وطني.. الذي كفّناه بالغيم الأزرق/ فاطمة ياسين
مشاهد الأنقاض والمدن المنحنية، لم تعد تصلح إلا لالتقاط الصور التذكارية. العملية ليست بحاجة إلى خبير. وَجِّه عدستك وثبّت يديك بقوة على الكاميرا ودعها تعمل. تألف العدساتُ شكل الجدران المنهارة بسرعة، وتفتح حدقتها إلى حدّها الأقصى لتبتلع إسفلت الشارع المبعثر كله. يمكنك أن تكتب على ما تبقّى من الجدار شعاراً، أو حكمة، أو حتى شتيمة، ويجوز لأحد الرجال أن يتبول عليه من دون أن يقول له أحد “شو عم تعمل هون؟”.
هناك، في المدن المهدمة، ترقد مادة غزيرة لتأليف الأغاني ورسم اللوحات، وربما لكتابة مسلسلات رمضانية، فقطع الخرسانة المبعثرة حافزٌ جيدٌ لمخيلة خاملة.
وَضعتُ في مربع بحث اليوتيوب اسم فيروز وبعدها أغنية وطني، فظهر عمود طويل من الخيارات، كان أوّلها صورة وجه فيروز الجامد بالأبيض والأسود فاخترته. قَرّرَ اليوتيوب أن يعرض عليَّ إعلان مسحوق الغسيل برسيل قبل أن يسمعني الأغنية. شاهدت الثواني الخمس الإجبارية من الإعلان. ثم ظهرت فيروز بديكور ساذج ينتمي إلى ستينيات القرن العشرين، تقف بذراعين عاريتين لا إغراء فيهما، وسط مكان فارغ، وفي الخلف رُسمت سماء ملبّدة بالألوان القاتمة. صوت الكمنجات الاعتيادي وجبل الغيم “الأزرأ” والإصرار الرحباني على أن “وطني” هو الجغرافيا أو المواسم الزراعية.
الوطن الفيروزي كيانٌ بسيط مبني من العلامات الموسيقية، وأقلّ قدر ممكن من الكلمات. لا تؤثر به القذائف ولا البراميل ولا حتّى الغازات السامة. هنا تجد نفسك مجبراً على انتقاء الوطن الذي تريد؛ هل هو ذلك المشدود بقوّة الفولاذ والإسمنت؟ أم ذاك الرخو الذي يخرج من فم فيروز على شكل لآلئ مغناة؟
لا أذكر لون بوّابة المدرسة التي قضيت فيها ست سنوات، ولكنني أستطيع أن أتذكّر تفاصيل الشباب الذي يتحلّقون أمام البوابة، منتظرين سيل الطالبات أثناء اندفاعه باتجاه الرصيف. شباب يافعون، بشعر أملس مدهون بـ”الجلّ”، وابتسامات موزّعة بالجملة في كلّ الاتجاهات. كنت أسير محتضنة كتبي، مثل فيروز في قصيدة سعيد عقل “مشوار”. وبخطوات قصيرة، بطيئة، ورأسي بوضعية نصف الانحناء، كتحية يابانية، أرنو بطرف عيني متفحصة الجميع، هذا طويل، وهذا بدين، أما ذاك فساحر العينين، جفناه مبطنان ومنسدلان إلى أسفل، أهدابه كحيلة، وعينايَ كانتا تتحركان صعوداً ونزولاً كـ”سكانر” عالي الدقة، تلتقطان كلّ تفاصيل المشهد. الحبّات الحمراء الصغيرة خلف ذقن الشاب الأشقر، وبداية اللحية النابتة التي يتركها زميلُه، تفاصيل يتجمّع بعضُها في ذاكرة نشطة لا تسمح لنشرات الأخبار بتلويثها، وتشكّل وطنها الخاص خصلةً خصلة. فتتناثر تفاصيل وجوه الشباب الذين يتسولون حبيبة أمام بوّابة المدرسة التي نسيتُ لونها.
كانت المدرسة وطناً لكلّ الطالبات. أما أنا فكنت أبحث عن وطني بين الوجوه. وطني، وجه المهرّب الذي يوحي بطمأنينة غريبة وكأنه سيد البحار، يتحرّك بخفّة بـ”التي شيرت” الأبيض وحديثه كالموج الخفيف لا أثر فيه للزوابع ولا لقمصان النجاة المنفوخة. لكن القارب الصغير الذي تُصدر ألواحهُ زقزقةً مرعبة عند كلّ موجة، يتمايل كالبندول، ويطوِّعُ الماء من دون أن يظهر عليه أي أثر للشفقة تجاه السيدة المحجبة التي تحتضن صغيراً على جانب شفته حليب متخثر. وجوه الناس الصامتة التي تنظر أمامها ولا تعير البحر الأبيض المتوسط التفاتةً واحدة، والشمال البعيد ذو الشطآن المنخفضة الحرارة، حيث يشكل الانتحار “قيمة” مضافة.
هناك في البعيد، وبعد الوصول السعيد، يصبح وطني رفاهية إدراج “بوست” على حائط الفيسبوك انتظاراً لشلال اللايكات.
يا خسارة يا جبل الغيم “الأزرأ”، يا وطني.
(كاتبة سورية)
العربي الجديد