وقف قتلنا خطوة أولى للقضاء على الإرهاب/ سوسن جميل حسن
هناك أزماتٌ اجتماعيةٌ عميقةٌ لدى الشعوب العربية والإسلامية، خصوصا في البلدان التي شهدت وتشهد انتفاضاتٍ وتمرداتٍ واحتجاجاتٍ آلت إلى حروبٍ مدمرة، تداخلت فيها حروب المصالح والتدخلات الأجنبية مع الحروب البينية، تقوم بها مكونات الشعب في ما بينها، لم يلتفت إليها المعنيون، أو ربما التفتوا لكنّ ثغرة ما، أو عدة ثغرات، كانت تضعف أداءهم، فكشف الواقع هشاشة الوعي المجتمعي، وكثرة المشكلات الراسخة التي تتغلغل في أركان المجتمع، فلم تكن البدائل المطروحة، والتي تطرح الآن لتقدر على حل المشكلات، أو حماية المجتمعات من الانهيار، أو كسب تعاطف الرأي العام العالمي لدى الشعوب تحديدًا، فمعظم الأنظمة العالمية والإقليمية ضالعٌ في الأزمات القاتلة التي تعاني منها شعوبنا.
ظاهرة الإرهاب هي الشاغل الأكبر للعالم، وهو بالفعل خطر يهدّد العالم، خصوصا لأن الجهود كلها والسياسات تعمل على توجيهه باتجاه فكرةٍ وحيدة، أو تعريفٍ وحيدٍ للإرهاب هو: الإرهاب الإسلامي، دافعةً الأنظار نحو تفاصيل تتكرّر باستمرار بتواترٍ مخيف، يقوم بها أشخاصٌ باتوا يشكلون حقلاً للبحث العلمي النفسي والاجتماعي، عنوانها القتل والانتقام بكل الطرق الوحشية التي يبتدعونها من عملياتٍ انتحاريةٍ أو سياراتٍ مفخخةٍ أو إطلاق نار كثيف في أماكن تجمعات مختارة، أو الدهس بسيارات كبيرة وغيرها كثير. وفي الوقت نفسه، تعاني تلك الشعوب المتهمة بالإرهاب من أعتى أشكال الإرهاب وأشرسها، سورية مثال صارخ، واليمن، وليبيا، والعراق، وقبلها أفغانستان والصومال ونيجيريا وغيرها…
“باريس، بروكسل، أورلاندو، برلين واسطنبول وسانت بطرسبرغ، كابول، مانشستر، لندن، ومرة أخرى في سورية وإسرائيل والعراق واليمن وباكستان وأماكن أخرى في العالم: تزايدت وتيرة الهجمات الإرهابية التي يقوم بها متطرّفون يستشهدون بالإسلام لتبرير هذه الاعتداءات البربرية في الأشهر الأخيرة. تنشر هذه الهجمات الإرهابية الخوف والذعر عند المسلمين وغير المسلمين”.
“لا بدّ من إظهار حقائق للشعوب التي لا تعرف عن الإسلام والمسلمين إلّا التنظيمات التي ابتدعها الغرب، والأنظمة التي ترعاها في المنطقة العربية والدول الإسلامية”
بهذه المقدمة، خاطب البيان الذي أطلقته مجموعة الشخصيات والجمعيات المسلمة من ألمانيا، الناس للمشاركة في مسيرة السلام في كولونيا يوم 17 من يونيو/ حزيران الجاري، تحت عنوان “ليس باسمنا”، لتوجيه رسالةٍ واضحةٍ من المسلمين، مفادها رفض الإرهاب المقترف باسم الإسلام. وقالوا: “لذلك، علينا الخروج إلى الشوارع والتبرؤ بشكل واضح من التطرّف الإسلاموي. رسالتنا واضحة لا لبس فيها. دعونا نقول للإرهابيين: خاب مسعاكم، ليس باسمنا، أنتم لا تنتمون لنا بصلة”.
خطوة من هذا القبيل ضرورية ومهمة للفت النظر إلى أن هذه الحركات العنفية تحت راية الإسلام لا تمثل الإسلام والمسلمين، وأن الشعوب الإسلامية صديقة الحياة والإنسانية، وهي شمعة من بين شموعٍ كثيرة، يجب أن تشعل لإضاءة الواقع والكشف عن حقائق مغيبة. لكن، ما مدى تأثيرها وفاعليتها في خضم الواقع الموّار الذي يغرق العالم فيه، خصوصًا عالمنا العربي؟ وهل تفيد كل الحركات والنشاطات والفاعليات أمام هذه الحروب التي تدمر أوطانًا، وتنفلت من نيرانها شراراتٌ تقدح هنا وهناك، من دون طرح أسئلةٍ نقديةٍ انطلاقًا من واقعنا؟ منها سؤال جوهري وأساسي: ما هي القدرة التاريخية للمسلمين على تجاوز أزماتهم الخاصة؟ إذ بات من نافل القول إن لممارسة الإسلام أزمات كبرى بنيوية بالشكل الحالي لهذه الممارسة، المسخر لخدمة السياسات، والطامح للولوج في السياسات، كالإسلام السياسي.
تعيش شعوب منطقتنا العربية منذ قرون، وليس عقود فقط، تحت واقع البؤس والبطالة والتخلف والاستبداد الذي تحالف فيه السياسي مع الاجتماعي والديني، ولم يكن لديها ملاذ من شبح الغربة الوجودية التي تقضّ مضجعها غير الارتماء في الدين الذي شيئًا فشيئًا صادرته أنظمة وجماعات سياسية سلطوية مستبدة، مرتبطة بالغرب الذي شجع على تعبئة الشعوب في حركات أصوليةٍ عنفيةٍ إقصائيةٍ، تجاهر في عدائها للغرب الكافر، وعمل على تضخيم “فزاعة الإسلام”.
تطهير الإسلام من راهنه ونزع القناع الذي يسعى الغرب والأنظمة المرتبطة به إلى إحلاله محل الهوية الحقيقية للإسلام، ديناً إنسانياً يلبي حاجاتٍ روحية بطرقه الخاصة، مثل بقية الأديان، يستلزم، بالدرجة الأولى، وقف الحروب والاقتتال في المنطقة، والعمل على النهوض بالأوطان وإعادة إعمارها، والعمل على تلبية حاجات الشعوب وإعادة الثقة إلى نفوسها. طالما هناك ظلم وشعور بالمظلومية، وتضخيمها عند كل فئة أو شريحة من الشعب، لتصبح هي الغاية والهدف، لن يكون نهوض أو انسلاخ عن القناع الإسلاموي الذي يتم إلباسه للوجوه. بل يجب رفع الدعم عن كل تنظيمات وجماعات الإسلام السياسي الذي يبيع الأوهام إلى هذه الشعوب الفقيرة المضطهدة، ويزجّ بها في أتون الحروب، والسعي إلى بناء كيانات خارج التاريخ.
يُقتل الشعب السوري بالعشرات والمئات كل يوم، على جبهات عديدة، وبأيدي أطراف متنوعة وأدواتها، والكل يتاجر بقضيته، ويدّعي الدفاع عن حقوقه. الرّقة تذبح منذ سنوات عدة، منذ أن ألقيت في أحضان “داعش”، إلى يومنا وهي تشهد أكبر عملية نزوح، وأكثف مجازر بحق أهلها، بادعاء تحريرها من هذا الكيان الإشكالي الذي ولد ناضجًا مكتملا فوق أراضينا، في حربٍ يقودها التحالف، وتقوم بها قوات سوريا الديمقراطية، ويشارك فيها النظام بدعم روسي، وعيون تركيا جاحظة بتوتر وجهوزية للانقضاض، في صورة سوريالية يعجز الإنسان الواعي عن فهمها.
يُقتل الشعب السوري في درعا، في دير الزور، في إدلب وريف حلب. يعاني من تهديد وجوده، حتى في الأماكن التي تُصنّف آمنةً، حيث يسيطر النظام، فإن الشعب يعيش موتًا بطيئًا خبيثًا غير منظور.
الظلم والاستكبار وتقسيم العالم إلى عوالم، تتباين معيشة الفرد فيها بين الجنة والجحيم، لن يعيد إلى الإسلام هويته، وللمسلمين مكانهم الإنساني بين شعوب الأرض.
اليمن الذي يموت أطفاله ونساؤه من الفقر والعطش والكوليرا، ورجاله في حرب عبثية، كيف يمكن نزع الشعور بالظلم والغبن وامتهان العالم لهم من أرواحهم، ومطالبتهم بأن يكون الدين طقوسًا وعباداتٍ فقط؟ بينما أطراف الصراع تضرم نار المذهبية والتطرّف الديني؟
لا يمكن أن يكون السلوك الديني خارج النشاط الاجتماعي، كما قال ماكس فايبر، أي أن الأديان تسهم في صياغة النسق الاجتماعي والاقتصادي، وفي آليات عمل النسق السياسي، والقول له أيضًا. ولكي يصبح الإسلام بناءً إنسانيًا يمكن إقناع الشعوب الغربية وباقي شعوب العالم به، بعد أن صيّره النظام العالمي عدوّ الإنسانية وفزاعة الشعوب، فلا بدّ من كبح الانحطاط القيمي والأخلاقي، وفي كل مجالات الحياة، وحماية الشعوب العربية والإسلامية من الانحدار المريع نحو قاعه. لكن العلاج لا يكون بالكبح، وإنما برفع الضيم والغبن والظلم، بوقف الحروب والإبادة الجماعية، بمساعدة الشعوب المنكوبة على التخلص من أنظمة الطغيان السياسية والدينية.
“قوة الأصولية وجبروتها في قدرتها على إضعاف المسلم الحقيقي، والإسلام الحقيقي”
تعمّق الحركات الأصولية المتطرفة تحفظ الشعوب الأخرى تجاه المسلمين، وتزيد في رفضهم، فقوة الأصولية وجبروتها في قدرتها على إضعاف المسلم الحقيقي، والإسلام الحقيقي، وهي على الرغم من كل أساليبها العنفية الرهيبة من قتل وفصل رؤوس وتعليقها وسبي النساء وهدر كراماتهن والقتل الجماعي، وكل ممارساتها المستفزة والمنفرة لا تستطيع أن تمنح المرتدّين تحولاً روحيًا مفتقدًا. هناك فجوةٌ سحيقةٌ يجب العمل على ردمها، هناك حاجاتٌ روحيةٌ تنتظر ما يسدّ نهمها من منابع أخرى أكثر إنسانية.
لا بد من الاعتراف بمبادرة كهذه، الدعوة إلى السلام التي تختم بيان دعوتها بالعبارة: “الرجاء رفع دعوات سلام فقط خلال المسيرة، والتخلي عن الرموز السياسية وأعلام الدول والمنظمات”. وهي محقة في هذا، فالهيئات والمنظمات السياسية، ودول ومنظمات كثيرة يتراوح دورها وموقعها مما يجري بين صامتٍ مشلولٍ عاجز، أو متواطئ، وضالع في الظلم التاريخي والمجازر الجماعية وإبادة شعوب وأوطان. وبعضها هو من ابتدع الإرهاب فكرة وعقيدة وخطابًا وممارسة.
لا بدّ من إظهار حقائق للشعوب التي لا تعرف عن الإسلام والمسلمين إلّا التنظيمات التي ابتدعها الغرب، والأنظمة التي ترعاها في المنطقة العربية والدول الإسلامية.
العربي الجديد