وما زالت الشاعرة تقول: “أنا قحبة”/ محمد حجيري
خلال مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، كان بعض اليساريين يتبارون في الاعلان عن الكتب التي يقرأونها أو يتبادلونها في أمسياتهم، هناك كتب ألف باء الشيوعية، مثل “الأم” لمكسيم غوركي، و”كيف سقينا الفولاذ” لنيقولاي أوستروفسكي، وفي الشعر غالباً ما يكون السؤال عن قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب المسجلة و”الممنوعة” وهي “القدس عروس عروبتكم”، وكانت شتيمة الرؤساء العرب الواردة فيها “أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟” كأنها قمة “العبقرية” الثورية والتمرد وأعجوبة الأدب، كأنها بالنسبة لعشاقها “آية” بينة أو قولاً مأثوراً ورد على لسان المسيح، وحتى الآن يكتبون في تعريفها على الفايسبوك بأنها من “روائع الأدب السياسي”، من دون الانتباه الى أن هذا الكليشيه الشتائمي أو البيان الغاضب والانفعالي، وإن كان يفش خلق البعض، لكنه ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في اهمال أجمل ما كتبه النواب شعراً، وبالتالي صار شعره أسير كلمة “قحبة” وأسير قصيدته الرديئة.
أورد هذا الكلام، لأصل إلى قصيدة مترجمة عن الفارسية بعنوان “أنا قحبة” لشاعرة كردية فارسية مغمورة باللغة العربية اسمها باران ميلان، قيل إنها تنتمي الى الحركات النسوية، وتستعين بـ”الوقاحة” اللفظية أو ما يسمى “المحرمات”، لتقول موقفها من قضايا اجتماعية كالشرف والدين والجنس والاغتصاب: “يقتلني الشرف كلّ يوم”، و”يتم طعن امرأة من ذريّتي بخنجر الشرف./ فاقتلوني بدلاً عن نساء العالم!”. وبغض النظر عن فجاجة العنوان، لكن القصيدة تعري المجتمع “الشرقي” أو التقليدي بالقول: “أضاجعك أنت الذي لا أحبّه./ فلن تجد أبدا عاهرة أكثر عهراً منّي!”، وتتوج ثوريتها بالتمرد العالي النبرة: “باسم النبي!!/ لقد رجمني الدين”، ومع أن القصيدة ترجمت في المرة الأولى العام 2011 بتوقيع حميد كشكولي، ثم ترجمت العام 2012 بتوقيع آوات محمد، لكن لوحظ أن الاهتمام بها في الأيام القليلة الماضية لمجرد عنوانها، وسبب انتشارها الواسع في وجودها على صفحات الفايسبوك. للعنوان هنا وقع خاص وفج وانتهاكي و”ابليسي”، أشبه بـ”فياغرا للانتشار”، وورود كلمة قحبة على لسان امرأة، أقوى بكثير من شتم الزعماء في قصيدة مظفر النواب. ربما هو الفارق بين شاعر يدّعي صوت الجماعة المهمشة، وامرأة “نسوية” تقرأ عن ذاتها لتكون بياناً عن أحوال الآخريات.
لكن هل يصل المعنى المقصود؟ أم أن ضجيج كلمة قحبة ينسف جسور المعاني والمواقف؟ أليست كلمة أو لفظة “أنا قحبة” في اللغة والاستعمال الشعري، شبيهة الى حد كبير بـ”جهاد التعري” الذي تتولاه نساء حركة “فيمين”؟ لقد رأى كثيرون في القصيدة الجرأة لا القضية، شغلتهم اللغة بلسان المرأة أكثر من المرأة نفسها، ولدت لديهم متخيلاً ربما يكون ذكورياً، وبعضهم اعتبرها نوعاً من عربدة وليست قصيدة الموقف، ربما الأمر يتعلق بمشكلة التلقي قبل كل شيء…
وأياً يكن مضمون القصيدة وتعابيرها، سيبقى العنوان صارخاً لكنه يسرق المعنى كما حصل في قصيدة مظفر النواب، الكلمة الصارخة تتحول بروباغندا للشاعر.
هكذا، باتت الكتابة عن الجنس والعناوين “المشرقطة” مثل “أغاني آخر زمن”. فعلى غرار باران ميلان، كتبت الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان قصيدة عنوانها “أنا العاهرة وأما بعد”، من ديوان “متمرداً يمر نهدكِ من هنا / الرباط ـ 2006″، وقبل أشهر “توجت” قصيدتها “العرمرمية” الساذجة بموقف اكثر سذاجة، وكتبت على صفحتها: “أنها تضع خدماتها الجنسية رهن إشارة كل من يرغب فيها من أفراد الجيش الكردي، في حربهم ضد همجية الإرهاب”، كانت مثيرة للسخرية والتهكم لكنها أحدثت ضجيجاً فايسبوكياً…
قبل شاعرة “جهاد النكاح المضاد”، كتبت المدوّنة روعة كلسينا العام 2011 نصاً بعنوان “شبابيك عاهرات”: “أنا عاهرة.. عاهرة ميدان التحرير.. أثرت حفيظتكم لبحثي عن استقرار البلاد عوضاً عن البحث عن زوج أستقر معه.. بحث عن سقف الثورة يحمي كافة الشعب عوضاً عن البحث عن رجل يأويني، وكأنني من دون مأوى”… كأن المدوّنة تسخر من استعمال كلمة عاهرة، وفي الوقت نفسه تستجدي تسويق كلماتها من خلال هذه الكلمة، وكان لافتاً مدى التعليقات على نصها…
لا شك في أن استعمال الألفاظ “الجريئة” أو “جهاد الألفاظ السوقية” إذا جازت التسمية، استعراض لافت لكنه باتت ممجوجاً، واشبه بنكتة مكررة عشرات المرات على لسان شخص واحد.
المدن