صفحات العالم

وباء المجزرة

حـازم الأميـن

“القتل الديني” الذي شهدته أوروبا في قرونها الوسطى وبعدها بقليل، هو ليس ذلك الذي نشهد فصولاً منه في أيامنا هذه، فصنوف العنف التي رافقت ذلك الفعل تنطوي على فعل فردي، ومن كانوا يُكفرون أو يُزندقون في ذلك الزمن كانوا أفراداً بعينهم، وكان ذلك يجري كإجراء عقابي على قناعات غير سابقة على حامليها. الكاثوليكي المتحول الى البروتستانتية هو من أجرى التحول وهو المُعاقب، والأخير حين أقام كنيسته شرع يُعاقب أفراداً من رعيته على جنوحهم “الزندقي”.

لا، ليست مسافة قرون هذه التي تفصلنا عن ذلك العالم، فموتنا من طينة أخرى، وجرائمنا أقل “ثقافية” وأقل جوهرية من تلك الجرائم. انها الأوبئة في مقابل الأمراض. الكوليرا في مقابل السرطان. الموت السهل في مقابل الموت الجوهري. لا أفكار وراء جرائمنا ولا هموم تتعدى حنق الزعيم الغاضب والمُهدد.

جمهور نادٍ رياضي لبناني يهتف بعد فوز ناديه لبشار الأسد في يوم ارتكاب الأخير مجزرة البيضاء في بانياس. صور أطفال أحرقت أطرافهم وهم أحياء، وصور جمهور النادي يهتف انتصاراً للجاني. كم يبدو المشهد سهلاً، فما على الجمهور إلا ان يُزيح صور الأطفال القتلى حتى يتمكن من اطلاق العنان لحناجره دعماً لقاتل.

ثم إن صمتاً ساد الضمائر، فعلى هذا النحو ننفي وقوع المجزرة. أن لا نوردها في صحفنا يكفي لأن تكون غير واقعة. وكم يبدو ذلك سهلاً وغير حقيقي.

ليس “قتلاً دينياً” ما شهدته بانياس، فالرجل الذي قاد القتلة هو “يساري علماني” على ما قالت العرب. إنه قتلٌ عارٍ من أي تسمية أو تعريف. ذلك الطفل الذي أُحرقت أطرافه قتله رجل لا يؤمن بشيء. رجل في العقد السادس غريب الأطوار قدم من لواء الإسكندرون ولا يجيد اللغة العربية، لا أبرياء في عُرفه ولا أطفال. فقط زعيم مُهدد بالسقوط. إنه الزعيم نفسه الذي هتف لمجده جمهور النادي الرياضي اللبناني. وللمصادفة فقط، فإن الجمهور هذا لا يعرف للقاتل الغريب وجهاً ولا لغة، كما أنه لا يُحب الرئيس، ولا يرغب به رئيساً له، فقط يُحب فِعلته، ويُحب أيضاً أنه بعيد وأنه يقيم في بلاد أخرى.

إنه قتل يُحدث دِواراً لا خوفاً. قتل غير مفهوم. قتل يسترعي سؤالاً من ذلك النوع الذي يمكن ان يُطرح على تلامذة مبتدئين: لماذا قتل زيدُ عمر؟ لا إجابة طبعاً، ذاك أن السؤال سيتلاشى بعد أيام. سنتجاوزه كما تجاوز سكان بغداد مرض الكوليرا في مطلع القرن العشرين، بعد أن قضى على أكثر من نصفهم.

في قرون أوروبا الوسطى الجميع كان يعرف لماذا قتل زيد عمر، وكان التحول جوهرياً، كما القتل تماماً. لماذا قدِم ذلك الرجل من لواء الإسكندرون الى الساحل السوري؟ لا تكفي الإجابة المعهودة، ذاك أن الرجل لا يؤمن بشيء! والرئيس المُهدد ليس رئيسه، وهو لا يُحب أن يكون رئيسه. إنه الوباء، ولا شيء غير الوباء. إنها الجماعة حين تقتل ضمير فرد وحين تقتل ذكاءه، وإنها اللحظة التي تنخفض فيها إنسانيتنا إلى مستوى مجتمعاتنا.

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى