وزارة الإعلام السورية تمنع ذكر ‘ثوار الغوطة’ في مسلسلات البيئة الشامية/ محمد منصور
النظام يستجير من رمضاء الواقع بإطفاء نار المسلسلات
دبي ـ ‘القدس العربي’: اعتادت مسلسلات البيئة الشامية أن تبحث في تركيبتها الدرامية، عن قصص البطولة الوطنية، لتغليف ثرثرتها الحكائية واستعراضها الفلوكلوري بقيم النضال الوطني.
كانت تعود تارة إلى زمن العثمانيين، لتصور الولاة المتسلطين بتعابيرهم الحادة الصارمة وهم يتحدثون العربية المكسرة، ويرددون بمناسبة وبلا مناسبة: (أدب سيس) و(يوك أفندك) و(تمام أفندم)… وأخرى إلى زمن الفرنسيين لتتحدث عن بطولات من نوع آخر ضد ضباط فرنسيين متعجرفين يتحدثون العربية المكسرة إنما بلكنة فرنسية، ويدخنون البايب أو يشربون النبيذ والويسكي!
في كلا الحالتين كانت أحياء دمشق الشعبية ثم قرى وبساتين غوطتها هي خزان العمليات البطولية الافتراضي… وأقول (الافتراضي) لا لأنفي صفة البطولة عن ثوار غوطة دمشق، بل لأشير إلى أن هذه الأعمال لم تكن تعنى بالتوثيق التاريخي لتلك المعارك، وفي تاريخ الثورة ضد الفرنسيين عشرات الكتب والمراجعة الهامة، بل كانت تذهب إلى الخيار السهل، وهو اختراع أي قصص أو خطوط يمكن أن تسعف خيال مؤلفي تلك الأعمال الكسالى!
محو ذكر ثوار الغوطة!
المفارقة الطريفة الآن أن لجنة صناعة السينما والتلفزيون في سوريا، أرادت ان تلغى (ثوار الغوطة) من قاموس دراما البيئة الشامية المتداول. فبعد أن صارت غوطة دمشق خزان الثورة ضد نظام بشار الأسد، منذ اشتعال المظاهرات الأولى في آذار من عام 2011، قررت العقلية الرقابية البلهاء والساذجة أن تلغي أي ذكر لثوار غوطة دمشق ماضياً وحاضراً.. بل ولأي ثوار في كل مكان!
يقول نص كتاب (لجنة صناعة السينما والتلفزيون) الذي تم تسريبة ونشر على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يحمل الرقم (909/ص) بتاريخ: 22/12/2013، والموجه لشركات الإنتاج التلفزيوني:
السيد الزميل المنتج المحترم… تحية طيبة وبعد:
حرصا من لجنة صناعة السينما والتلفزيون على عدم تورطكم في شراء النصوص ودفع ثمنها، ومن ثم عدم الموافقة عليها أو طلب تعديلها من قبل الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، نورد لكم فيما يلي الملاحظات الواردة من وزارة الإعلام في كتابها المقدم للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون برقم 12411/ وتاريخ: 11/12/2013، بالنسبة لتصوير الأعمال التلفزيونية (البيئة الشامية) حيث يتعهد المخرج والمنتج بالتأكيد على مايلي:
– لا صور لعلم الانتداب (العلم السوري السابق).
– لا ذكر لعبارات (ثوار الغوطة أو ثوار أي مكان آخر).
– الشيخ ليس المرجعية بمفرده.
– دور المرأة الحضاري.
– دور العلم والتعليم والمثقفين.
– تظهير الجانب الحضاري وليس المتخلف لدمشق.
كما نؤكد على البند الخامس من كتاب الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الوارد إلينا برقم 907/ وتاريخ: 18/12/2013 بمراعاة حساسية الظروف التي تمر بها البلاد، ونأمل كل التأثير لجهة عدم تجاوز الدولة بالإنتاج والتصدير داخل أو خارج الجمهورية العربية السورية بدون الموافقة الرسمية. نرجو التفضل بالإطلاع والتقيد، مع عدم التذكير بعدم البدء بتصوير أي عمل قبل عرضه على دائرة التقويم الفكري في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لأخذ الموافقة أصولاً، وعدم عرضه أو تصديره خارج القطر إلا بعد الحصول على موافقة التصدير أصولاً من الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
رئيس لجنة صناعة السينما والتلفزيون/ نائب رئيس اتحاد المنتجين العرب بسام المصري.
انتهى نص الكتاب بفقراته الست، وتحذيراته الصارمة من مغبة تجاوز موافقة رقابة وزارة الإعلام والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، من أجل الرقابة على الماضي، في وقت تعيش فيه البلاد ثورة عارمة دمرت عشرات المدن والقرى والبلدات وهجرت وشردت الملايين داخلاً وخارجاً، وصارت ثلاثة أرباع البلد ومنافذها الحدودية خارج سيطرته!
علم (الانتداب) الذي لم يكن محرماً!
والواقع أن البنود الست التي تدعو وزارة الإعلام لتحاشيها، كانت حاضرة بقوة ومباحة قبل الثورة. فما يدعونه (علم الانتداب) كان يظهر في معظم الطوابع البريدية التي كانت تصدرها المؤسسة العامة للبريد في مناسبات أعياد الجلاء، باعتباره (علم الاستقلال) وقد ظهر بقوة هو وثوار الغوطة- في الأغنية التلفزيونية المصورة (انا سوري يا نيالي) التي أخرجها بسام الملا عام 1996 وأنتجتها الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون نفسها، التي قررت الآن حظر هذا العلم نهائياً، وقد صار اسمه بقدرة قادرة (علم الانتداب) لكنه ممنوع من الظهور.. حتى في الأعمال التي تتحدث عن زمن كان يرفع رسميا فيه، لأنه صار علم الثورة السورية ضد حكم الأسد!
ولا غرابة في ذلك فقد اعتاد هذا النظام أن يغير كل شيء على هواه، ودون أي ذرة خجل من ذاكرة أو تاريخ!
أما (ثوار الغوطة) فقد كان يتم التغني بهم وببطولاتهم في السهرات التلفزيونية والبرامج التي تتحدث عن قصة الجلاء، قبل أن يصبحوا من المغضوب عليهم، بعد أن تجرأوا على الثورة ضد حكم الأسد للأبد… وضد تحويل الجمهورية إلى ملكية يورثها حافظ الأسد لبشار، وبشار لحافظ الثاني، ويعيش السوريون أجيالا واجيالا محرومين من حق انتخاب رئيس جمهورية كما في كل النظم الجمهورية!
مظالم الريف الشامي!
وليس غريباً على نظام الأسد أن يكن كل هذا الحقد على ثوار الغوطة، وان تطاردهم رقابة وزارة إعلامه حتى في المسلسلات التلفزيونية وفي مشاهد تمثيلية، فالنظام الطائفي الذي اختبأ وراء حلف الريف ضد المدن، وحاول على مر عقود أن يذكي الحساسيات بين الريف والمدينة، وأن يهمش أبناء المدن ونخبها، ويوهم أهالي الأرياف أنه يحكم باسم العمال والفلاحين ضد التجار والصناعيين المستغلين، تحالف مع معظم تلك الأرياف، لكنه لم يستطع التحالف والتصالح مع ريف دمشق تاريخياً!
ظل يضمر العداء للغوطة وأهلها، التي أخذت بجريرة كرهه لدمشق والدمشقيين. فاستملك الأراضي، وصادر البساتين، وبنى المستوطنات الطائفية في (معضمية الشام) بعد أن نهب أجود أراضي الزيتون المعضماني، الذي كانت تشتهر به على مر قرون، وبنى الضواحي التي سماها باسم (الأسد) لإسكان ضباطه في حرستا وغيرها.. وعندما لاحت نذر الربيع العربي، كانت تقارير مكتب الأمن القومي لديه، ترجح أن تكون الثورة – إن اندلعت- في ريف دمشق وغوطتها، بسبب المظالم الكثيرة التي خص بها النظام أهالي الريف الشامي.. لكن الثورة انطلقت من درعا بسبب حماقة مدير المخابرات والمحافظ فيها، مع أن تقرير مكتب الأمن القومي لم يكذب توقعاته، فسرعان ما اشتعل الريف الشامي بالمظاهرات والاحتجاجات لتستيقظ جراح الماضي، وكل ذكريات عهود القهر والظلم ومصادرة الأراضي والاعتداء على البشر والشجر!
ويبدو أن عبقرية الرقيب الأسدي، المستجير من رمضاء الواقع بإطفاء نار المسلسلات، دفعته ودفعت وزارة الإعلام معه، لإيراد تعبيرات مضحكة ذات نفس علماني بأثر رجعي.. فالقول بأن (الشيخ ليس مرجعية بمفرده) يستدعي مرجعيات أخرى. وبالطبع كانت تلك المسلسلات تشرك وجهاء وأعيان الحارات في صياغة تلك المرجعيات، إلا إذا تعلق الأمر بحكم شرعي… عندها الشيخ هو مرجعية بمفرده شاءوا أم أبوا… تلك هي دمشق وهذه هي مرجعياتها قبل ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي وقيام الحركة التصحيحية.. فكيف لنا مثلاً أن نشرك (أمين فرع الحزب) أو (رئيس فرع مخابرات) كي لا نترك المرجعية للشيوخ؟!
تساؤل لا معنى للبحث عنه، في ظل إصرار نظام آيل للسقوط على حشر أنفه في مسلسلات، لم تعد تقدم ولا تؤخر بالنسبة للمشاهد السوري الذي انفض أساساً عن متابعة تلك الدراما الكارتونية التي اكتشف زيف بطولات صناعها قولا وفعلا وسلوكاً، عندما وقفوا في صف القاتل!
قصة (الخوالي) والشيء بالشىء يذكر!
لكن يجدر بنا التنويه، أن هذه العقلية الرقابية التي (تنفخ على اللبن بعد أن أحرق شفاها الحليب)، ليست وليدة (الظروف التي تمر بها البلاد) كما يشير كتاب وزارة الإعلام ولجنة صناعة السينما.. فقد سبق لي أن تابعت عام 2000. ومن داخل أروقة التلفزيون السوري، معركة مماثلة أثناء عرض مسلسل البيئة الشامية (الخوالي) للمخرج بسام الملا.
فما إن بدأ عرض المسلسل الذي تدور احداثه في حي الشاغور الدمشقيين، والذي حقق في أولى حلقاته جماهيرية شعبية كاسحة، حتى ثارت ضجة في اروقة وزارة الإعلام، فقد أشيع ان السفارة التركية احتجت لدى الوزارة بسبب المبالغة في (إظهار ظلم الأتراك) وأنه يجب تدارك الأمر على الفور.
وأذكر حينها ان الفنان سليم صبري (وكان أحد أبطال المسلسل) قال لي: (يا أخي أنا شفت ناس بيشتغلوا بالسفارة التركية، وقالولي ما احتجينا على شي… من وين طلعولنا بهالقصة؟) كانت المشكلة حينها ان مخرج المسلسل الذي له صلات أمنية يمكن أن يحمي مسلسله من خلالها، يعيش – أثناء العرض الرمضاني للمسلسل- حالة فقدان وعي بعد وعكة صحية ألمت به وادخل على إثرها إلى (مشفى هشام سنان) في حي ركن الدين الدمشقي. بقليل من البحث والتقصي، تبين أن مدير القناة الأولى في التلفزيون السوري آنذاك، د. فؤاد شربجي كتب تقريراً رقابياً جاء فيه: ‘ان المسلسل صور ثورة شعبية، وفيه مشاهد يمكن ان تحرض على أي سلطة قائمة’، ودرءا للفتنة النائمة التي يلعن النظام دائماً من يمكن أن يوقظها، حتى في أحلام الناس ولاوعيهم، تم حذف الكثير من المشاهد، وخصوصاً تلك التي يمكن أن تؤدي إلى أي نوع من أنواع (الهياج) الشعبي لأتفه الأسباب!
بعد مجرزة الكيميائي في غوطتي دمشق في الثالث والعشرين من آب؟ اغسطس من عام 2013… وبعد أكثر من (1400) شهيد، ماتوا خنقاً بكيميائي نظام، لم يرع في شعبه حرمة أو عهدا… وبعد مئات الصور لأطفال كانوا يلفظون انفاسهم بين أيدي آبائهم، لن يكون مؤلماً لثوار الغوطة أو لأحفادهم، أن يمنع ذكرهم في مسلسلات من هذا النوع.. لكن الأمر – على صغره – يكشف أن هذا النظام لا ولن يتغير.. فقد عاش واشتد عوده في ظل قيم الرقابة والمنع والمصادرة والتدخل في أتفه الأمور، وسيلفظ أنفاسه وهو كذلك!
القدس العربي