واشنطن وموسكو وسياسة فرض «الأمر الواقع» في المنطقة/ مهران سالم ()
تتباين الآراء بحدّة بشأن ما إذا كان لدى الرئيس الأميركي باراك أوباما استراتيجية واضحة ومحدّدة للسياسة الخارجية الأميركية أم لا؟، فهناك من يعتقد أن سياسات البيت الأبيض على الصعيد الخارجي لا تنتظم ضمن أي معيار، أو منظومة ثابتة ومستقرّة، إنما مجرد ردود فعل على ما يقع من تطورات وأحداث دولية هنا أو هناك، في حين يرى آخرون أن هذه السياسات تستند إلى «نسقٍ ثابت« يقوم على ركيزتين أساسيتين، أولاهما: تقليل الانخراط الأميركي في الشؤون الدولية، خلافاً لما كان عليه الأمر في عهد سلفه جورج دبليو بوش، لصالح التركيز ـ بدلاً من ذلك ـ على المشاكل الداخلية. والثانية العمل والسعي لاحتواء الخصوم، حتى لو اضطرّه ذلك لتقديم تنازلات، على أمل تغيير سلوك هؤلاء المعادي للولايات المتحدة.
يعمّق من حدّة هذا التباين ويُظَهّره أكثر، سياسات أوباما المتردّدة والمرتبكة تجاه العديد من القضايا المطروحة في العالم، بدءاً من الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وانتهاءً بالنزاع في أوكرانيا، مروراً بالحروب الضارية التي تشهدها بعض الدول العربية (سوريا، العراق، اليمن، ليبيا.. الخ)، وخاصة بعد بروز وتغوّل تنظيم «داعش«، واضطرار الرئيس أوباما إلى إعلان الحرب عليه «مرغماً«، بعد أن جرّته الأحداث والتطورات إلى ذلك مكرهاً!.
الثابت الوحيد تقريباً في سياسات الرئيس الأميركي الخارجية كان هو التركيز الشديد على تحقيق اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، مهما كان تعارضه مع مصالح بعض دول المنطقة، ومع قيم العدالة والمساواة وانصاف الشعوب، ومهما كانت «عواقبه« المحتملة كذلك على علاقات واشنطن مع حلفائها الآخرين في المنطقة.
في المقابل، فإن سياسات موسكو الخارجية واضحة ومعلنة، بل شديدة الوضوح في كثير من الأحيان، لا تحتمل أي لبس أو تأويل، كان آخرها تصريحات الرئيس بوتين في بطرسبرغ التي اعتبر فيها أن سياسات بلده «ليست عدوانية، إنما تدافع عن مصالحها بإصرار أكثر«!، مشدداً على مواقفه المعروفة من القضايا المثارة، بما في ذلك الأزمة السورية، حيث عاد وأكد على «دعم الرئيس الأسد وحكومته«، مع ابداء استعداده لـ«العمل مع الأسد وحضه على التعاون مع المعارضة السورية البنّاءة (المقبولة من دمشق)، من أجل تمهيد الطريق إلى الإصلاح السياسي«!!.
هنا، يحار المرء فعلاً إن كان صناع القرار في العاصمة الروسية يفكرون ملياً كيف يمكن، أو كيف ينبغي، لأغلب السوريين، بعد أربع سنوات من القتل والدمار والخراب، ومئات آلاف الضحايا وملايين النازحين والمهجرين في الداخل والخارج، وتفتيت البلد وتمزيق نسيجه الاجتماعي، أن يتقبلوا فكرة إجراء «إصلاح سياسي« تقوده السلطة ذاتها، المسؤولة عن كل ذلك، والتي لا تحتمل وجود أي صوت مغاير لها، في وقت يقبع فيه عشرات الألوف من الناشطين المدنيين في أقبيتها وسجونها في ظل شروط لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً؟!.
وفي المحصلة، فإن ما يلفت الانتباه في سياستي واشنطن وموسكو، وعلى رغم افتراقهما تجاه عدد من القضايا الدولية المطروحة، هو اتفاقهما، أو تواطئهما، في المقابل، تجاه العديد من الملفات الأخرى؛ ومنها ملف البرنامج النووي الإيراني، والأزمات المتفاقمة في كل من العراق وسوريا واليمن. وسواءً في اختلافهما أو اتفاقهما، فإن سياساتهما هذه قادت وتقود في مآلها ونتائجها إلى حال من الشلل أو العجز عن المضي قدماً في الوصول إلى تسويات، أو وضع حلول مقبولة، قابلة للترجمة والتطبيق في أي من الساحات المعنية.
وعلى ذلك، لم يعد ثمة فارق يذكر بين أن تمنع موسكو صدور قرار في مجلس الأمن، عبر ممارسة حق النقض (الفيتو)، كما هو الأمر تجاه الأزمة السورية، وبين أن (تمتنع عن التصويت) ليصدر هذا القرار، حتى لو كان تحت الفصل السابع، كما هو الحال في شأن الأزمة اليمنية!. فالمساران سيتجهان في النهاية إلى «طلاسم« و«ألغاز« بيانات تصدر، (أو كان من الممكن أن تصدر)، عن «مؤتمرات« أو «مشاورات« تعقد في جنيف، ولا بد لها أن تتكرّر في «جنيف2 و3 و…«، في محاولات لا تنتهي لـ«فك« طلاسم وألغاز هذه البيانات؟!.
هذه السياسات تدفع كذلك نحو قبول فكرة التعايش أو التكيف مع سياسات «الأمر الواقع«، التي تعني ترك شعوب المنطقة لقدرها أو مصيرها العبثي، بعيداً عن أية رهانات تعوّل على تدخل «المجتمع الدولي«، أو تتكل على حقوق، أو شرائع وقوانين دولية مُقرّة أو مُتعارف عليها، بشأن الانتهاكات المتصلة بحقوق الانسان وحماية المدنيين!.
سياسات «الأمر الواقع« هذه تفضي كذلك إلى مزيد من «الاستنقاع« في الساحات «المتعاركة«، وخلق تعقيدات ومشاكل إضافية، فضلاً عن تلك القائمة أصلاً، في وقت باتت تتشابك فيه أسباب وعوامل الصراعات المحلية مع التدخلات الإقليمية والدولية على نحو لا فكاك منه. كل ذلك بهدف تحقيق مكاسب سياسية، أو انتزاع مزيد من التنازلات، لهذه العاصمة الإقليمية أو تلك الدولية، في صراعات ما انفكت تتصاعد وتزداد حدة على تقاسم النفوذ الإقليمي والدولي بين العواصم المعروفة!.
الرئيس أوباما الذي سبق ووضع كتاباً بعنوان «جرأة الأمل«، لخّص أخيراً ـ كما نقل أحد الصحافيين الذين رافقوه على متن الطائرة الرئاسية ـ سياسته الخارجية بعبارة واحدة تقول: «لا ترتكب حماقات وسخة«!.
هنا يكمن الفارق الكبير، كما يستنتج بعضهم، بين الطموحات التي لا حدّ لها، و«نعم نستطيع«، و«جرأة الأمل«، (التي ميّزت حملة أوباما الانتخابية الأولى)، وبين القدرة على القيادة الفعلية!. ثم إن السؤال الذي يطرح نفسه هو؛ ماذا ستفعل حين يرتكب غيرك «الحماقات الوسخة«؟، هل تكتفي بالتفرج عليه ـ وأنت تضع رجلاً على الأخرى ـ والتفاخر قائلاً: «حسناً، إن غيري هو من يرتكب هذه الحماقات وليس أنا«؟. ألا يغدو صائباً، آنئذٍ، وصفك بـ«القائد الأعلى للخيبة«، وليس «القائد الأعلى للقوات المسلحة« لأقوى دولة في العالم؟!.
() كاتب من سوريا
المستقبل