..ومن الثورة السورية إلى “المسألة الشامية”
رستم محمود
يرتبط الاجتماع السياسي والثقافي السوري بالدول الثلاث الأصغر منه حجما (لبنان، الأردن فلسطين) لأسباب تاريخية وديموغرافية معقدة، بما لا يقارن باشتباكه بمجتمعات الدول المحيطة التي تكبر الكيان السوري حجماً (تركيا العراق والعربية السعودية). ربما لأسباب تتعلق بالحاجز الجغرافي الصحراوي بينها وبين كل من العراق والسعودية، وبسبب التخالف القومي واللغوي مع الدولة التركية الحديثة. ولسبب سياسي أولي بديهي، وهو صغر حجم ودور وإمكانات وموارد الدولة السورية الحديثة، مقارنة بالدول الثلاث الاخيرة. لذا فإن تأثير الحدث السوري الراهن، سيكون عميقاً، على مسار الأحداث في الدول الثلاث الأولى (لبنان، فلسطين والأردن).
تكونت الاشكاليات السياسية المركزية في هذه البلدان الثلاثة، كانعكاس لطبيعة النظام السياسي الحاكم في سوريا. أو، أن دور النظام السوري كان بالغ التأثير في تلك الدول، حتى إنه اعتبر تكوينا وفاعلا داخليا في اللعبة السياسية في هذه الدول الثلاث. فللأسباب المذكورة في المقدمة، ولتداخل القضايا السياسية بعمق فيما بين هذه الدول، تشكلت هذه الحالة المعقدة من العلاقة، بين الاشكاليات الداخلية في تلك الدول وخيارات النظام السوري. فطبيعة النظام السياسي اللبناني “التوافقي – الطائفي”، وسلاح حزب الله وعلاقته مع الجماعات اللبنانية الأخرى في لبنان، واشكالية العلاقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومستقبل العملية السلمية في الأراضي الفلسطينية، وطبيعة تحول نمط الحكم وعلاقة المكونين الاجتماعيين “الفلسطيني – الأردني” في المملكة الأردنية، تعتبر موضوعات ستتأثر بعمق بأي تحول عميق في بنية وشكل السلطة في سوريا، للتشابكات التي ذكرت سابقا.
تحولاً عن العقيدة المركزية التي اتخذتها الاطراف اللبنانية المختلفة، منذ بدء الثورة في سوريا -النأي بالنفس – كان وسم السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، للذين قتلوا في تفجير “خلية الأزمة” في سوريا بـ”رفاق السلاح”، بينما استغرب “حليفه اللدود” وليد جنبلاط ذلك، واصفا الضحايا بـ”المجرمين” ثم بعد أسبوع واحد، اتهم رئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، والذي كان احد الضحايا في ذلك الحادث، بأنه أحد الضالعين المباشرين في اغتيال والده كمال جنبلاط، يشكل ذلك تحولاً ومدخلاً أولياً كاشفاً، للمدى الذي يمكن أن تتأثر به “القضية اللبنانية” حسب النهاية التي سوف تأخذها الحالة السورية. فشكل التحول في سوريا، لن يُحصر بمجرد تغيّر بعض موازين القوى بين “الطوائف” والقوى السياسية اللبنانية، بل ربما يعتبر مصيريا بالنسبة لكثيرها، سلبا أو إيجابا. وهو شيء قد يُدخل تحولا جوهريا في مستويين مختلفين في الحالة اللبنانية:
أولاً: سلاح حزب الله وأوجه نشاطه وجل أدواره اللبنانية والاقليمية، ستكون للمرة الأولى من دون عمق استراتيجي، كان يؤمنه دوما النظام السوري. وهو ما قد يدفع كل قوى 14 أذار، لتصعيد مطالبها بتسليم الحزب سلاحه للدولة اللبنانيّة. وهو فعل قد يقابله حزب الله بسلوك مسبق من خلال تمركزه حول نفسه، واستغنائه عن أي شرعية أخرى، غير شرعية قوته. والظاهر، أن التسوية تبدو غير ممكنة في هذا الشأن، فحزب الله لا يجنح لأية تسوية تدفعه للتخلي عن سلاحه. حيث يشكل هذا الأخير جوهر تمايزه عن القوى السياسية التقليدية الشيعية الأخرى (حركة أمل)، كما أن هذا السلاح يعتبر الدافع الوحيد لفعل الإمداد الإيراني. بالمقابل، فإن قوى 14 آذار اللبنانية، سوف تغادر موقعها المطالب لحزب الله عبر الخطاب فحسب، وستصعد مواقفها في حال شعورها بخسارة حزب الله لعمقه السوري، حيث سيعتبر نزولها للشارع أولى الخطوات التصعيدية في ذلك الاتجاه.
ثانياً: قضية “تحالف الأقليات” التي كانت تشكل بنية وجوهر “اللاوعي السياسي” للكثير من التيارات السياسية اللبنانية، وفي مقدمتها تحالف حزب الله مع التيار الوطني الحر (تيار الجنرال ميشيل عون). حيث كانت الطبيعة الطائفية للفعل السياسي اللبناني، تجر قراءة طائفية مماثلة لنظيرها من الفعل السياسي السوري. فقوى مهمة من المجتمع السياسي اللبناني، كانت ترى خطرا عميقا في “الأغلبية” الديموغرافية للمسلمين السنّة في المنطقة، فكانت تميل لبناء أشكال من التعاضد البيني فيما بينها، سواء من غير المسلمين أو من غير تبعة المذهب السنيّ. حيث كان المنحازون اللبنانيون لذلك السلوك في التفكير السياسي، يرون في النظام السوري ممثلا وحاميا لتوازن الطوائف في الإقليم السياسي، لاعتبارات طائفية موجودة في بنية تركيب هذا النظام نفسه، وكان جوهر خطابهم المعبر عن ذلك، يتمثل في خطاب بسيط “النظام السوري غير ديموقراطي، لكنه حامي العلمانية وتوازن الطوائف والمذاهب في المنطقة”.
سيدفع التحول السياسي الجديّ في جوهر النظام السياسي السوري، بأحد اتجاهين مؤثرين بحدة في هذه الحالة. فإما ستكتشف تلك التيارات، التي كانت تبني مخيال “تحالف الاقليات”، أن الطائفة العربية السنية على مستوى من التنوع والامتداد الواسع، مما يمنعها من التشكل والتصرف كطائفة سياسية في الاقليم السياسي المحيط بلبنان، وأن هذه الطائفة ستنتج تيارات وخيارات سياسية شتى، غير مبنية على وعيها الطائفي لنفسها ولباقي الطوائف، وهو الشيء الذي قد يخفف من حالة التوجس منها، ويدفع باتجاه تكون مناخات سياسية اقل تأسيسا على الوعي الطائفي المضاد لطائفة الأغلبية، حسب الشكل الذي تتبناه راهنا، وهو ما سيكون خطوة باتجاه تحلل النظام الطائفي في لبنان. لكن على ضفة مقابلة، فإن ذلك التفكك في طبيعة النظام السوري، قد يدفع “التحالف الأقلوي” اللبناني لمزيد من التراصص البيني. حيث ستكون امكانية حدوث ذلك أقوى، في حال تعمق العنف السوري، وتحوله من اشكاله السياسية، نحو التعبيرات والأفعال الطائفية والأهلية.
سيكون التأثير السوري على الساحة الفلسطينية أكثر تعقيدا وأثرا. فإن كانت الساحة اللبنانية تبنى على فصام واضح بين قوى 8-14 آذار السياسية، وتغير النظام سيؤثر بشكل متباين على تلكم القوتين. فإن الفعل السياسي السوري، كان وسيبقى، أكثر حرصا وتدخلا في الشأن الفلسطيني، أيا كان شكل النظام الحاكم في سوريا مستقبلا. لأنه حتى الاشتباك السوري مع الحالة اللبنانية، كان مصدره دوما، الرغبة بالحضور في المشهد الفلسطيني. ففلسطين ستبقى دوما، ولأسباب تاريخية وسياسية شتى، المسألة المركزية في السياسة الخارجية السورية، بغض النظر عن طبيعة ونمط السلطة السورية. فما يمكن أن ينتزع من فصام وشبه استقلال بين المجالين السياسيين السوري واللبناني مستقبلا، لا يمكن أن يحدث أبدا بالنسبة للمجالين السوري والفلسطيني، إلا في حال حدوث تسوية سياسية مستقبلية كبرى مع اسرائيل، ونهاية هذا الشوط غير الطبيعي من التاريخ في هذا الإقليم.
القسمة السياسية الإقليمية التي كانت تتوزع التيارين السياسيين الفلسطينيين، بين المحورين العربيين “الممانعة – حماس” “الاعتدال – فتح” لم تعد صحية وذات دلالة مع نجاح الثورة المصرية، وبدء الثورة في سوريا. فحركة حماس لم تذهب لاختيار موقع واضح من طرفي الحدث السوري، كما فعل حزب الله. فقد كانت الإشارات الدالة على حدوث نوع من الشقاق بين الحركة وبين النظام السوري بالغة الوضوح. من عمليات الاغتيال الغامضة التي طالت قيادات للحركة في دمشق، إلى مجمل البيانات التي أصدرتها عن الحدث في سوريا، حيث كانت تسعى دوما إلى إيجاد مساحة حيادية من الأطراف المتنازعة في هذا الحدث السوري. لكن الأكيد، أن التحول في شكل النظام السياسي السوري، سيرفع ثقلاً تاريخياً عن صدر حركة فتح، حيث كانت الحركة تعتبر التيار الفلسطيني التاريخي الذي يعاند استحواذ النظام السوري على الملف الفلسطيني. لكن الملفات الداخلية الفلسطينية ستتأثر بعمق في مستوين اثنين عاليين في حالة تحول النظام السياسي السوري:
أولاً: سيكون مناسبة أولى لخروج العقل السياسي الفلسطيني العام من أقلمته الزائدة، فأي نظام سياسي سوري جديد، أياً كان شكله، سيخرج المنطقة كلها من حدة المحاور المتقابلة. فالقوى الكبرى الثلاث المحيطة بالمركز الفلسطيني (سوريا، مصر والعربية السعودية) ستكون أقل توتراً وقلقاً في تبايناتها السياسية والأيديولوجية بين بعضها البعض. وهو ما سيفسح المجال للقوى السياسية الفلسطينية، لصناعة مجال عام فلسطيني وطني، يملك وينشغل بشكل أعمق بخصوصيته الذاتية.
ثانياً: سيكون ذلك التحول مناسبة لخروج القضية الفلسطينية من إطارها الأيديولوجي والقومي والثقافي لجوهرها السياسي. أي أن القضية الفلسطينية ستُمنح فرصة لتكون قضية شعب مُهجر وأرض محتلة ودولة يجب أن تبنى في الوقت القريب. حيث كان النظام السوري بطبيعة تركيبته الخطابية القوموية، ونوعية تحالفه مع النظام الإيراني، طبعا مع مساهمة إسرائيلية بليغة في ذلك، قد جاهد لإخفاء المعالم السياسية للقضية الفلسطينية، لإطالتها والاستفادة منها. فتحوّل شكل النظام السوري، سيعني مباشرة فتح الأفق السياسي في القضية الفلسطينية.
الأردن بدوره سيعاني من الإشكاليات المتضادة نفسها التي تخص لبنان والأراضي الفلسطينية. فصحيح أن زوال هاجس أمني وتباين أيديولوجي تاريخي مع النظام السوري، سيريح الأردن. لكن ذلك سيعني تماما انتقال “الخيارات التغيريّة” لا الإصلاحية فحسب، إلى قلب الأردن السياسي. وسيضعها في ساحة الربيع العربي تماما. فنجاح الثورة السورية بكل مشقتها، سيكسر هواجس كل التيارات السياسية الأردنية الطامحة لعميلة التغيير في المملكة. فجل التردد الرسمي الأردني، في موقفه من الثورة السورية منذ البداية، كان نتيجة هذا التناقض من الإغراء والتخوف الذي يكمن وراء أكمة الثورة السورية. الأكيد، أن عجلة الأحداث المطالبة بالإصلاح سوف تتسارع بوتيرة كبيرة في المملكة، لكن كيف سيتمكن الأردن من ايجاد فصل بين مجالها الخاص وبين نتائج الفعل السوري، فربما ذلك ما سيرسم مستقبل النظام السياسي الأردني في العقود المقبلة.
كانت سوريا ولأسباب تاريخية وسياسية وديمغرافية وجغرافية… الخ، تشكل ما يمكن تسميته بـ”الكيان التعريفي” بالنسبة لهذه الدول الثلاث، أي أن ظرف وشكل الحالة السياسية في هذه الدول، كانت دوما انعكاسا لخيارات الأنظمة الحاكمة في سوريا. تعمقت تلك العلاقة في عهد البعث، لإنتاج النظام السياسي السوري أيديولوجية وصائية عروبية، ولتوافقات النظام الاقليمية والدولية، التي سلمته الكثير من خيوط إدارة الاستقرار في هذه البلدان، في أوقات الأزمات. فالنظام السوري كان بـ”استقراره” الداخلي، يشكل إغراء للقوى الدولية بقدرته على الضبط والاستحواذ والاستقرار في هذه الكيانات الأصغر. ستعيد هذه الكيانات، في لحظات تفكك النظام السوري، إعادة إنتاج مجالها الخاص. فهي ستولد مجدداً مع ولادة الدولة السورية الجديدة، ولذا يمكنها أن تعاني كل آلام الولادة التي يعاني منها الشعب السوري راهنا.
والظاهر أن الألم شرط تكويني للولادة.
المستقبل