وطن الجماجم!/ ممدوح عزام
حين يقف الشاعر، في واحد من المهرجانات “الجماهيرية”، ويلقي قصيدة “وطنية” تتضمن مثل هذا البيت من الشعر: وطن تسوِّره الجماجمُ والدمُ/ تتهدّمُ الدنيا ولا يتهدّمُ. ما الذي يتوقعه المرء من جمهور الشعر؟
يقول الخبر إن موجة من الحماسة الملتهبة، المرفقة بتصفيق ناري، وصراخ هستيري تُوّجت بحمل الشاعر على الأكتاف، وترقيصه وسط الزغاريد والهتافات الاحتفالية. تلك كانت التعبير المباشر من ذلك الجمهور تجاه الكلمات التي تصف الوطن المعاصر.
دعونا نتخيّل معاً مثل هذا الوطن الذي يحتمي بالجماجم، وسط يقين نرجسي بأنها تحميه من أن يتهدّم، حتى لو تهدّم العالم كله من حوله. ثم نتساءل: كيف يمكن لأي جمهور أن يحتفي بشاعر يدعو إلى وطن تسوّره الجماجم؟ هذا محيّر. فالسؤال الذي يمكن مجابهة هذا الجمهور المحارب به هو: من هم أصحاب الجماجم؟ أنتم أم العدو؟ وكيف يمكن لأي عاقل أن يبحث عن وطن تسوّره الجماجم، بدلاً من أن تسيّجه الأشجار؟
لا يحرض هذا المجاز الدموي على انتهاك الأجساد البشرية وحسب، بل يترجم نهجاً حربياً، ورغبة تدميرية، ونزوعاً سادياً، يتجسّد من جهة في التعبير اللغوي، مسموعاً أو مقروءاً في الشعر، كما يظهر في انحياز شريحة من السوريين، مثل أولئك الذين حملوا الشاعر على الأكتاف، ومن العرب، الذين شوّهت الحرب الدائرة في سورية ضمائرهم، وزعزع الصراع المسلّح وجدانهم إلى لغة العنف.
ويمكن استقراء هذه اللغة التي يخزنها البيت الشعري في عائلة من المفردات التي تتسلّل إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ولغة الشارع، من طراز الدعس والقنص والذبح والسحق، وهي سلسلة مرعبة من تمظهرات العنف والعدوان التي بدأت تستقر في جزء من الضمير السوري؛ كي تزحزح من الاستعمال اليومي، ومن قيم الحياة، المفردات الأخرى التي تعبر عن وجهة نظر تقترح العيش في وطن يسوده العقل والرحمة والحوار، كبيت تخفِق الأرواح فيه، كما قالت ذات يوم شاعرة عربية عاشت في زمن بعيد عنا.
ومن المرجح أن البيت الشعري السابق ينتمي إلى الحقب الأخيرة من القرن العشرين، حين ارتدت الثقافة، والشعر على وجه الخصوص، الملابس العسكرية، وتطوّعت للقتال في الجبهات الساخنة. وفي ذلك الزمن كان العدو وحيداً، وغريباً، في المنظور السياسي والشعري. وكان بوسع الشعر أن يدّعي أنه يدافع عن الوجود القومي أو الوطني.
أما اليوم فقد أعيد تدوير، وصياغة، مفهوم العدو ليتحوّل من الصهيوني، والإمبريالي، إلى الجار، أو القريب. وهذا يعني أن الجماجم المقترحة، قد تكون سياجاً، من رؤوس الآخرين لمنعهم من البقاء في المكان ذاته.
وفيما أطلق النقد العربي على ذلك المنحى القتالي اسم المقاومة أو أدب الحرب، فقد اتضح الآن أنها لم تكن أكثر من عسكرة ثقافية تستجيب لشروط العسكرة السياسية التي عمت العالم العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين، والأخطر من ذلك كلّه أن تترجم ذاتها إلى ميل تدميري يمدح الخراب، وهو يتخفّى وراء المفردات الكبيرة المقدسة مثل الوطن والإنسانية.
العربي الجديد