت الفرص خلال وبعيد الثورتين التونسية والمصرية، وقد وقعتا في أهم مواقع النفوذ والتحالف الأميركي الغربي في المنطقة؟ لماذا لم تقفزا وتحتلا مناطق نفوذ جديدة وتؤيدا الثورات وتضعفا النفوذ الأميركي هناك؟ لا أحد يملك الجواب، لكن جزءاً منه على الأقل يكمن في أن بكين وموسكو تخشيان الثورات. والشعب في كل الحالات هو آخر اهتمامات “العملاقين”، وكلاهما، للمفارقة المريرة، سليل ثورة طاحنة في القرن العشرين قامت لتدافع عن الشعب وتعلي من قدر الإرادة الشعبية.

هيكل يتبنى الموقف الروسي الذي رأى أن التدخل الأممي في ليبيا تجاوز حدود التفويض في استخدام القوة العسكرية. ومرة أخرى لم يكن هم الروس والصينيين طموحات وتطلعات الشعب الليبي وتوقه للحرية. ولو لم يكن التدخل الأممي حاسماً وبالطريقة التي كانها، لاستمر القذافي في مجازره ضد الليبيين حتى هذه اللحظة عوض أن تنتهي في أسابيع وتوفر دماءً كثيرة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى