صفحات الناس

هي الحال في المناطق الآمنة/ نجاة عبد الصمد

 

 

نطمئنكم. نحن بخير. وليس مثلنا مَن يصبر على فقد الكرامة.

لا حكومة تخنق أنفاسنا كالزوج الغيور، ولا “داعش” يسطو على حرماتنا، ولا “النصرة” تُقيم علينا حدود الشريعة من قتلٍ إلى رجمٍ وهرس رؤوس، ولا جيشنا العقائدي يروّضنا بمجازر السكاكين أو البراميل أو السكود أو الكيميائي، ولا حتى بالغاز المسيل للدموع، ولا طوائف أخرى تسبق حقدنا بحقد، وتنحرنا وننحرها بقلبٍ بارد.

يسهر على أمننا جيشُ دفاعٍ وطني كثير، حتى إنه يتكاثر بالانشطار وينتفخ كالخميرة السحرية.

نحن المتفرجين المسالمين، نحن شهود العرض اليوميّ لشهداء الجيش في المعارك البعيدة، لعذوبة ابتساماتهم في الصورة تحت الشريط الأسود، نهتف لموكب جنازاتهم البهّية: يا إلهي ما أكثر الرصاص في بلادي، يا إلهي كم يُعلي الرصاصٌ قامةَ الشهيد!

ونحن المشاة هواة الجري السريع والبطيء، نروح إلى قلب المدينة، نتعثّر بأكوام المتاريس والإسمنت وصبابير التراب أمام دوائر الحكومة، الحكومة التي لا ندري ماذا تشتغل، نرمي السلام على جنودها المتعبين الخائفين منا، نقول لهم: نحن لا نعضّ. نسقيهم الماء ونضيّفهم حبّات الملبس فينزعون عنها غلف السيلوفان بلهفة.

نبحث لخطواتنا في الساحة العامة عن دروبٍ حلزونية بين البسطات الكثيفة المختصة ببيع كل شيء، حتى لبن العصفور، والتبليغ عن كل شيء، حتى عن العصفور صانع اللبن.

في الساحة لا نشتري شيئا. نتسلّى بالفرجة على العمّال الواقفين منذ الفجر في انتظار من يكتريهم. يدخّنون ويسحقون أمانيهم وأعقاب سجائرهم على الأرض البردانة مثلهم. في آخر النهار يعودون خائبين وحاقدين، وينقلبون شحاذين أو سارقين أو وطاويط ليل.

كل أسباب الهناء طوع بناننا: نلتقي بأصدقائنا على طوابير الخبز، نتبادل العتاب على انكفائنا جميعاً في بيوتنا، وعبر العتاب نستعيد شهيتنا للنميمة وللشائعات الرهيبة ولتأليف الفضائح المجلجلة. قد لا نطال خبزنا بعد شجارٍ أو اثنين، ولو طلناه لشممناه، وشكرناه، ثم حضنّاه وسرنا منحشرين في السرداب المتبقي من طرقٍ تتحنّط عليها السيارات أياماً في طابورٍ خرافيّ الطول ينتهي أمام الكازية، في انتظار البنزين المغشوش والعدّادات الكاذبة. وإن حاول مغامرٌ مغرورٌ أن يخترق الطابور المصطفّ بنزاهةٍ، هدّدناه بالرصاص، الرصاص الكثير في مسدساتنا الشخصية، الحكيمة أكثر من عقولنا.

لا عمل يثقل فكرنا، أو يتعب دلال أجسادنا. وظائفنا الحكومية رتيبةٌ ومحفوظة عن ظهر قلب. مشاريعنا الشخصية مؤجلة، ولنا من الاسترخاء حصصٌ طويلةٌ تحت البطانيات الحنونة في غياب الكهرباء.

وهذه الكهرباء تطلّ وتغيب، وتعود مهزوزة التواتر، ومن عنف شوقها تضرب أجهزة الترفيه في بيوتنا، فتشويها، لكننا لا نكترث. ولا نصلح ما تعطّل.

ونرمي الزبالة أكواماً على الأرصفة الحكومية المهترئة، ونحرص أن تظل بعيدةً أمتاراً، عن بوّابات بيوتنا النظيفة، كي تقرّ عيون نسائنا المهووسات بمدح النظافة في صباحياتهن في الحارات.

ولم نعد نقتني إلا الثياب الأوروبية المستعملة. هي أرقى من الوطنية الوضيعة، وأقرب إلى تواضعنا من صرعات ماركات الناتو المتآمر أو من حكومة أردوغان المنافق، أو من الصين الركيكة.

أذهاننا آلات حاسبة لطرح الرفاهيات المخجلة والأساسيات الوقحة في أزمنة الغلاء. نضبطها كلها على مزاج الجيب، ونتعزّى: أن أسعارها جميعاً حلّقت أعلى من حجارة أيدينا.

تعدّل مزاجنا: صرنا فجأةً نتداوى بالزهورات حين نمرض، ونفضّل البرغل المسلوق وحشيش البراري وسائر الأغذية الـ”أورغانيك” ونبغض الفروج واللحمة.

يتبادل الجيران في القرى البعيدة فطائر القمح البلدي المرشوشة بالكشك والماء، وينطقون بعباراتٍ فيها الكثير من الامتنان والتسبيح بالنعمة، ويروحون جماعاتٍ تؤدّي التحية بأياديها الرخوة للفاكهة الجليلة فوق رفوف الدكاكين.

ونكثر من شرب الماء. الماء شفاؤنا ورواؤنا. والمتّي مشروبنا الأشهى والأغلى مذ تضاعف سعر الباكيت عشرة أضعاف.

ونكتفي بالسياحة في أطراف المدينة. نتأمل الأبراج الأجنبية الجديدة والمهيبة، العالية والملونة والنابتة من أموالٍ حلالٍ، والمرخص لها بعقودٍ نظامية، والمشيّدة بعرق أهل البلاد، والشاهدة على افتراءاتنا حول إجحاف الحكومة في حق هذه المدينة الحائرة بين عهرٍ وطأطأةٍ وبكمٍ ولامبالاة.

ونحفظ شعار “القيادة فنٌّ وذوقٌ وأخلاق”، فنقطع الطريق متى شئنا على الإشارة الحمراء، ونركن السيارة في وسط الطريق ولا نخاف أن يزعّلنا الشرطيّ بغرامة مالية، أو حتى بتنبيه أو انتباه. ولو تجرّأ شرطيٌّ نزيهٌ على فتح فمه ليعاتبنا قذفناه بألف شتيمة لقمع مزاحه السمج.

وتغوينا المغامرات. نسرق بخفّةٍ ما شئنا من الجزادين أو البيوت أو الممتلكات العامة ولا نخشى ويلات العقاب، ففي صحبة السلاح يطال الشاطر ما يريد.

ونحمد الله على النجاة من الخطف الصديق أو العدوّ، تماماً مثلما نحمده على النجاة من حفرةٍ مهولةٍ نراها جميعاً ولا تراها عيون البلدية.

ألفنا بيوتنا. لا نفارقها إلا بعد أن نكتب وصايانا، ونتشهّد على أرواحنا لو اضطرّنا شأنٌ طارئٌ إلى السفر نحو العاصمة.

ونحن نقتفي وصايا شيوخنا، فلا نزعج أحداً.

تربّينا منذ الشهور الأولى من دروس الأحجار والعصي الكهربائية والسحل على الطريق حتى باصات الأمن والتعذيب في السجون، فلم نعد نؤرّق الحكومة اللطيفة بتظاهرات الـ 500 ليرة. ونشكرها – هذي الحكومة – التي تحترم مشاعرنا فتحتفظ بجثامين أبنائنا المشوهة وتوفر علينا تكاليف دفنهم.

ولاحقاً تربّينا من دروس الأحقاد بين ورثة عليّ وورثة معاوية، وأحقاد الجميع علينا نحن الزنادقة المستباحة دماؤهم وأعراضهم.

وننتظر أن تكمل الحكومة (وأصدقاؤها وأعداؤها من العالم الهمجي والمتحضر على السواء) تنظيف البلاد من سكانها لتتفرّغ لتدليلنا بالإصلاح والخدمات المواطنية الرفيعة المستوى، كما يليق ببقيةٍ من شعبٍ داجنٍ وسعيد.

* طبيبة وكاتبة سورية مقيمة في السويداء

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى