وضاح شرارة:أنظمة الاحتكار العصبي العربية في تناقض داخلي مدمِّر
يوسف بزي
الجزء الأول
عشر سنوات من التحولات الصعبة. عقد مليء بالوعود الكبيرة والمفاجآت التاريخية، كما بالصدمات والخيبات الشديدة. انعطافات حادة، وانقلاب أحوال، وكوارث هائلة متتالية، هي بحجم التطلعات والأحلام التي حركت شعوب المنطقة ومواطنيها.
هي أولاً سنوات الأفكار والعناوين والشعارات التي طالبت بالتغيير، فتحولت ثورات سلمية أو انتفاضات عنيفة وحروباً أهلية – إقليمية، وفوضى متمادية ومدمرة. لكنها بالإضافة إلى ذلك، هي زمن التحولات العمرانية والاقتصادية و”السوسيولوجية”، والدخول في عوالم شبكات “التواصل الاجتماعي”، ومظاهر لا حصر لها لمستجدات العولمة…
بمزيج من اليأس والعناد، نحاول أن “نفهم”، أن نقرأ ونقيم “مراجعة” شخصية، مع مثقفين لهم صلة حميمة ومؤثرة بالشأن العام، ولهم إسهامهم الواضح في صياغة “الرأي العام” ولغته.
انطلاقاً من حيواتهم الخاصة وسِيَرهم، ومن المكان اللبناني وخصوصيته، إلى مشهد منطقتنا عموماً، وسجالاً مع أسئلة الثقافة والأيديولوجيات والسياسة والأحداث “التاريخية”، التي شهدناها في السنوات الأخيرة، نحاور عدداً من الباحثين والمفكرين والكتّاب اللبنانيين.
هنا نص الحوار مع وضاح شرارة ، ونشدد على أن أجوبته هنا أتت شفاهية، وتم في ما بعد التدقيق في إملائها وتحريرها من غير تعديل:
* قبل نحو عشر سنوات استقلتَ من التدريس في الجامعة اللبنانية، ثم صُرِفت من عملك في جريدة “الحياة”… كانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياتك. ما هي طقوسك اليومية، عدا ذاك الموعد اليومي “المقدس” لرياضة المشي؟
– أثرت أشجاني. على كل حال، يختبر المرء وضعاً أو أحوالاً بعد تركه لعمل وظيفي، منتظم بأوقاته وأماكنه وناسه الذي يلتقيهم.. يختبر تفاوتاً بين شعور قوي بالحرية، بسعة الإمكانات، بترامي حدود الممكن، وبين ضيق الوقت الفعلي المتاح والتركيب المعقد للعمل وإنجازه.
هذا الاختبار يحاول واحدنا، أو يظن أن بإمكانه تجاوز هذين الحدّين بانضباط طوعي، سرعان ما يتهاوى بوجه تنوع الرغبات، أو يأخذه اعتباط التنقل بين اهتمامات مختلفة ومتفاوتة، صعب حصرها وضبطها.
بالتالي، يجمع واحدنا اضطراراً بين شعائر كثيرة التفاصيل، منها القراءة اليومية الصباحية للصحف، فاجمع ملاحظات وأحياناً أنظم منها ملفات. وهذا عمل إداري تقريباً. كذلك هناك عُطَل إذا جاز التعبير، هي نزهات بين كتب يراكمها واحدنا، ويقرأ بضع عشرات من الصفحات من كل واحد منها، وتغلب مزاجيتها وبعثرتها ويغلب الهوى عليها. أحياناً، لأسباب غير واضحة، يؤدي هذا إلى إنجاز عمل كتابيّ، وأحياناً أخرى تغلب السجية، فيخزن واحدنا في رأسه أو صدره خططاً لأعمال كتابية ومقالات، واسعة غالباً، أو لكتاب له موضوع متماسك ومحور، وتُضبط معالجته بحدود واضحة.
هناك كذلك نوع من حضور وأحياناً رجحانٍ لكفة الحياة اليومية، الاهتمامات التي تتراوح بين الطبخ والتدبير المنزلي. وربما يدخل في هذا الباب المسترسل مشاهدة التلفزيون بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل. والهوى هو مشاهدة الأفلام السينمائية والأفلام الوثائقية وموسيقى الجاز أو الكلاسيكية والرقص. كل هذه الأبواب التي كان الاهتمام بها يقود إلى مشاهدة غير منزلية، أصبحت جزءاً من حياة البيت. ويرافق هذا شغف ورغبة في رؤية أشياء لم يتح من قبل مجال لرؤيتها. ليس أمر المشاهدة أو المتابعة إحصائياً، إنما هو الاستعداد والانتظار والقبول. وهذا ليس جديداً تماماً، ولكن ثمة لوناً من الإقبال على ذلك أقوى وأحدّ مما اختبرته من قبل.
* بين كتاب جديد لك وآخر، نعد أنفسنا بكتاب عن سيرتك… هل ستكتبها؟
– لشخص مثلي، نثر بعض الشذرات من سيرته، أو ضُمّنت لمحات من هذه السيرة في مقالات متفرقة… هذا الشخص يتردد بين وجهتين، أو منحيين: المنحى الأول يدعوه إلى كتابة سيرة نثرية، أي أن يعكف على سرد وقائع، وعلى وصف ناس، ورواية حوادث وتقديم أمكنة، أي أن يبقى على صفحة الوقائع بمعناها التسجيلي. ولكن ما أن أصيغ الموضوع على هذه الطريقة حتى يحضر قصورُ هذه الطريقة، وانتبه إلى أن زعم تسجيل الوقائع وسردها على هذا النحو يغفل حياة هذه الوقائع وروحها، ويحذف منها حركة داخلية، ليست خفية، وهي ثمرة إعادة السرد اليومية للنفس، بين النفس ونفسها، التي يقوم بها الواحد منا طوال الوقت.
كل يوم صباحاً، من دون أن أسأل نفسي، أفتعل نوعاً من جواب عن سؤال مخيّم من غير صياغة، هو: أين صرت؟ ماذا فعلت؟ أين تفكر أنك ذاهب؟ ما هي وسائل هذا المسير؟ هذه الأسئلة، وهي ظاهراً مجردة وتقليدية، صياغتها الفعلية تحمل كمياه النهر الجارية صور ناس ومواقف وأوضاع وأحوال ومشاعر، وانقطاعات وانعطافات ومراجعة نفس وندم ووثبات وأحلام واستعادات.. فالجواب هو محاولة خروج من هذا الخضم المتلاطم الفوضوي، ومحاولة تثبيت لهذا الاضطراب، غالباً ما ينتهي أو يعلّق على اهتمام عملي مباشر، وتبقى أصداء فكرة السيرة تحوم. فهذه الحال من التجاذب يظهر أحياناً أنها تؤدي إلى مطالع روايات. مطلع من صفحتين أو أربع يكتب عادة في جلسة متوهجة، ثم تنكفئ الكتابة عندما يبدو أن هذا التوهج لست أنا صاحبه، فأعود إلى التأمل في سياق أو في بناء له مراحل، وله عوامل، وله نوع من أوضاع نواتية أو محورية.. وإلى اليوم لم أفقد لا النية ولا الأمل في أن أنجز هكذا سيرة.
* منذ عشر سنوات، نزلت إلى الشارع بحماسة وتفاؤل كبيرين، إذ وجدت في لحظة 14 آذار 2005، “اجتماع تواريخ اللبنانيين الخاصة وتاريخهم الوطني المشترك”، وأسهبت في وصف تظاهرات ذاك الربيع. نزولك هذا إلى الساحة كان حدثاً في تاريخك “السياسي” الخاص، أليس كذلك؟
– ربما يجب القول أن المشاركة في المسيرات والتظاهرات واللقاءات، ربما بعد أكثر من ثلاثين سنة على ما يشبه الاعتكاف، كان حادثة “خاصة” أكثر مما هي “سياسية”، أي أن حادثة اغتيال رفيق الحريري كانت لها أصداء في ثنايا الوقت الذي ولد من الأعوام التي أعقبت 1989، والتي كان لرفيق الحريري دور أو وزن أو هو عامل من العوامل الأساسية التي رسمت قسمات هذا الوقت – وهذا كلام على حدود السياسة – أي مشروع إعمار بلد، وعودة حياة مؤسساتية منتظمة من الانتخابات الى المستشفيات والمدارس والمحاكم والسير والجباية، وإحياء الإدارات المختلفة، وإعمال القوانين والضبط على أوقات، وطبعاً تزفيت الطرق وبناء الأنفاق وتوسيع المطار.. مسائل كان واحدنا ليس فقط يدركها، ويختبر نتائج هزالها أو نتائج شللها. فجاء الاغتيال في الأيام الأولى ليهدد هذه المرتكزات والإنجازات والاحتمالات، يهددها بالكسر والقصم، ويلوّح بعودة الحروب الأهلية أو الملبننة، وهي “أهلية” نتيجة تركيب ورسوم الحروب الأهلية العربية وكجزء من النزاعات الدولية. طيف هذا التهديد أو شبح الحرب هذا كان مروعاً.
فأنا من الناس الذين بدأت الحروب تسفر عن وجهها ونحن في الثلاثين من أعمارنا. كنت بدأت أفكر وقتها ماذا أفعل؟ ماذا أكتب؟ كيف أعيش؟ والدخول في هذا الاضطراب الكبير، في الاقتتال من غير ميزان ومن غير معيار، كان كابوساً هائلاً. وهذا حَرَق أو أعدمَ خطط حياة، فَعَل فجوة حول واحدنا ووضعه أمام عجز هائل وإحباط بلا حدود.
هذا من الأمور التي دفعتني، وغيري من الناس، أن ينزلوا الى الساحات. وعلى صعيد أكثر عمومية: النزول الأول يوم الجنازة في 16 شباط 2005، وبدأ يرتسم فيه شيء بدا لي جديداً، هو خروج اللبنانيين على طريق مرسومة أو تركيب فرضه عليهم المزاج السياسي والأمني الاستخباري السوري. فمجرد رؤية جموع بأعداد نسبياً كبيرة، على غير موعد، من غير دعوة وطبعاً من غير إلزام، أخذ صورة المعجزة. هذه التلقائية التي سبقت الخطط السياسية، رغم دعوة وليد جنبلاط الأولى للمشاركة بالتشييع.. هذه التلقائية المشتركة والمتواقتة والمتزامنة تخيلتها وقتاً سياسياً حلم به واحدنا طوال عمره. ولواحد مثلي متحدر مما يسمى عملاً تنظيمياً – جهازياً، يتصيدَ الناس واحداً واحداً، ويقيد الدعوة بأفكار وبخطوات وببنود وبرنامج، ويصطدم على الدوام بتحفظ الناس، وحذرهم، وبرؤيتهم لالتزامهم من زاويتهم هم، بينما العمل التنظيمي – الجهازي يفترض صدور الناس عن المصالح المشتركة القسرية، الحتمية، واستجابتهم لحوافز موضوعية تقر بها ذواتهم. وطبعاً تجربة “حزب الله”، التي كنت أراها يوماً بعد يوم تتبلور وتتجسد، لم تكذب هذا الخط السابق.
وأنا الذي شاركت في تظاهرات 9 حزيران 1967 في بيروت، وفي ما بعد في كل جنازات القتلى الفلسطينيين واللبنانيين الى عامي 1972 – 1973، وغرقت في طوفان المتظاهرين.. كانت تجربة 16 شباط 2005 وما بعدها، اختباراً من نوع جديد تماماً. هذا ما حاولت أن أصفه في عدد من المقالات والتدوينات. فَرحتُ أكثر من فرحي بأن هناك طوائف تتظاهر وهناك ما يسمى “وحدة وطنية”، إذ كنت أعاين تداخل الناس الآتين من الطريق الجديدة والظريف ومطارح أخرى، وناساً أتعرف عليهم أنهم “قواتيون” و”عونيون” و”كتائبيون”.. فوق هذا الفرح، فرحت بعدم وقوف الناس “بلوكات” وبانفراط البلوكات والكتل الصغيرة، وتكون كتل أخرى في أماكن أخرى.. واستخفني ناس وفتيات صبايا وشباب وبعض الأسر، التي تدخل في التظاهرة وتخرج منها. كانت صورة الروافد التي تصب في البحر الكبير، والروافد التي تخرج من هذا البحر، من دون التزام بمحل أو موضع أو موقع. ويكمل هذا المشهد أن لا أحد يهتف، أو لا أحد يتقدم الكتل، أو لا أحد مرفوعاً على الأكتاف، ولا ميكروفون أو سيارة عليها ميكروفون، وليس هناك ناس مقتنعون أن المحل الذي هم فيه عليهم أن يلازموه كي لا يضعف “الموكب”. تصورت أن هذا المشهد، هذه الطريقة من الاجتماع والحضور، هي صورة لصيرورة لبنانية تاريخية، قوامها هذا الاستقلال الطوعي عن مصادر أو مراتب الأمر.
طبعاً، كان في الذهن الأشياء والأمور التي أنتجتها وثبتتها غلبة ما سميته “العروبة السياسية”، وهي سيرورة تشكيل جماعة حاكمة، متنافرة المصالح ومتنافرة المادة الإنسانية والاجتماعية، لحمتها من خارجها، على قدر “خارجية” العروبة السياسية، أو العروبة العربية، عن مجتمعاتها.
14 آذار اسم لقوى أو تيارات سياسية واجتماعية، وُلد تكتلها من واقعة، من حادثة. لم تولد من أمة لبنانية واحدة سرمدية، لم تولد من فكرة تملك جهازها السياسي التاريخي الأهلي.. المتخيل أو الحقيقي. لكنها ولدت من تشابك ومن التقاء روافد، استجابت لدواعٍ بلورتها الحادثة وتاريخها.
وفي استعراض مقارن لتواريخ سياسية في العالم العربي (أي العالم الذي سكانه ينطقون بالعربية)، غلب دائماً على نشوء تيارات وقوى سياسية مثالٌ زعم على الدوام تلخيص روح الأمة، مصائر الأمة، مراتب الأمة وأقوامها. فالتواضع اللبناني، الذي هو تواضع ضخم مثل أبي المتنبي (و”أبو” المتنبي هو جدته في المناسبة: “ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ… لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا)، نشأ عن حوادث تشبه حادثة 14 شباط و14 آذار 2005 وغيرها من الحوادث. فـ”لبنان” القرنين السابع عشر والثامن عشر ارتسم في سياق حوادث ضم وفرز، وفي سياق تكوّن أجسام اجتماعية غير معروفة من قبل، مثل الكنيسة، ومن وصلٍ بين ما كان منفصلاً، ومن استيراد خارج إلى الداخل، ومن خروج عاميين من عاميتهم وتصدرهم، من غير نسب ولا صلب ولا شرف، جماعتهم العاملة والساعية في مناكب الأرض.
من ناحية ثانية، هذه الصيغة التاريخية، صيغة تكوّن لبنان واللبنانيين ومجتمعاتهم، لا بد من الإقرار بانقطاعها، وبنزيفها ربما طوال القرنين الماضيين، التاسع عشر والعشرين، هذا التاريخ ليس روحاً وليس ماهية وإنما هو بحسب منطقه (منطق هذا التاريخ) الفعلي، متصل أو منقطع، وهو تدبير يخطئ ويصيب، ينتكس، يتقدم أو ينجز. فالحال هو أن صلتنا المدركة والفاعلة بهذه بقيت مترجحة ومضطربة إلى اليوم. وهذا ما لا تطيقه لا العروبة السياسية ولا التشيع الخميني ولا الحركات الأصولية والجهادية الإسلامية. فما أنجزه الاحتلال السوري طوال ثلث قرن تقريباً هو إخراج السلطة السياسية والدولة من الروابط الضعيفة، التي كانت تشدها إلى مجتمع المجتمعات اللبنانية، ونقصد بهذا عدم وجود مجتمع متماسك وواحد.
وجزء من التراث التاريخي اللبناني الوطني، هو علاقة تقييد بين المجتمعات الأهلية وبين سياسييها، أو قيادييها أو وجهائها، هي غير السلطة، ولعبت طوال القرن التاسع عشر دوراً راجحاً وحاسماً في الرقابة على العائلات وعلى أسر الوجهاء.. وعلى العاميين، أمثال يوسف كرم، الذين خرجوا من الناس ومن الجماعة، من غير الأشراف والوجهاء، وقاموا بتحريك جماعتهم ورسم مستقبلهم ومستقبلها.
العروبة السياسية، “القيادة السورية”، وحليفها وخادمها المحلي، أتت بنهج سياسي قام على اقتلاع الوجاهات والناس الذين سماهم العرب “أهل القوة”. اقتلعهم من مرجع يحكم مشروعيتهم. فيُنتخب النائب ليس لأن له عزوته، أو لغرضيته، أو ليخدم مصالح جماعة تتحكم بانتدابه، إنما تتشكل لوائح “بوسطات” أو “محادل” بناء على معايير تصدر من فوق وتُملَى على تحت. وهذا هو منطق “الودائع” الانتخابية، ومنطق تسديد خدمات إلى الأجسام السياسية الكبيرة، الميليشيات المسلحة أو شبه المسلحة، وترتيب رواتب أو مرتبات على انضباطها السياسي، وعلى سيرها في خط ضباط الاستخبارات والولاة السوريين.
14 آذار، الواقعة، العلم، الشارة، بعد نحو 30 سنة على صوغ “نظام الحرب الأهلية”، انقلب على هذا المنطق، أي استعاد المبادرة إلى الجماعات. والحق أن هذه الجماعات لم تنسخ الأبنية الأهلية السابقة، والمتصدعة في أثناء الحروب المتناسلة، إنما مزجت عوامل متفرقة ولدت بدورها أبنية سياسية هجينة.
وغلبّت هذه الهجنة المنظمات، المسلحة حالياً أو سابقاً، وأولتها مكان الصدارة، وألحقت بها الأجزاء الأهلية التقليدية وأرجعتها إلى مكانة ثانوية، واستوعبت جزءاً من الفئات أو الطبقات المتوسطة الجديدة (المهن الحرة، الخدمات، التجارة المتوسطة، المكاتب، المراتب الادارية والتنظيمية…) من غير أن تتيح لها بلورة أجسامها السياسية المستقلة والحاملة لمصالحها وهمومها وأشكال علاقاتها وثقافتها، وألحقتها بها سياسياً وثقافياً.
ورمى الاصطناع والافتعال الكبير الذي فبركته العروبة السياسية اللبنانيين في دوامة أو في لجة الحياة السياسية المتخيلة من ألفها إلى يائها. ومرتكز هذا التخييل هو جسم “حزب الله” الذي رُفع نصباً لمقاومة إسرائيل والغرب عموماً (رغم أن إسرائيل ليست الغرب، والغرب ليس إسرائيل، على خلاف الزعم القومي العروبي والإسلامي). ولم يتماسك هذا التخييل إلا بمجموعة من الافتراضات والمزاعم، التي ذهبت إلى أن “المقاومة” هي صلب الكيان الوطني، وأن الأعمال العسكرية هي لب السياسة ومادتها، وأن العمليات الأمنية في هذا البلد المجاور أو ذاك البلد البعيد، نهج مشروع، ولو أدى إلى شرذمة المجتمعات المعنية، وانتهاك دولها وقوانينها وروابط أهلها.
* كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة اللبنانية (14 آذار)، التي يصفها البعض بأنها كانت مقدمة “الربيع العربي” أو أنها “فرصة مهدورة”؟
– منذ بداياته، التكتل الذي حمل اسم 14 آذار وولد من تظاهرة ذاك اليوم، اتسم برخاوة بنيوية طاولت الكتل الجزئية، ومحاور تكتلها، كما طاولت العلاقات بين الكتل. من الأمور التي استوقفت كثراً وأنا منهم، منذ بدايات التكتل ونشأته، احتفاظ الكتل الجزئية باستقلاليتها التنظيمية والسياسية والانتخابية والفكرية. وهذا الاستقلال نهض على قواعد أهلية واجتماعية وإقليمية مختلفة ومتفرقة. وبدا أن هناك نوعاً من صمَم تجاه أي رغبة أو مطالبة بشبك الجماعات ومنظماتها وأماكنها وخططها ومناهجها. من ناحية أخرى ينبغي القول ان هذه الكيانات الأهلية تكوّنت في الاعوام الأربعين السابقة، أي تلك التي شهدت أعوام طويلة منها حروباً وعداوات ومصالح متشابكة أو منقطعة وإقصاءات واغتيالات… وسعي العروبة السياسية السورية والخمينية في تصديع الأجسام السياسية، وانتزاع جذورها من تربة جماعاتها وأرض هذه الجماعات ومرجعيتها، حجّر أو جمّد الأجسام السياسية على شكليتها، وعلى صوريتها، وعلى دورانها على نفسها وتغذيها من هذا الدوران..
طبعاً، وولادة حركة 14 آذار (وليس الكتلة المؤتلفة أو المجتمعة من الكتل الجزئية)، هذه الحركة هي غير تنظيماتها، ولكنها، على قدر كبير، مرتبطة بتنظيماتها، لم تملك ولم يتح لها لا الوقت ولا الفرص، لأن تكسب ديناميتها، وأن تنشأ منها بنى سياسية في مستطاعها أن تفرض على الأطر والتيارات والكتل السياسية السابقة منطقاً ومعايير بدأت تتلمسها. ولم تنجح في الوقت القليل المتاح لها – قبل الانتخابات وقبل تشكل 14 آذار الكتلة – في تكوين ملامحها الخاصة. فعاد النبيذ الجديد إلى الانسكاب في الأقداح أو القوالب القديمة.
وهذه الحركة ليست هي مقدمة لـ”الربيع العربي”، على رغم اشتراكها مع حركات الربيع العربي في التلقائية العامية والقيام على انسلاخ السلطة أو الأنظمة عن حركة مجتمعاتها، ولا هي “فرصة مهدورة”، لأن ما صنعته لا أظن أنه ذهب هدراً، وهو باق في متناول محاولات قادمة، إذا استأنفت هذه الحركات تاريخاً انقطع مع سحق الربيع العربي وحركاته ووأده.
* نشهد اليوم تفككاً واسعاً لـ”الدولة الوطنية”، خصوصاً في المشرق العربي. وإذا كان فشل مشروع “الدولة الوطنية” مديداً وتاريخياً، ما هو المستجد برأيك الذي جعل الفشل انفجارياً إلى هذا الحد؟
– أرى أن موضوع “الدولة الوطنية” العربية هو محل غموض واشتباه حادّين. الدولة الوطنية، ومثالها، هي خلاف السلطنة، الصغيرة أو الكبيرة. الدولة الوطنية تنشأ ونشأت عملياً عن تصدي قوة سياسية، اجتماعية، وعسكرية واقتصادية، إلى تحطيم كيانات عصبية ومحلية أضعف من هذه القوة المتصدية. في صياغة خلدونية لهذه السيرورة، يجوز القول أن تغلّب عصبية قوية على عصبيات أضعف، شرط إرسائه (التغلب) على كيان دولة، لاحقاً وطنية، هو ذوبان عصبية الدولة القوية في كيان عام ومشترك، ينتقل من امتصاص موارد العصبيات الأضعف واحتكارها العنف وآلاته، ووضعها في تصرف رؤساء العصبية القوية وجماعتها، إلى توزيع عام وغير متعسف لهذه الموارد.
والمرحلتان المتلازمتان دامتا في المثالات الأوروبية، قروناً أربعة أو خمسة على الأقل. وأدى التلازم إلى معادلة عسيرة مضطردة تقتضي مبادلة العنف الذي أدى في المرحلة الأولى إلى تدمير الروابط العصبية الضعيفة والجزئية والملحقة، بدمجٍ تفقد معه عصبية الدولة الغالبة انفصالها العصبي وخاصها الأهلي، وذلك لقاء انقياد أهل الجماعات المُدَمَّرة الروابط العصبية الداخلية، إلى قانون عام ومشترك.
وهذه العملية الطويلة والمتشابكة تفترض عدداً كبيراً من الشروط غير المضمونة النتائج (على خلاف “قوانين” نديم البيطار في الوحدات القومية)، لعل أبرزها هو صوغ مفهوم عملي ومؤسسي عن فكرة “صاحب الحق” (Sujet de droit). وصاحب الحق ليس من يسري عليه القانون، فالقانون هو من صلاحية الدولة والحاكم، على رغم أن الحاكم والدولة يسري عليهما القانون العام، تماماً كما يسري على العامة أو “الرعية”. والقانون يكتسب صفته من التزامه معايير أصولية ومبدئية، إذا خرج عنها فقد إلزامه وعموميته، وانتهى إلى هوى لا يقيد غير صاحبه.
أما الحق (ويُجمَع على حقوق)، فمصدره هو مَن ليسوا في موقع السلطة والافراد والجماعات الذين يُلزمون السلطة بمراعاة حقوقهم ويتولون الدفاع عن هذه الحقوق وفرضها، في إطار علاقات سياسية، سمتها الأولى هي “مشروعية النزاع”. فلا حق إلا بالإقرار باختلاف الجماعات وكثرتها، ومنها يأتلف الجسم السياسي، وتدور العلاقة السياسية الدستورية في الدولة (الوطنية) على محور النزاع.
وعلى خلاف هذا الوصف التاريخي لنشأة مثال الدولة الوطنية، تنزع الآراء والأفكار العربية، المتداولة والسائرة، إلى حمل الدولة الوطنية على رغبات طيبة، وعلى انبعاث الروح القومية الواحدة، وتجدد النسغ التاريخي السابق والمفترض حياً وهاجعاً. ومثل هذه الآراء تعمى عن أحوال الدولة الوطنية المولودة من تاريخ وظروف وإرادات ونزاعات. ولعل هذا الأمر هو السبب في فقر الأفكار السياسية التي تتناول مسألة الدولة، ودورانها في حلقات مفرغة. وأرى أن معضلة أنظمة الاحتكار العصبي العربية هي في تناقض داخلي مدمِّر. فالعصبية المستولية على الدولة يستحيل عليها، ما احتفظت بغلبتها لنفسها وعلى صفتها (العلوية، السنّية، الشيعية، العربية العرقية، القبلية، الخ.)، دمج العصبيات المغلوبة في كيان دولتها. فالاستيلاء العلَوي، على هذه الصفة، ينفخ في العصبيات المغلوبة الأخرى، ويدعو أهلها إلى الاجتماع على عصبيتهم الذاوية أحياناً. ولا خروج من هذا الدور الذي يدور إلا برضوخ العصبية الغالبة أو المستولية لانقراضها وأفولها وذوبانها في كيان سياسي وطني يعود على العصبيات المغلوبة من قبل بامتيازات القانون وبامتيازات صاحب الحق الفرد وأصحاب “الحقوق الذاتية”.
ويقود الاستيلاء العصبي، على رغم اصطناعه في أحيان كثيرة ولاء بعض نخب العصبيات الأخرى (على شاكلة عبد الحليم خدام، ومحمود الزعبي وفاروق الشرع وعلي مملوك اليوم) إلى انقسام العصبيات انقساماً حادّاً وقاطعاً، يجمع في قطبٍ أول المستولين وحلقة المقربين والمنتفعين، وفي القطب الآخر الجماعات المغلوبة أو الضعيفة أو المستضعفة. ويتستر هذا الانقسام، الذي يقبل استثناءات جزئية كثيرة ومركّبة، على نزاعات أهلية واجتماعية ومصلحية وثقافية كثيرة، تغذي الفرق القاطع بين الغالب وبين المغلوبين، بين مسيطر وبين منقادين وخاضعين. ويحول الانقسام على هذا النحو دون سيرورة دمج وطنية أو “قومية”. ومن ناحية ثانية، يقود الاستيلاء العصبي إلى بناء “دولة” على رسم السلطنة أو الامبراطورية (الكلمة الكبيرة قد تعني إمارة تافهة في ناحية مقفرة من نواحي البادية أو الجبل).
وهذه “السلطنة” تضوي جماعات وأهالي ونواحي وديرات وقطائع.. كثيرة أو قليلة، تربط بعضها ببعض علاقات ولاء وأحلاف، شرطها الأكيد هو ألّا تفقد هذه الجماعات قوامها العصبي الداخلي، وألّا يلتحق أفرادها وآحادها، على صفتهم الفردية، بكيانات أوسع أو بكيان غالب. والحق أن هذا لا يخلّ بالعقد السلطاني، فهو يسري على تماسك العصبية الغالبة سريانه على العصبيات المغلوبة. فمن مصلحة العصبية الغالبة ألّا تتماسك بمنطق الأفراد الإرادي والحرّ، لأن هذا الضرب من التماسك لا يُؤمَن معه انفراط عقدها، والتحاق أفرادها بمصالح مشتركة أخرى تُفقِد أهل القوة موارد قوتهم.
وإذا عددنا هذه العناصر الثلاثة، وجُمعت في ما يشبه منظومة، وامتُحنت هذه المنظومة في حوادث مشهودة في السنوات الماضية، لبدا ربما أن الوحدات الخاوية التي أمسكت بمقاليد المجتمعات العربية المشرقية، استنزفت طاقتها على تخييل أحوال سياسية واجتماعية مترابطة ومؤتلفة. على سبيل المثال: امتحن انهيار الاتحاد السوفياتي والكيانات السياسية المصطنعة التي وحّدتها قسراً حركات التحرر الوطني، في النصف الثاني من القرن العشرين، (امتحن) هذا الانهيار نظامَ الدولة الحزبي (الدولة – الحزب) والاحتكاري، الريعي والرعوي، المركزي، حين خسر هذا النظام مثاله المتخيَل والمتوهَم، وافتقر إلى مدده الاستثماري والتقني وخبرائه، مدده التسويغي والتاريخي (الأيديولوجي). فتكشفت الخسارة عن هوّات فاغرة تفصل أهل القوة عن أهل الضعف، والميسورين عن المعوزين، والعاملين عن البطّالين، وأهل الريف عن أهل المدينة، والمتعلمين عن الأميين، والمتماسكين عن المتساقطين… وفي وسط الانفراط هذا تربعت القضايا الكبيرة: الوحدة القومية، القضية الفلسطينية، النظام الإقليمي، التكامل الاقتصادي- السياسي، التنمية، دولة الرعاية، التوازن الاستراتيجي، المقاومة… تربعت في خوائها العاري، وظهر وراء الدعاوى الضخمة هزال وإدقاع يدعوان إلى الشفقة والتعاسة.
وفي قلب هذه المعمعة، انتصبت معضلة أخرى مدمِّرة، هي معضلة الحركات الاسلامية والجهادية. فالفرق الشاسع بين أفق هذه الحركات المُدّعى، وهو عريض عرض تاريخ الإسلام الامبراطوري وفتوحاته المترامية وموارده الهائلة وانفراده بالسلطان في قلب العالم القديم طوال قرون، وبين أحوال هذه الحركات الفعلية، يدعو الفرق أصحاب الحركات الجهادية الإسلامية إلى ملئه أو رتقه بعنف واستماتة يشبِّهان القوة واحتمال الخروج من حال الضعف التي تتخبط فيها هذه الحركات، ويتخبط فيها أصحابها. وحين يحصّل بعض هذه الحركات قدراً من القوة، شأن “داعش” أو “النصرة” أو شأن غيرها من الحركات الجهادية (بوكو حرام، أنصار بيت المقدس، أنصار الشريعة، حركة الشباب..) وبعض الجماعات الإخوانية، جمحت إلى أقاصي العنف الذي تمتلك بعض أدواته أو عوامله. وهذا على خلاف الجماعات الضعيفة والقليلة في ابتداء أمرها. وأظن أن التقاء أو انعقاد هذين العاملين، الأول خسارة الأنظمة الاستبدادية لحمتها المؤسسية ودورها وقوامها التماسك ظاهراً، والثاني بروز تيارات الجهاد الإسلامي وانتشارها وانتشار مقاتليها ومجاهديها في المجتمعات المشرقية، بعد اختبارها الأفغاني والجزائري والعراقي- انعقادهما إذن أفضى إلى تزامن انهيار مجتمعات هذه الدول الاستبدادية وتوسل الجماعات المغلوبة بإسلام جهادي أسير تناقضاته، إلى جموح العنف والاقتتال الأهليين، وانفلاتهما من كل عقال. فبلغ العنف مثالاً مجرداً ومنعتقاً من أي مضمون معنوي واجتماعي محدد، ما استهوى متساقطين كثراً من أبنية اجتماعية متداعية ومتصدعة. وهذه حال أعداد كبيرة من المتطوعين الغربيين في صفوف الحركات الجهادية، وهي حال من جمعتهم الخمينية الإيرانية في منظمات وشراذم قريبة من جيوش المرتزقين. وعلى هذا المثال، نشأ “حزب الله” اللبناني، وتنشأ اليوم المنظمات الشيعية العراقية المسلحة.
الجزء الثاني
اليسار الأعمى ونكوص الشيعة وتيه الحراك اللبناني
في تاريخ العمل المطلبي، غالباً ما تكون مسألة برامج التحركات مثار أسئلة
عشر سنوات من التحولات الصعبة. عقد مليء بالوعود الكبيرة والمفاجآت التاريخية، كما بالصدمات والخيبات الشديدة. انعطافات حادة، وانقلاب أحوال، وكوارث هائلة متتالية، هي بحجم التطلعات والأحلام التي حركت شعوب المنطقة ومواطنيها.
هي أولاً سنوات الأفكار والعناوين والشعارات التي طالبت بالتغيير، فتحولت ثورات سلمية أو انتفاضات عنيفة وحروباً أهلية – إقليمية، وفوضى متمادية ومدمرة. لكنها بالإضافة إلى ذلك، هي زمن التحولات العمرانية والاقتصادية و”السوسيولوجية”، والدخول في عوالم شبكات “التواصل الاجتماعي”، ومظاهر لا حصر لها لمستجدات العولمة…
بمزيج من اليأس والعناد، نحاول أن “نفهم”، أن نقرأ ونقيم “مراجعة” شخصية، مع مثقفين لهم صلة حميمة ومؤثرة بالشأن العام، ولهم إسهامهم الواضح في صياغة “الرأي العام” ولغته.
انطلاقاً من حيواتهم الخاصة وسِيَرهم، ومن المكان اللبناني وخصوصيته، إلى مشهد منطقتنا عموماً، وسجالاً مع أسئلة الثقافة والأيديولوجيات والسياسة والأحداث “التاريخية”، التي شهدناها في السنوات الأخيرة، نحاور عدداً من الباحثين والمفكرين والكتّاب اللبنانيين.
هنا نص الحوار مع وضاح شرارة في جزئه الثاني، ونشدد على أن أجوبته هنا أتت شفاهية، وتم في ما بعد التدقيق في إملائها وتحريرها من غير تعديل:
* في معظم مقالاتك عن الثورات العربية، شددت على المسألة الدستورية.. وأنجزت مراجعة مستفيضة للتجربة الدستورية العثمانية، بوصفها لحظة تاريخية متعثرة لا تزال آثارها وتداعياتها مؤثرة؟
– أثناء المتابعة، اليومية تقريباً، لوقائع ومجريات الحركة المدنية والديموقراطية المصرية، عُقد عدد من النقاشات في التلفزيونات المصرية، دُعي إلى الكلام فيها بعض من سُمّوا شباب الثورة. ونوقشت في تلك الحوارات مسألة التشريع، أي مسألة حق جماعة “الثورة” في التشريع وفي إبطال قوانين وقواعد وأعراف، ويوجبون قوانين وقواعد وأعراف جديدة. وظهرت في صورة واضحة حيرتهم حول مسألة جدارة حركة سياسية بإملاء قواعد وقوانين وإجراءات. وبدا أن فكرة مصدر السلطات ليست فقط غائمة وإنما محيرة، وأشبه بتربيع الدائرة. ولما بدأ المصريون، على اختلاف تياراتهم، يصدرون فعلاً تعديلات دستورية أو وثائق دستورية، مثل التي وضعها “الإخوان المسلمون” أوائل العام 2012، وصدرت الصياغة الأولى للدستور، ثم الصيغة “الإخوانية”- أي، عملياً، ثلاث صيغ دستورية بين أوائل 2012 وربيع 2013- وفي ضوء قراءة الوثائق هذه، وعطفاً على البند الدستوري المُشكل، الذي ينص على أن الإسلام مصدر التشريع وأن إجماع الفقهاء على المسائل الأساسية هو سند التشريع ومصدره، بدا أن هاتين المسألتين، الدستور ومصدر التشريع، نبّهتا إلى مركزية أو محورية الدستور. والمسألة المرافقة لها هي: يُفترض أن الدستور يصوغ ويقدم ويبلور القواعد التي تحكم علاقات المؤسسات ببعضها، وهو في الوقت نفسه ناظم لعلاقة أجزاء المجتمع بعضه ببعض، وعنصر أساسي في تعريف أدوار هذه الأجزاء.
وإذا كان هذا هو دور الدستور، فله صفة زمنية، إلى حد بعيد مستقبلية. فهو صادر عن جماعات من مجتمع. ولهذه الجماعات ولهوياتها ولعلاقاتها تاريخ، وثمة ضرورة اعتبار ما يتماشى مع هذه الاعتبارات. وعليه، من الممكن القول أن دستوراً لبلد ومجتمع يتناول مسألة ما، كالملكية أو الجمهورية، أو علاقة مجلس عموم بمجلس شيوخ.. إلخ، أو يعرف طبيعة التمثيل في ما يسمى “الغرفتين” (الشيوخ والعموم)، عليه أن يلحظ صلة هذه المسائل الوثيقة الصلة بتقاليد وعادات وتراث البلد (الدولة) الذي وضع هذا الدستور له.
وحين تستولي على السلطة ديكتاتوريات فاشية أو شيوعية أو حتى ديكتاتوريات عسكرية عادية (ليست توتاليتارية)، فأول أمر تفعله هو إلغاء الدستور السابق. وتعتبر هذا الصلب الذي تتحدر منه الأحكام غير صالح وغير جائز. وهذه السياسة، أو هذا القطع، هو دائماً علامة على “ثورية” قد تكون يمينية أو يسارية، وعلامة عجز عن الاضطلاع بتاريخ المجتمع الذي تطمع هذه السياسة إلى حكمه وتدبير شؤونه. وثمرة هذا القطع، أو هذا “الجبّ” (“الإسلام يجبّ ما قبله”)، والانسلاخ عن تاريخ وتقاليد مجتمعات، يؤذن بالانقلاب على المجتمعات هذه، وإجبارها وقسرها على تحقيق صورة عن المجتمع لم تخترها (في حال الانقلاب العسكري).
الحيرة أو التخبط المصري في النقاشات، قبل الوثائق، وفي الوثائق بعد المناقشات، دليل على إشكال الصورة التي يقدمها الدستور عن الجماعة الوطنية، ويُفترض أن تعمل حقوق وعلاقات اجزائها وأجزاء السلطات بهذا الدستور. ولكن التخبط الدستوري، والحيرة الحادة في ما ينبغي أن ينص عليه الدستور، وفي ما لا يحتاج دستور إلى نص عليه، هو على الأغلب صورة أو نتيجة لحيرة سياسية أعمق. وهي، حقيقة، حيرة تاريخية. فالجماعات التي أصرّت على نص مصدرية التشريع الإسلامي – في صيغه المختلفة – من الواضح أنها ترى هذه المصدرية ضمانة تحول دون أي تغيير عميق في المجتمع وفي الدولة، وباباً مسدوداً بوجهه. هذا الباب موصد بوجه تغيير رأسمالي من طريق المصارف والتسليف والاستثمار والتجارة إلخ، وباب موصد بوجه تغييرات اجتماعية جذرية تتناول الجنسين وعلاقاتهما، والأسرة والميراث والتعليم والإعلام… وكل هذه المسائل التي لها دور في تحول المجتمع من حال إلى حال.
فلما نص الدستور المصري الأول، وهو غير الوثيقة الدستورية، على دور الأزهر، خلط خلطاً كاملاً بين هيئة أو بنية من مباني المجتمع الأهلي وبين سلطات الدولة، وألحقَ هذه السلطات بتلك البنية الأهلية الجزئية (الأزهر). وهذا الخلط، إلى الخلط السابق الذي يطاول زمنية الدستور، قرينتان على هجنة الصياغة الدستورية والعملية الدستورية المتوقعة. فكيف، بعد هذا، يُتصور أن هذه الوثيقة قادرة على ضبط التحول الأساسي في قوام السياسة، وفي الإرادات والحاجات والتطلعات الشعبية والوطنية والقطاعية ورسوها على قوانين وقواعد وتحكيم… تتولى بلورة معنى واختطاط طريق.
في قلب الدساتير “النموذجية”، وهي صاغتها غالباً ثورات اجتماعية وسياسية عريضة وطويلة زمناً، من أبرزها الأميركية والفرنسية، هوامش واسعة تستقبل التعديلات العميقة غالباً، أو تلحظ الاستثناءات الكبيرة التي يمكن أن تطرأ في أحوال غير متوقعة، مثل الحروب والثورات والنزاعات الطويلة. فيما يلاحظ في الصيغ الدستورية العربية، ومنها تلك التي دُبّجت في السنين الثلاث أي أثناء “النزاع المثمر” (2011 – 2013)، يلاحظ فيها غياب أبواب أساسية هي أبواب التعديل والاستثناء و”الطوارئ” (القانونية). وهذا ربما علامة، أظنها قاطعة، على وقوف الثقافة الدستورية، وعلى التباسها وشللها.
ولا شك في أن هذا التخبط يردّ المراقب “المؤرخ” إلى السابقة العثمانية الدستورية. فالدستور العثماني الأول (1876) كان المرحلة الثالثة من “التنظيمات”: بدأت هذه بخط كولخانه 1839، ونص على المساواة بين رعايا السلطان من الملل المختلفة، ثم قضى النص الثاني الكبير 1858 بتخصيص الملكية وتمليك المزارعين جزءاً من أراضيهم، وألغى الإقطاعات والمصادرات و(بعض) جباية الالتزام، وختم النص الثالث الكبير، أي الدستور، هذه التنظيمات بتشريع مجلس منتخب، قليل الصلاحيات نسبياً وعريض التمثيل (الأقوام والأديان والمهن…). وكان الدستور، إلى التنظيمات الأخرى، آية إرادة الانتقال من النظام السلطاني الامبراطوري إلى إطار الدولة “الوطنية” أو “القومية”، وأداة الإقرار بحقوق المواطنة والمساواة بين الجماعات التي أُلحقت بالسلطنة في أوقات متفرقة. وحسم إخفاق هذه المحاولة عودة السلطان عبد الحميد عن الدستور. والأرجح، أن الإخفاق العثماني في التحول من السلطنة ومراتبها وجمعها المتسلط لرعاياها، إلى أصل أو مبدأ “صاحب الحق”، أي المواطن الكامل المواطنة، ومستودع المبادرة ومراقبة السلطة ومساءلتها وتقييدها… هذه المسألة عادت وبرزت على نحو صارخ في مسألة مرجع التشريع وسنده أبان الحركات العربية.
* من نقدك لأيديولوجيا اليمين اللبناني، إلى خصومتك لليسار اللبناني والعربي، عدا عن غربتك عن الأيديولوجيا القومية والبعثية، وعدم صلتك بما يسمى “الممانعة”.. أين تجد نفسك؟ أو بالأحرى أين نجد أنفسنا؟ أين أنت الآن؟ هل يعني لك اليسار اليوم شيئاً؟ هل تنحاز إلى صفة “الديموقراطي”؟ هل ترى نفسك في الليبرالية اللبنانية؟
– يجب أن أعترف لك. تساورني شكوك عادمة في كل التعريفات أو الأوصاف المعرِّفة للألفاظ. اليمين اللبناني؟ الجماعات والأفراد التي حملت في تاريخها عملياً كل الجوانب الحياتية والفكرية والذوقية والجمالية، التي نعرّف أنفسنا تلقائياً بها، ونطمئن إلى هذا التعريف، ونراه علامات على الأشياء التي نتبنّاها ونطمح إلى تحسينها ومشاركتها، من ملكية الأرض الخاصة، إلى الحريات الفردية وحرية الاعتقاد والصلة بالغرب الأوروبي والأميركي وثقافته وتراثه وأعماله، والإقرار بحقوق المنازعة والإختلاف وبالتحكيم.. كل هذا ندين به، اليوم وبالأمس، من يُقصدون بلفظة اليمين المهينة. وعندما يُقال اليمين اللبناني ينبغي الاعتراف بأنه في اللغة اليسارية و”الاسلامية” الدارجة: المسيحية اللبنانية.
اليسار اللبناني والعربي؟ أي العمى، الذي يكاد يكون مطلقاً، عن الوقائع والرغبات والحاجات والتوقعات والنزاعات.. التي اعتملت وتعتمل في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية، فضلاً عن جهل مطبق بأحوال العالم عموماً. وهذا اليسار، في شقيه اللبناني والعربي، كان على الدوام نافخاً في الحروب الأهلية التي لازم انفجارها، أو دبيبها قبل الانفجار، تاريخنا المعاصر منذ استقرارنا على “دول وطنية”.
أما الأيديولوجيا القومية والبعثية، فمن بطنها ولدت روائع نشهد فصولها الإنتحارية الأخيرة. وهي فاجأت ضامري الذاكرة منا، فنسوا إنجازات الانقلابات العسكرية القومية في أرجاء العوالم العربية والإسلامية الميمونة: ضباط المخابرات، سجّان قصور النهاية، والمزّات، والمطامير الأفريقية، ومصاقيع الشعراء والخطباء وأمناء روابط الكتّاب العامين ومدّاحو الصدّامين والأبديين وملك الملوك وملوك ملوك الأدغال القاحلة والمحيطات.
وأرى أن الكلام على ديموقراطية في مسبعة أو منمرة الأمراء والملوك والقادة والأبطال والسماحات والرعايا والزلم والحواشي والأشياع والتابعين والجماهير وأهل الغنيمة والريوع والأخرجة والأعشار.. ضرب من الهزل والمازوشية المسترسلة لا إلى غاية. وهذا سؤال يُشكر عليه السائل ويُعذر.
ويفترض السؤال عن الليبرالية اللبنانية أن هذه الليبرالية مرآة يتراءى الناس فيها. والحق أن هذه الليبرالية المزعومة يصدق فيها ما قاله ماكس فيبر في روح الرأسمالية، عندما نبّه إلى أن الرأسمالية، وبعضها استوى في ضوء الأخلاقيات البروتستانتية، هي خلاف “رأسمالية قطّاع الطرق” الذين استولدوا أموالهم من المصادرة وانتهاز الفرص والمضاربة والسطو.. فالرأسماليون الذين ولدتهم رأسمالية ثورية، استحقت مديح كارل ماركس ومن بعده ماكس فيبر، هؤلاء من العسير جداً على أشد الناس تسامحاً أن يروا شبهاً لهم ولو بعيداً في “نظرائهم” اللبنانيين.
* كتبت “الأمة القلقة” ثم “دولة حزب الله”.. كتابان يتمحوران على تاريخ الشيعة اللبنانيين وأطوار هذا التاريخ وتحولاته. اليوم، كيف يمكن “مخاطبة” الشيعة، سعياً لإنجاز تفاهم وطني جديد؟
– ربما يعود الاهتمام بتاريخ وأحوال شيعة لبنان إلى ما لا أنكر أنه تجربة شخصية. فأنا قدمت على شيعة جبل عامل، وأعني بهم “أهلي” في بنت جبيل، بعدما نشأت في أعوامي الأولى في بيت شيعي في “التذكرة”. فأهلي الصيداويون هم شيعة، ولكنهم في المرتبة الأولى أهل مدينة على النحو الذي خبرتُ عليه المدينة الأوروبية الجميلة، وخبرتُ بعض بيروت في السنوات العشر التي سبقت انفجار الحروب الملبننة. غلبت على هؤلاء، وهم نساء، أرواح المدينة (من رياح)، بكلامهن ولباسهن وتعلمهن وميولهن وحبهن وقيامهن بأنفسهن واعتدادهن بها. وكان هذا جلياً في زيجاتهن وعملهن ورعايتهن لأولادهن، وعلى رأسهن أمهن، جدتي لوالدتي.
وفي بنت جبيل اختبرت أمرين مختلفين. الأمر الأول هو حرارة الحياة التي يحياها أهل البلدة. فأول ما يطالع القادم إلى بنت جبيل كان إقبال أهلها على حياة حسّية كثيرة الوجوه، وعلى استعمال للغة ينشد الجرس والوقع وزواج الأصوات. وكانت الخطابة الوجه القبيح من الاحتفال باللغة والاستمتاع بها، كما كانت “المرجلة” هي الصورة القبيحة للاحتفاء بالجسد، وحركاته وانثناءاته.
الأمر الثاني كان النازع الحاد والمستميت إلى التفاوت والتعالي والإذلال والتجبّر والاستقواء بالنسب أو الجاه أو المال أو الخيزرانة أو بندقية الصيد أو المسدس. وبعض هذا النازع كان يتجلى في المناسبات الانتخابية، وفي إحياء مجالس العزاء، وفي عاشوراء والأعراس.
وأخال أن تشيّع هؤلاء الأهل، أهل بنت جبيل وأهل العائلة التي ولدت لأحد أبنائها، يجمع النازعين اللذين تقدما، وذلك على مثال ربما يصح وصفه على الصورة التالية: مزج النازع إلى الحياة بالتكالب على المراتب والمكانات والأنساب.
وأحسب أن قلق هذه الأمة يضرب بجذوره وأصوله في هذه التربة الخصبة. وحين خالطت، يومها ومن بعد، أهلي هؤلاء، تنازعني في شأنهم نازعان، نازع إلى الإعجاب والقبول والانخراط والتبني، وآخر إلى النفور والاستنكار والشفقة. ولعلي لا أُلبّس على نفسي، ولا على الآخرين، بقولي أنني حين راقبت نشأة “حركة المحرومين”، قبل “حركة أمل”، ثم الخطوات الأولى لما استقر على “حزب الله”، خالجني الشعور نفسه حين تعرّفت، متأخراً بعض الشيء، إلى أهلي. ولا أزال عند الشعور والرأي هذين.
ويبدو لي أن ما سمّي “الشيعية السياسية”، على مثال “المارونية السياسية” (والحق أن المارونية اجتماعية في المرتبة الأولى على خلاف جماعات وعصبيات السنّة والشيعة والدروز)، هو ثمرة انشقاقٍ أهليٍ قد يكون من غير سابقة. فالانشقاق الشيعي اللبناني أخرج كتلة كبيرة من اللبنانيين من مسعى طويل وشاق في سبيل تثبيت ميزان وطني وسياسي واجتماعي وثقافي يستقبل، من غير غلبة ساحقة أو مفتعلة ومتخيلة، روافد اجتماع تربط بين أجزائه روابط الجوار وبعض روابط التاريخ المتشابك. فالدعوى اللبنانية كانت أقرب إلى الاقتراح منها إلى الصيغة المغلقة أو النظام المحكم. وقلما خالطها عنف قاهر. ويبدو لي أن الاقتراح اللبناني يخالف مخالفة حادة الصيغ العصبية العروبية أو الإسلامية أو المسيحية. وخروج اللبنانيين المسيحيين من الوصاية الانتدابية (الفرنسية)، في ما سماه جورج نقّاش “ثورة 1943″، كان جزءاً من صيغة الاقتراح هذه. والميثاق الوطني، على خلاف الأمم أو الشعوب الملتحمة التي زعمت أنها مرجع “الكيانات المصطنعة” أو الدول الوطنية، هو صورة إرساء السياسة على التعاقد وعلى التحكيم، وعلى الخلاف والمساومة تالياً. وبدا، زمناً طويلاً، أن في وسع الشيعة اللبنانيين – وهم يدينون إلى لبنان وإلى مواطنتهم بأثقال وأطنان من المزايا – حمل المقترح على محمل الجد، والإسهام في إثرائه، وفي استيلاده مؤسسات ورسوماً اجتماعية وثقافية متنوعة.
ونكوصهم هذا لا يُعدم مسوغات كثيرة: من الهامشية المؤقتة، والتشكيك في علاقتهم الرحمية بالفكرة “اللبنانوية”، إلى قسوة الفلسطينيين والإسرائيليين وقوميي العرب عليهم. فخبروا التهجير والتشرد والتقطع والضعف. ولكن نكوصهم المديد الذي أثمر ثمرات مسمومة مشهودة تحول دون عودة الميزان إلى بعض استوائه، لا يعود شطر راجح منه إلى تجربتهم المريرة ولا نسيانهم نصف القرن الذي قضوه في الخيمة اللبنانية. فلا شك أن ما أدى إليه هذا النكوص يتجاوز بمراحل لا تقاس علل النكوص الأولى. وعليه، ربما دواء هذا الداء أقسى من علاج الشيعة المزعوم لمظلوميتهم، على وجهيها الفعلي والاستيهامي.
* في الجوار، كانت الثورة السورية وتحولاتها الدموية، كيف كانت نظرتك إلى هذا المشهد الكارثي؟
– حالت أمور محددة دون تجاوز تحفظي الأول والمستمر عن الحركة المدنية والديموقراطية السورية في مطلعها. فالحبكة العائلية الأسرية والقبلية التي رويت الحوادث السورية من طريقها، وأعني الخبر عن الأطفال السوريين في درعا الذين استُدعي هم وأهلهم إلى أقسام المباحث، وطُلب إلى أهلهم نسيانهم وولادة غيرهم محلهم، والتلويح بأن رجال الأمن قادرون على إنجاب أمثال هؤلاء الأولاد إذا عجز أباؤهم عن الإنجاب.. هذه الحبكة شخّصت بواعث على الاحتجاج والاستنكار والتمرد من نمط مغرق في عشائريته ودمويته العائلية.
وأظن أن هذا يفوق خروج المتظاهرين من المساجد أثراً ودلالة. وتدعو العصبية الدموية إلى التحفظ والحذر فوق ما تدعو إليهما العصبية المسجدية. وفي الأيام الأولى للحركة، خرج إلى الكلام باسمها، والتولّي عليها، “مثقفون” كان دأبهم الأول إنكار قابلية السوريين إلى الانقياد للطائفية، واحتجوا لإنكارهم بالإختلاف العميق والغريزي بين “طائفية اللبنانيين” وبين “وطنية السوريين” الصافية. فهؤلاء “المثقفون” احتاروا في الموقف الذي يليق بهم، اتخاذه، وبمكانتهم ودورهم المرجو، فوق ما احتاروا في الموقف الذي يليق اتخاذه بالحركة الوليدة ومعانيها ومكانها في سياق الأحداث الجارية. وعندما توالت انشقاقات الجيش السوري الحر، وسنحت فرص مشاهدة بعض قادته المنشقين، وسماع مقالاتهم، لم يخفِ على النظر الادعاء المفرط والخداع والتشاوف وضيق النظر، والعمى عن المعضلات والحواجز المتخلفة عن نصف قرن من الظلم والاستبداد والطغيان وسوء الإدارة، وتخليق الناس بأخلاق القهر والتعسف والمذلة.
ولكن هؤلاء كانوا، وغيرهم مثلهم، الوجه المنفّر مما سمي “ثورة”. وسرعان ما ولد القمع المسلح والمدمِّر “شعباً” سورياً آخر، ارتسمت قسماته في خضم الحوادث المروعة التي أصابت السوريين ولا تزال تصيبهم.
والارتماء في العنف وفي الإقتتال قد يبعث عليه الهرب من دوام العيش والحياة في خضم الكذب والأسطرة والروايات المختلقة. فأجيال السوريين الذين قضوا أعماراً وعقوداً من السنين، وهم يحسبون أنهم نبض الشارع العربي وطليعة الأمة العربية الواحدة والخالدة، وأنهم الرد على الانحطاط العربي وعلى التجزئة والفقر، وأنهم قبلة أقطار العرب وأنبياء مواعيدهم .. فهم، على هذا، ليسوا فقراء ولا عمالاً ولا تجاراً ولا حرفيين ولا فلاحين، ولا علويين ولا سنّة ولا شيعة ولا اسماعليين ولا كرداً ولا قبائل ولا شركس ولا تركمان… فلا يجوز فيهم التعريف الاجتماعي ولا التعريف الاهلي أو الأقوامي أو الجغرافي. وإنما هم روح العروبة الأثيرية والمصفاة، وتعريفها هو مرتبتها ومحلها الأرفع. فكيف يسعهم بهذه الحال معاملة العالم وحوادثه ووقائعه ومشكلاته وحلوله ونثراته وإبداعاته، وهم على هذا الإبهام والإغفال والإعجاز؟!
قد يكون العنف المدمّر، ومسوّي الهويات، هو جواب هذه الترهة العظيمة التي أناخت بكلكلها على العقول والصدور والأحاسيس والأنفاس السورية قرناً من الزمن المدرك.
* في مقابل كوارث “الربيع العربي”، هناك من يطرح فكرة “الثورات الصغيرة”، ثورة بالتقسيط، ثورات مطلبية، احتجاجات موضعية بعناوين محددة: البيئة، الفساد، التعليم، محاربة البطالة، الحركات النسوية، الإصلاح القضائي، ..إلخ، هل هذا ممكن وعملي وأجدى؟ هل بشائرها هي الحراك اللبناني الأخير؟
– في تاريخ العمل المطلبي – أكان مطلبياً أو أقل بلورة من الشكل والتنظيم المطلبي – غالباً ما تكون مسألة برامج التحركات مثار أسئلة وملاحظات تتناول الصلة بين أهل المطالب، وأهل الحاجات المفترضة من ناحية، وبين هيئات كانت على الدوام تنسب لنفسها دوراً قيادياً، من ناحية ثانية. والزعم هذا، وهو رافقه على الدوام ادعاء صلة متميزة وعالية الكعب، بأحوال وأوضاع الجماعات والفئات التي تتحرك، وتخرج إلى العلن بمطالبها، وبشكاويها.. هذه “العلاقة”، وأظن أنها مزعومة، كانت تؤدي إلى اختلاق أدوار. وهذه الأدوار تبرر نفسها بتجربة التنظيم من ناحية، وبـ”معرفة” بالحاجات والأوضاع والإمكانات تتفوق – حسب زعم هذه الهيئات – على معرفة المعنيين أنفسهم والمتحركين. فكان ينتهي الأمر بالحركة وأصحابها إلى أن يكونوا “موضوع” التحرك، بينما هم أصحابه وذواته. ويستكمل الدور القيادي هذا مكانته ووظيفته، فيعمد إلى حشر المطالب في ما يقدمه على أنه برنامجه. وتكاد تجمع التنظيمات التي تنتهج هذه السياسة على أن أفق هذه التحركات والحركات هو قلب النظام السياسي والاجتماعي القائم، أو إصلاحه إصلاحاً عميقاً. وفي كل الأحوال تحتسب في حصادها المكاسب، التي تُحصّل أحياناً، صغيرة أو كبيرة.
وأظن أن ما يسمى ثورات صغيرة يحاول أن يطوي صفحة هذه المزاعم، المتوهمة أو المزعومة إلى حد بعيد. فهذه الفكرة (الثورات الصغيرة) لا تطعن في الثورة الكبيرة المزعومة أو المفترضة فقط، بل أظن أنها في المرتبة الأولى تطعن في كل المسرحية التي تَقَدم وصفها السريع. فهي تطمح إلى رد الحركة إلى أصحابها، تصوراً وتنظيماً، وتتفادى ادعاء رابطة مباشرة وعضوية بغاية كبيرة وغائمة. وقلما تربط الحركات الجزئية بينها وبين قلب النظام، أو حتى بينها وبين إصلاحه إصلاحاً عميقاً يستشعره مواطنون كثر.
ولكن قد تنزع الحركات الموضعية والجزئية إلى المبالغة في تصور رابطة مباشرة وملموسة بين الأوضاع المتردية، المشكو منها، وبين إدارة المعنيين الفعلية للحركة. وليس من اليسير على الحركات الجزئية والموضعية ألّا تنساق وراء وهمٍ موروث من الأحزاب التي تحترف التنظيم والبرمجة. وقد تكون المسألة الأبرز هي مبادرة المعنيين بالمسائل المطروحة إلى تدبير حركتهم بأيديهم. فهذا لا يستدعي مستوى “وعي” عالياً، على ما يزعم محترفو التنظيم والبرمجة، بل يستدعي في المرتبة الأولى المثابرة والتكاتف والتقدير المتزن لملابسات الحركة وميدانها، ويستدعي الجمع بين الانضباط الطوعي وبين الابتكار على وجهيه، وجه المواقف والشعارات ووجه التنظيم في معناه المباشر والعملي.
وهذه الشروط هي وليدة تجربة طويلة، مشتركة ومُدرَكة، على معنى: المداومة على مناقشة ظروف المسألة. ومن الأمثلة ربما القديمة على هذا المسار، ذاك الإضراب العمالي الطويل الذي قاده عمال مصنع ساعات “ليب” في فرنسا، أوائل السبعينات، وتكلم باسمه شارل بياجيه. وكان سابقة لمثال آخر هو إضراب غدانسك لعمال أحواض السفن، تقدمه ليخ فوينسا (“ليش فاليسا” كما شاع)، وولد نقابة “تضامن” (سوليدارنوسك). وآذن هذا الإضراب في 1981، في الانعطاف الذي نجم عنه انهيار النظام الشيوعي في شرق أوروبا.. وعندما استنكر القضاة الإيطاليون، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، تواطؤ الدولة الإيطالية – وعلى رأسها الديموقراطيون المسيحيون والإشتراكيون – مع الجريمة المنظمة، المعروفة باسم “المافيا”، لم يقتصر استنكارهم على انتقاد إجراءات بعينها في قضايا معروفة، بل أظهروا إرادتهم بالمشاركة الفاعلة، والمحفوفة بالمخاطر، في قيادة تحقيقات ومحاكمات صارمة لجرائم من النمط نفسه. وكان حصاد الإرادة الشجاعة اغتيال بعض أبرز قضاة ومحققي المحاكم الجزائية الإيطالية. وقُتل مع القضاة بعض كبار ضباط الأمن الداخلي. وتولى فريق من القضاة إنشاء رابطة قضائية سميت “الأيدي النظيفة”، اضطلع بعض أعضائها، بعد استقالتهم من سلك القضاء، بدور سياسي برلماني.
وأسفرت هذه الحركات الموضعية عن صورة شديدة التعقيد للدوائر التي حصلت فيها. وأبرزت مسألة سياسية حاسمة، هي دور ما يصح أن يسمى تسييراً ذاتياً لهذه الدوائر. فالحركات التي تقصر فعلها على دائرة مستقلة بنفسها أو بذاتها إلى حد ما، تُعمِل في دوائرها صفات تنظيمية وبرنامجية وإنسانية لا تتوافر غالباً إلا في أصحاب تجربة طويلة ومشتركة ومُدرَكة. فالتخفف من تنظيم مركزي، ومن برنامج مسبق، يقتضي موارد عملية وفكرية وإنسانية تفوق كثيراً الموارد التي تزعم الأحزاب المنظمة والمحترفة توفيرها على المعنيين.
* ألاحظ أنك هنا تتجنب كلياً استعمال مصطلح “مجتمع مدني”؟
– هذه الدوائر، من صحة وتعليم وبيئة وفساد.. إلخ، هي على حدود إدارات الدولة المركزية وحاجات المواطنين ومبادراتهم. وإذا صح هذا الوصف، فمفهوم أو إطار “المجتمع المدني” قد يوهم بأن عنصر المبادرة، أو الماء التي تسبح فيها المبادرة، يستبعد العلاقات النزاعية والخلافية بين السلطات وبين عامة الناس. ثم يُحمّل “المجتمع المدني” عملياً كل شيء، أي نوع من الأفكار والآراء والنزعات… فيبدو هذا وكأن نسبة الحركات أو المبادرات إلى “المجتمع المدني” هو استباق لمضمون هذه الحركات ولصدقيتها ولمشروعيتها. فكل ما يصدر عن “المجتمع المدني” يُصوَّر في صورة زاهية، وينفي عنه الحاجة إلى إثبات جدارتها أو حملها لمطاليب لها جدوى.
واستكمالاً للسؤال السابق، أقول: لا شك عندي إطلاقاً في اختزان التحرك المدني اللبناني قوة على التعبير عن حاجات أساسية، وبلورة مسائل قد يكون مستحيلاً على بنية العلاقات السياسية في لبنان، وربما في المشرق العربي، أن يجلوها أو أن يعالجها.
* في الحراك اللبناني أيضاً: معظم النخبة الثقافية انتقلت من الحماسة إلى الحذر إلى النقد، ثم إلى الاختلاف وربما الإحباط. هل هي مسألة سوء تفاهم بين الأجيال؟ هل هي مسألة الغموض السياسي أو حتى التناقضات السياسية بين جماعات الحراك؟
– ما يستوقف في تناول الحراك اللبناني الأخير هو إغفال وصفه وصفاً اجتماعياً ومرحلياً. فلم يُسأل: من أين خرج هؤلاء الناس؟ ولماذا خرجوا في هذا الوقت وفي هذا الموضع؟ وما علاقتهم بأقطاب الحياة السياسية الآخرين (وهم قطب ناشئ من هذه الأقطاب). وأرى أنه استُسهلت إحالتهم إلى موضوع أو مسألة النفايات والتقصير في جمعها.
قد يكون الحراك جواباً عن انغلاق العلاقات السياسية في لبنان منذ الجلاء السوري. فهذه العلاقات استقرت على نوعين من التمثيل والتعبير السياسيَين. النوع الأول، الموروث جزئياً من الحياة السياسية التي سبقت انفجار الحروب الملبننة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، يقوم على التكتل والتمثيل الأهليَين (الطائفية والإقليمية المحلية والريعية الزبائنية.. هي وجوه من التكتل والتمثيل هذين). وغلب هذا النوع على الحياة السياسية البرلمانية النيابية، وعلى مراتب الدولة الأخرى، من الإدارة إلى السلطة التنفيذية إلى رئاسة الجمهورية. ونشأ نوع ثان، واشتدّ عوده في سياق الاقتتال الداخلي والحروب التي خاضها اللبنانيون بعضهم على بعض، بالأصالة أو بالإنابة. فجمعت التكتلاتُ الجديدة والقوية قوامَ الجماعات الأهلية، ودمجتها في منظمات عسكرية وعصبية متماسكة، وبعض هذه المنظمات غلب غلبة ساحقة على الجماعات الأهلية. فتولى قيادتها واستتباعها ومقارعة الجماعات الأخرى بسلاحها. ولا شك في أن الذريعة الإسرائيلية، شأن الذريعة الفلسطينية من قبل، أدّت دوراً راجحاً وقوياً في بلورة هذه المنظمات وفي سطوتها على الدولة وعلى الحياة السياسية، وتقدمت على الأبنية التقليدية الأهلية. وعلى رغم الصفة التمثيلية التي لا تنكر ويتمتع بها هذان النوعان من البناء السياسي المزدوج… بقيت “مساحة” قد تكون واسعة لفئات يحجز بينها وبين تمثيلها في هذين الموقعين حاجز حقيقي. فثمة فئات وشرائح عريضة، ينضوي بعضها في النوع الأول من البنى السياسية، وبعض ثانٍ ينضوي في أبنية النوع الثاني، وهؤلاء هم نتاج مرافق جديدة وكثيرة، ولدها تعقيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والخدمات واطوار الإعلام والثقافة والتكنولوجيا الجديدة.
هذه الفئات والشرائح هي ما يسمى بالطبقات المتوسطة الجديدة، وفيها الفنيون والمهنيون المؤهلون والمهن الجامعية والأطر الإدارية وشطر من الإعلاميين والمثقفين والمدرسين… يتسم تمثيلها السياسي في الأطر اللبنانية المعروفة بقدر لابأس به من القلق والتحفظ. وهؤلاء تكاثروا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي. ووَلَدوا جيلاً من الشباب، بعضهم صار في مقتبل الكهولة، شطر منه نشأ إما على هوامش المجتمعات المحلية أو خارج لبنان، في مهاجر خليجية وأوروبية وأميركية وكندية وأسترالية. ولعل اجتماع هذه الروافد المتحدرة من هذه الأحوال الاجتماعية، ومن هذه البيئات والمنابت، عامل فاعل ونافذ في بلورة “المساحة” التي سبقت الإشارة إليها. فالأفراد الذين شاركوا في مراحل التحرك المدني الناشئ وفي خطواته الأولى، ينتسبون سناً وثقافة واجتماعاً إلى ذلك الجيل. وهذا ظاهر في فرديتهم (“الحسنة”، على ما يقال في “البدع”) وفي شعاراتهم وفي تفرقهم وفي العسر الذي يجدونه في التنسيق بينهم، وفي بلورة تيار يتصف ببعض الثبات والانسجام.
وابتداء الحراك من مسألة مثل مسألة النفايات، لم يُتِح له التركيز على جمهور محدد، ولا العمل في دائرة واضحة القسمات والملامح، فكان على مجموعات من أصحاب الحراك والمبادرين إليه أن ينتشروا في أرجاء ميادين المدن وساحاتها، من غير قوام متماسك. فالنبتة الغضة باشرت عملها من غير عُدّة تدبير، ومن غير اتكاء على بعض التجربة المتراكمة، فانتحلت قواماً تنظيمياً خلوياً قوي الشبه بالمنظمات السرية، وبعض آخر اقتفى أثر أحزاب سياسية مركزية متداعية، وبعض ثالث قنع من العمل بمقابلات تلفزيونية وبتعليقات وسائط الاتصال الاجتماعية.
وقد يبدو مدهشاً نسيان جماعات التحرك صيغة الجمعيات العمومية، التي تناقش وترسم وتنتخب وتقيل، وتدعو المواطنين إلى تمثيل أنفسهم بأنفسهم، وإلى تقييد خطواتهم وأفكارهم بمناقشاتهم.
ولا بد من الإقرار بجدّة هذا التحرك، وبخوضه معتركاً سياسياً واجتماعياً لم يرث من ماضينا النقابي والحزبي إلا ما يحول بين الحراك وبين استقراءِ مسيرٍ مجزٍ. وما كان ربما يُتوقع من “المثقفين”، الرعاة والأوصياء والمشيرين، من إسهام في جلاء ملابسات هذا الحراك وشروطه والعقبات في وجهه… استبدل به هؤلاء الخطب الحماسية، والنصائح التنظيمية والبرنامجية البائتة والنافلة. وكانوا طليعة الإخفاق والتيه والمبالغة في تقويم قوى الحراك وغاياته.
* نشرت قبل شهر تقريباً، مع مهرجان “أشغال داخلية”، كتيباً عن تحولات العمران في بيروت… وأنت مشّاء المدينة، هل لا تزال بيروت كما وصفتها قبل أكثر من عقدين “مدينة موقوفة”؟
– الكرّاسة التي تشير إليها في السؤال تتناول ما أرى أنه ورم في جسم المدينة، أخشى أن يكون قضى قضاء مبرماً على تناسبها في حده الأدنى. فالأبراج والجنائن المعلّقة و”السماوات” (كما لا تخشى شركات البناء تسمية فعلاتها)، تقتطع من المكان المديني، ومن أفقه ومن موارده، شطراً قد يستحيل على بيروت بعد اقتطاعه أن تتماسك إطاراً ومساحةً ودوائرَ حياة وعمل ولهو. فسطو هذه الأبنية على شطر هو بمثابة الرئة من المدينة، به تتنفس وتطل على البحر وعلى الجبل، واكتظاظ هذا الشطر بجماعة من السكان يعزلها انشقاقها السكني عن عموم المدينة، وعن خدماتها ومواصلاتها ومرافقها العامة والمشتركة. فبدلاً من أن تستقبل المدينة خليطاً من السكان، ومن مراتبهم وطبقاتهم ومهنهم وعاداتهم وثقافاتهم، وبدلاً من أن تكون المصهر الذي من طريقه أو بواسطته تتصل الجماعات المتفرقة والمختلفة، تنصب العمارة الفاخرة، والمتحررة من سلّم المناسبة (التناسب)، جدراناً يستحيل اختراقها، ويستحيل كذلك الرسم عليها، على طريقة بانكسي أو على طريقة تاغ في محطات مترو الأنفاق بنيويورك ولندن وباريس وبوينس آيريس والقاهرة واسطنبول.
* أنت مثابر على التواصل مع الفنون الجديدة وشبانها، الفيديو آرت، الأنستلايشن، السينما، المعارض التشكيلية، البرفورمانس.. إلخ، كيف ترى مشهد الثقافة اللبنانية في السنوات الأخيرة؟
– أهذا سؤال يُسأل؟ الحق أن محاولة تألُّف الأشكال التي أحصيت بعضها، ومنزلة السينما منها رفيعة ومحورية، هو محاولة للبحث عما يقوم مقام ثقافة مكتوبة، أرى أنها بلغت قعر التفاهة والكذب والتشبيه والكسل. فمعظم ما يتوسل بالكتابة إلى تناول “الواقع” (الحوادث والوقائع والظواهر والأفكار والمشاعر..) مُلزم بمعالجة ما ترسّب في حياة اللغة من تزوير ونمطية وافتعال ورقابة وكبت. فنحن نتخاطب ونفكر ونروي، وربما نحلم، بلغات “عربية” توالى عليها عتاة التعمية والصمم والانقطاع من كل شيء حيّ. ومن سوء طالعنا، وطالع لغاتنا، وراثتها المقدسات على أنواعها. وهذه المقدسات تلزمنا بولادة واحدة من رحم واحدة وعلى مثال لا يحول، ويفترض أنه لا يزول.
وأظن أن الأحمال التي تنوء بها مناكب هذه اللغات، الميت جلها أو معظمها، لا ينوء بها عاتق الفنون والأشكال الجديدة. وهذا طبعاً تقدير نسبي، فسينما الشباب اللبنانيين (نساء ورجالاً) ومسرحهم ونتاجهم الفوتوغرافي و”التجهيزي”، يلتمع بتوليفات وتراكيب بالغة التعقيد والشمول والجدّة. وامتياز هذه الأعمال يحررها مما علق ويعلق بلغاتنا المكتوبة من قيود، ومن أكمام تكمّ الأفواه وتَعْقِل الألسنة.
* رغم صلتك اليومية بالإنترنت، أنت ممتنع عن اقتناء هاتف نقال (موبايل)، كما أنك لست متصلاً بـ”فايسبوك” أو”تويتر”.. لماذا؟
– ما قد أقوله في هذا الموضوع هو من باب التبرير والاعتذار والتستر على ضروب من العجز والكسل وضعف الحيلة. وإلى هذا، يخالجني شعور حاد بأن هذه المطية لا تفضي إلا إلى ياجوج وماجوج من الإستعراض والاستظهار والاسترسال والاستدراج.. وأنا لا أملك قرينة قاطعة على ما تقدم من الزعم، ولكن بعض الجوس في هذه الأدغال القاحلة وخلائها، لم يحملني على تجديد النظر في هذا المذهب. ولا أكتمك أن مرتع الخصوصيات والحميميات والنميمة العميقة لم يلمس مني وتراً رناناً في عود. فعلى مثال قديم وفائت، لا أزال أحسب أن خاصّي يخصني وحدي، وأن خاص الآخرين يخصهم وحدهم. ولا أرغب في مشاركة هذا الخاص، على وجهيه، إلا من أختارهم ويختارونني طوعاً وتخصيصاً. وربما حملني على هذا الرأي شيوع كتابة تتستر بالرواية وبالشعر وبالمقالة الصحافية (المدعوة نصاً أو نصوصاً) على إفشاء صغائر ركيكة، يحسب أصحابها أنها صيدُ غوصٍ على أعماق الذات، وربما الكائن. ومن وجه أخير، أنا لا أحسب الناس عموماً، ومن أعرف منهم على وجه الخصوص، “أصدقاء” أو أنصاراً فضوليين. وأما التغريد، وأنا المبتلى بالتطويل في شهادة هذه المحاورة وجنايتها على القراء، فما لا طاقة لي به.
المدن
المدن