وهل يريد الله كل هذه الدماء؟/ إبراهيم غرايبة
تبدو مجريات الأحداث والصراعات اليوم وكأنها مستمدة من أسطورة مشرقية تتحدث عن وحش كان يفرض على الناس أن يقدموا له أدمغة الاطفال ليأكلها، وكان الناس يذبحون صاغرين أولادهم ليقدموا ادمغتهم للوحش، وفي اليوم المخصص لأحدهم ليقدم طفله قرباناً للوحش، فكر قليلاً ووجد أن الحياة لا تستحق البقاء بعد أن يذبح طفله بنفسه، فقرر أن يذبح خروفاً ويقدم دماغه للوحش بدلاً من الطفل، وهو على أية حال لن يخسر شيئاً طالما انه لم يعد راغباً في الحياة بعد ذبح ابنه. وكانت المفاجأة الهائلة ان الوحش التهم دماغ الخروف من دون ان يلاحظ الفرق، وصار الناس يقدمون للوحش خرافاً بدل الأطفال… وكأن الحلّ اليوم في الخلاص من الوهم الذي في داخلهم، والتوقف عن الموت لأجل الوحش الذي لا يدرك ما يقدم له الناس.
لا بأس بالموافقة على أن الحروب الأهلية المدمرة في المشرق العربي اليوم تغذيها صراعات على الحكم والسلطة ونزعات خارجية للتوسع والهيمنة، ولضمان أمن إسرائيل (التي لم يعد أحد من المتحاربين يتذكرها بخير أو شرّ). ولكن كيف ولماذا اجتذبت كل هؤلاء المؤيدين والمندفعين إليها بحماسة ورغبة كبيرة بالموت فيها! من أين جاء هذا اليقين الجازم لدرجة أن يدفع أصحابه الى القتل والإبادة وقتل الذات، كيف أمكن حشد هذه الجموع لأجل أن تموت، ولم يمكن جمعها لأجل الإصلاح والتضامن وزراعة الصحراء وتعمير الغابات وبناء المصانع والمدارس؟ كيف تقدم بهذا النبل والغباء على الموت وتهرب من الحياة. من أين تأتي هذه العزيمة مرة لأجل العروبة ومرة لأجل الإسلام بلا توقف لحظة واحدة لمجرد السؤال والملاحظة أن العروبة والإسلام يذبحان أيضاً مع الذبائح المندفعة بلا توقف، وأن اللواء المزعوم لا يستحق ولا يحتاج ابتداء كل هذه الجماجم. أليست الحياة الكريمة هي التي ترفع اللواء؟ وما حاجة هذا اللواء الى الجماجم وما فائدته وأهميته بعد كل هذا الموت؟ وهل سيظل موجوداً عندما يموت أصحابه؟ ويا له من هتاف مريع تتناقله الجموع التي تدعو الى سقي الدماء لأجل لواء العروبة ثم لأجل لواء الإسلام، أي لواء هذا الذي يتغذى على الجماجم والدماء؟
«لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللوا سكب الشباب له الدما».
وبعد ذاك صاروا يهتفون:
«لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى»…
والحال أنها تضحيات تؤسس للخراب والكراهية والفناء والشرور والرذائل، فالإصلاح والفضيلة تنشئهما مجتمعات تقدر الحياة الكريمة، وليست الجماعات التي تقدر الموت، لأن تقدير الحياة ينشئ الحياة وتقدير الموت ينشئ الموت، ولأن الله يريدنا أن نحيا لا أن نموت، فالمجتمعات في سعيها وتطلعها إلى العدالة التي كرستها السماء هدفاً للرسالات «ليقوم الناس بالقسط» وجدت ذلك في الحريات والكرامة، فتستمد منها حياة كريمة! ولكن الحياة توجد ثم ترقى بالمصالح الأساسية التي تضمن البقاء ثم تحقق المعنى والجمال، هي ابتداء ما يحفظ حياة الناس، البقاء بما هو عدم الموت، وبما يعنيه من طعام وتكاثر وأمن، فتنشأ حول ذلك أسواق وتقنيات وموارد وعقود اجتماعية وتشريعات. تلك هي الديبلوماسية الإلهية أو قانون السماء، حياة الناس في حلقاتها ومتوالياتها المنشئة للازدهار والارتقاء، السماء تريد من اهل الأرض إعمارها وليس خرابها. ما حاجة الله لهذه الدماء، وما يفعل الله بعذاب الناس؟
الذين يحملون أمر السماء كما غيرهم يريدون السلطة والقوة ويسعون لأجلها، ولا بأس بذلك فالسلطة هي حاجة الناس والأسواق أيضاً، ولا مخرج من هذا الصراع سوى «الثقة» التي تقدم الكفاءات والقادة والمواهب والاعمال، هي حكم الناس وما يرونه الصواب والأفضل. ولما كان الأمر خلافاً بين الناس سواء من جاؤوا بالحقيقة من السماء او من يعدون بالسعادة والتقدم فلا مجال سوى أن تدرك كل الأطراف لأجل بقائها جميعاً سوى أن تتصارع على النحو الذي لا يفنيها بل يبقيها لأجل ان تظفر بالصراع. ليس من شيء يمكن أن تعد به نفسها والآخرين سوى الحياة قبل الموت، … وأما الحياة بعد الموت فلا يحتاج أحد الى آخر لأجل تدبيرها، إنها شأن فردي خالص لا يملك أحد منه ولا يعلم عنه شيئاً…
* كاتب أردني