ولكنني أحب البلد/ خليل صويلح
أفكّر بأمي. بيننا ألف كيلو متر من الجحيم والحواجز والفقدان. تلك القرية الحدودية محاصرة بالرايات السود والعجاج وقلة الزاد. نشّف المسؤولون الحكوميون الفاسدون نهر الطفولة الأولى بمشاريع وهميّة، ثم رحلوا محمّلين بالذهب، وأكمل أسلافهم الإجهاز على موارد حقول النفط. اختفى مشهد عاملات القطن، وبائعات اللبن على الطريق العام، وسوق الأغنام. أرمّم الغياب القسري بمشهديات قديمة، وأحصي قوائم الموتى بهزّة من الرأس وحسب. ولكن كيف أفسّر عبارة قالتها أمي لأخي وهو يحكي على الهاتف، تقول أمي: «كلموا (خليل) أرغب أن أشوفه». لا تقصد أمي بالطبع أن تتكلم على (السكايب)، لأنها لم تسمع بهذه الخدمة، كما أنها غير متوفّرة في الأصل، إنما تعيد بشكلٍ ما، عبارة لسقراط الذي لا تعرفه «تكلّم حتى أراك». الصوت نصف المشاهدة، والمكتوب أيضاً، وفقاً لما كان يكتبه الجنود في رسائلهم القديمة. أمي ترغب أن «تشوفني» على الهاتف. لم يعد متاحاً أن تشاهدني وجهاً لوجه، بعد أن احتل التكفيريون المكان، وخرّبوا الطريق إلى هناك، لذلك هي تكتفي بسماع صوتي. هناك معضلة أخرى، أمي لا تسمع جيداً. هكذا تتبادل الحواس المهمة في التواصل عن بعد. الصوت المبتور بدلاً من الرؤية. كنتُ في زياراتي البعيدة إلى هناك، قد انتبهتُ إلى أن أمي، لحظة اللقاء الأولى، تمطرني بالقبلات التي تنتهي بالشّم. وكأنها ترغب باستعادة رائحة حليب ما قبل الفطام. الشّم بوصفه أول علامة بدائية في معرفة تاريخ السلالة وأصالتها. ترميم المسافة بين الغائب ومسقط الرأس تبدأ بالنباح المعادي لكلاب البيت، ثم شمّ الكائن الطارئ، وما أن تستعيد الكلاب الرائحة حتى تبتعد مطمئنة، أو ترافقني في موكب مسالم إلى عتبة البيت. الآن لديّ يقين بأنني لن أرى تلك الديار مرّة أخرى، أو في حال أُتيحت لي زيارة إلى هناك، لن أجد أمي. هكذا أُخضع نفسي لتدريبات شاقة على اعتياد غيابها المتوقّع، قبل أن يقع. ما أن يرّن الهاتف الذي نادراً ما يعمل، وأرى رقم أحد أشقائي، أعاجله بالسؤال: «هل لديك خبر سيئ؟» ثم أحاول استعادة توازني بأسئلة اعتيادية عن أحوال البشر هناك. لا تخلو مكالمة من أخبار عن موتى جدّد، بعضهم كانوا أصدقاء طفولة، أو أقارب. أسأل عن عمتي الكبرى التي تجاوزت المائة عام من عمرها: هل لا تزال على قيد الحياة؟ يجيب: «إنها تتمنى الموت كل يوم، بعد أن فقدت القدرة على المشي، وفقدت نظرها تماماً، لكنها تعرف زوّارها من أصواتهم، بمجرد أن ينطق أحدهم بكلمة». الصوت ثانيةً. لعله كلّ ما تبقى في تلك الصحراء البعيدة، كنوع من الحداء الذي اخترعه الأجداد في غزواتهم القديمة على خصومهم من العشائر الأخرى.
هناك أيضاً، الجولات التفتيشية التي تقوم بها عصابات «داعش» للاطمئنان على تنفيذ تعاليم الإسلام!، ومعاقبة أي رجل يحلق ذقنه، وأية امرأة لا تغطي وجهها بالسواد، وإلا سيحال من يخالف هذه التعليمات إلى وضعه في قفص على مرأى من الجميع، أو جلده، أو قطع رأسه ببلطة. أية محنة يعيشها هؤلاء البدو الذين بالكاد ينجزون صلوات مرتجلة، تعلّموا طقوسها، على أيدي متصوفين عابرين، كيفما اتفق؟ وكيف لي أن أعود يوماً، إلى هذه المذبحة؟
الآن فقط، في هذه اللحظة، وصلني خبر موت خالي في تفجير سيارة مفخخة وسط مدينة الحسكة. أية نهاية مفجعة لشخص أليف مثله. لم أره منذ سنوات. كان آخر ما يربطني به، مكالمة هاتفية. إنه الصوت مرّة أخرى. كأن الصوت هو آخر ما تبقّى من الحواس. صوت الطائرات، صوت القذائف، عويل سيارات الإسعاف، أصوات الأمهات البعيدات. صوت النرد في المقهى، (مقهى الروضة)، آخر عناوين بريدي اليومي. نادل المقهى يخبرني همساً بأنه قرر أن يهاجر أيضاً. لم يبق أحد تقريباً. لكننا، حول طاولة الرخام الحزينة، نحاول ترميم ما تبقى من أصوات، أو استعادة أصواتنا التي خطفها الآخرون بالتصفيق الحاد، وبنبرة التخوين، وبمعجم النفاق. يسألني أحدهم بدهشة: «ألم تغادر البلاد بعد؟» أهزّ رأسي بالنفي. من جهته، ينبغي لشخص مثلي، لديه بقايا نزق بدوي، وخشم مرفوع في مواجهة الكرامة الجماعية المهدورة، أن يغادر البلاد التي لم تعد تشبهه. لكنني أحبّ البلد، كما ينبغي لشخص مثلي أن يحب البلد، بصرف النظر عمّا فعله ويفعله الآخرون. لست ألمانياً يا فتى، وليس لدي جذور في بلاد الغال، كما إنني لست مدرّباً على عبارة «طال عمرك»، أو «صح لسانك». أشبه نفسي فقط، بكامل أخطائي وخطاياي. لست من المهاجرين، كما أنني لست من الأنصار. لا أجيد ركوب الخيل. تعلمتُ السباحة في نهر الخابور قبل أن يجفّ. أما حصتي من الرماية، فهي أن أكون دريئة لسهام الرماة. هنا، وفي ما وراء البحار، غير عابئ بعدد الطعنات. أقول بما يشبه الدفاع عن النفس: ولكنني أحبُّ البلد، هذا المرض الخبيث الذي لا شفاء منه. كفّوا عبثاً، واتركوا لنا هذا التراب، لا تخلطوه بزرنيخ البغضاء.
(روائي سوري)