وانها لثورة
عباس بيضون
هل هي ثورات، يقول البعض انها ليست ثورات. انها قلاقل فحسب، لنقل انها انتفاضات فقط، يظنون انهم هكذا يردونها إلى حجمها الطبيعي، انها اقل من ثورات، يمكن لساخر ان يشكرهم على ذلك، ان يقول انهم هكذا يرفعون عنها وصمة الثورة، لكنهم يريدون العكس تماماً، يريدون ان يخفضوا من شأنها هكذا يقولون انها ترمي إلى تبديل أشخاص لا إلى إزالة نظام، انها لا تطال أسس المجتمع. اننا امام تبديل لا تغيير. لا يستحق ما يجري اسم الثورة، هذه بالطبع نتائج تربية قامت على تصنيم الثورة لا على النظر إليها كحلم استئصالي كامل، كعملية إحراق للجذور. هذه ثورة نظرية وهي في النطاق العملي لن تجد ترجمتها في أقل من بادرة إبادة عمياء. تاريخ الثورات حافل ببوادر من هذا النوع. لكن تحطيم الأصنام انتهى غالباً فيها بنصب أصنام اخرى. هناك أيضاً طاحونة الدم وطاحونة العنف في العادة حين تبدأ الثورة بأكل أبنائها. هناك سوابق عديدة لثورة سلمية لكننا نتردد في إطلاق الثورة على حراك سلمي، نجده أقرب إلى مسيرة منه إلى ثورة. لقد أصرّ المتظاهرون على سلمية تحركهم ولاحظوا ان عنف الدولة يرمي بالدرجة الأولى إلى إخراجهم منها. حتى في اليمن المسلحة حتى الأسنان أصرّ الثائرون على سلميتهم وبخاصة حين كانت الغارات تشن عليهم ويرون بأم أعينهم رفاقهم يسقطون تحت وطأة السلاح. المصريون والسوريون لم يستدرجوا إلى العنف رغم تسليط بلطجية وشبيحة عليهم، وإذا كان هؤلاء في الغالب أمنيين يتظاهرون بأنهم مدنيون من شذاذ الآفاق، فإن أحداً لم ينخدع بهم وبقيت سلمية الثورة مبدأ أعلى. لقد انتبهوا إلى ان هذه السلمية هي ما يخيف النظام وهو يسعى إلى إخراجهم منها. بهذه المسرحية يتلاعب بالجميع ويريد ان يقتل، أن يردع بدون أي لائمة. أن يخيف بدون ثمن. المسرحية أحياناً تبدو مركبة أكثر، فهؤلاء الأمنيون في دور المدنيين الزعران ينجمون فجأة ليصوبوا على الجميع، الجمهور والأمن معاً. هكذا يكون انفتح الباب لشر غامض، عصيان المتمردين أتى بهذا الشر غير الموصوف. شر المتمردين وعصيانهم لأوليائهم ينقلب على الجميع، لقد فتحوا الباب له وها هو يسود هكذا ويحكم. هذه المسرحية لم تستفز المتظاهرين، لم يسعوا حتى إلى كشف حقيقة هؤلاء المتنكرين بثياب المدنيين الزعران. تركوا الأمن يتابع لعبته وفهموا عندها أكثر أن سلميتهم قوة لهم. ان عنف النظام لا ينفع مع الملايين ومئات الألوف، وبمجرد ان يتعب من القتل يجد نفسه محاصراً بمئات الألوف وعندها لا يعود ممكناً تسليط النار على الجميع. سلمية الثورة قد تطعن في جذريتها. يتراءى لكثيرين ان العنف وحده يقيم نظاماً جديداً ويدك نظاما قديماً، بدونه تغلب التسويات والمساومات. الخيال الابوكاليبسي لا يقبل ثورة سلمية. لم تدشن تونس بالتأكيد عصر الثورات السلمية فلها سوابق، لكن تونس أرست الثورة السلمية وجعلتها طابعاً معاصراً. لا يمكن الاستيلاء المسلح على دولة مسلحة بقدر ما يمكن تفكيكها وتحييد جهازها المسلح. إن الثورة ضد التوريث والسلالات الرئاسية الضالعة مع طغمة برجوازية في نهب الخزانة، هي ثورة من أجل الحرية والتعدد وهما قيمتان جديدتان وجذريتان. بدلا من التراص الاجتماعي والشعبي. هناك حق الانفراد وازدهار الفرديات، هناك السلطة التي يصنعها الشعب وتظل تحت رقابته لا السلطة التي تصنع هي الشعب وتبقيه تحت رقابتها الايديولوجية والأمنية. فكر ماركس أن الإضراب العام يساوي الثورة، الآن نجد بدائل للإضراب العام، الثورة السلمية غنية بهذه البدائل. انها لا تنتهي بتنصيب حاكم آخر بل تستمر في التطهير والمحاسبة والرقابة. الديموقراطية هي أيضاً ثورة، وثورة جذرية بكل معنى الكلمة. انها ضد الحكم السلالي والعلاقات السلالية، ضد التراص الاجتماعي الذي يستمد من النموذج القبلي، ضد البقايا البدوية والريفية أو التمثلات البدوية والريفية في السلطة. انها ابنة المدينة والعلاقات المدينية. هكذا لا نجد أكثر راديكالية من الثورة السلمية. وهكذا تستحق هذه اسم الثورة. بل تستحق وصفها بالجذرية، فما تفعله ليس استبدال أشخاص بأشخاص بقدر ما هو إرساء نموذج آخر لعلاقات السلطة، أي نظام آخر. لم تكن الثورة البلشفية سوى انقلاب عسكري أعقب حرباً أهلية. ان التظاهرات المليونية في القاهرة والإسكندرية والاعتصامات المليونية في ميدان التحرير كانت من الزخم والقوة بحيث تفكك النظام تحت وطأتها وضغطها. لقد تحرك الشعب باستقلال تام، بالاحرى وجد الشعب ولن تستطيع قوة ما أن تخرجه من الشارع بعد الآن، لن تستطيع أي قوة ان تصادر تحركه أو توظفه لنفسها أو تدفعه إلى مسيرات مشبوهة. لقد وجد وسيمارس من الآن فصاعداً قوته واستقلاله. لقد انتقلت السياسة الآن إلى قطب آخر. تغيرت بالتأكيد، ومنذ الآن سيكون للشعب والحرية والمؤسسات والسلطات تعريف آخر. هكذا تكلم سعيد عقل بلغ المئة ولم يقع تحتها تماماً، كما حصل لميخائيل نعيمة. أوفى سعيد عقل على المئة. هكذا سيكون للأدب اللبناني جد شرعي. انه يستحق بالطبع احتفال بكركي، فمنذ نعومة أظفاره لم يخالف الإنجيل ولو بشعرة واحدة. حاول أن يخترع لاهوتا موازيا، وبالفعل أحبه الله وأعطاه الكثير، دزينة مواهب تقريباً وعلمه كل شيء. وهو أيضاً علم الآخرين بنعمة أبيه السماوي كل شيء. وصيه واحدة لم يتعظ بها وهي حب الجار وحب القريب، في الواقع كرههما وخاصة عندما كانا يشاركانه في أرضه، كرههما كثيراً واختال كثيراً عليهما. كانا هنا فقط ليعرف مدى تفوقه وجماله وحكمته. بالفعل كان جميلاً جداً لكنه أحب جماله كثيراً ولم يمنحه لإنسان، فتنته نفسه ولم يجد أحداً يستحقها. كان بنعمة أبيه السماوي مخلوقا إلهياً وجعل يخاطب المطلق. عاش مع القيم السبع والمبادئ الاحد عشر والمدن التسع والوصايا الست، عاش كالآلهة مع الأعداد المقدسة ومع الهنيهات التي تقع في المطلق ومع الساعات الذهبية، أحبته النساء وأحبه الرجال لكنه كان أقنوماً خالداً وفوق الحب والكره. لم ير القبح ولا ذاق المرارة ولا عرف عاقبة الخسارة أو الخيبات. ظل في سمائه الصغيرة لا يرى الدم يسيل من السكاكين، الدم الذي يملأ الشوارع. حين احتربوا تحت نافذته لم يراجع نفسه، ظلّت له من نفسه فتنة كافية، ظل له من نفسه شريكاً أعظم. ظل له، من نفسه، الواحد الذي لا يتجزأ، الواحد الذي لا يرى الكسور. حين سقطت الأعداد وتكسرت تحت نافذته لم يشعر. حين انتهى العالم من حوله لم يشعر، ظل فوق الحزن والفرح، فوق الحب والكره وكان جميلاً، كما يقدر لإله، كما يقدر لمخلوق صنعته الخلود. ظل طاهراً ونظيفاً كما يقدر لمن تأله طفلاً وشرب من كأس الآلهة. لم يتعظ بالوصية التي توصي بحب الجار وحب القريب. تلك هفوة واحدة ولن تحسب عليه، لكن من سحره جمال نفسه سيغضب الآخرين. من فتنته صورته خبله جماله. من أوحشه جماله وصرعه مرة واحدة ستخيله المسافات وسيبحث عن صورته ولن يكف. سيكره من يجده في قدسه. سيعبد نفسه حتى الكفر بالباقين. في كل حال لن يراهم وفجأة في هذه الذات المستوحشة يلمع الخنجر. فجأة وهو يتعبد يتناول الخنجر. في افتتانه بالواحد الذي هو يروح يحلم بالقتل، يضيف وصية جديدة «على كل لبناني ان يقتل فلسطينيا». القتل بدون كره، القتل بدون انتقام، القتل فقط ليكون هناك قربان، ليقبل الإله هذه الأضحية. لتتم العبادة وتتم التضحية ونقتل لا الابن لكن الجار والقريب. مرة قال برونون السيريالي الحقيقي هو الذي ينزل إلى الشارع ويطلق على العامة. سول بيلو اعتبرها فاشية. هكذا يتكلمون في الخارج، من أكثر من أحب نفسه يصير فاشيا، من هام بنفسه يصير قاتلاً. سعيد عقل وصل إلى المئة. صعد الدرجات كلها ووصل منهوكا. لقد وصل ونال جائزته قداساً. ما أشق الطريق ما أخف الجائزة.
السفير