“يريد النكاح”/ سحر مندور
ظهر على «يوتيوب» ومواقع التواصل فيديو لأغنية، الصوت فيها لرجلٍ بينما الصور لنساءٍ غاطساتٍ بالأسود، يتحرّكن فرحاً بالسلاح في البراري، على إيقاع كلمات: «أريدُ النكاح، أريدُ الزواج». يُنسَبن هنّ والأغنية إلى «داعش»، يقال إنها من كلمات أبو بكر البغدادي (بشقّه الرومنسيّ) شخصياً، ولكن يصعب التأكد من ذلك. اللافت في الكليب أن النساء لا يتحرّكن بما يستدعي معاني «الزواج والنكاح»، وإنما بما يحتفي بمعاني الـ «باقية وتتمدّد».
منتدى من المنتديات الرائجة «إنترنتياً»، التي تحكي عن رومنسيّات العرب وتأتي ملأى بالتوأمة الغامضة ما بين الدباديب الورديّة والآيات القرآنية المزخرفة، يثبّت للأغنية أصلاً وفصلاً لا أثر لـ «داعش» فيهما، ويكاد يستحيل التأكّد من ذلك أيضاً. فتوصف بأنها «أوبريت جديدة عن الزواج تحكي ما يعانيه العزّاب بأسلوبٍ غنائيّ فنيّ». كما أنها ليست أغنية فحسب، وإنما «أنشودة من كلمات الطاهر درويش». وهي أيضاً «النشيد»، يُغنّى بألمٍ وجدانيّ، وتقول كلماته:
«أريد النكـاح، أريد الزواج / علاجاً لقلبي ونِعم العلاج / وأحلم أني أرى زوجتي، بفستانها أبيضاً كالسراج / أريد النكاح أريد العفاف، أذوب اشتياقاً ليوم الزفاف / إلى دبلة الحب في أُصبعي، ويزدان عرسي ويعلو الهتاف / أريد النكاح ككلّ الشباب، عزوبيتي وحدةٌ وعذاب / أسأل نفسي: متى تنقضي؟، فحتى متى يستحيل الجواب / أريد النكاح، أريد العيال / دعائي وسؤالي إلى ذي الجلال / أمي رجاءً، رجاءً أبي / أقرّوا عيوني ببنت الحلال».
في السعي الدائم لتفكيك القبول الذي يلقاه «داعش» في أوساط المسلمين هنا وفي شتاتهم، تشدّ آراءٌ كثيرة الحديث إلى موضعة التنظيم على فوالق الأزمات المحلية والعالمية، كالفقر والظلم والتهميش والعنصرية إلخ، وهذا محقٌّ طبعاً. فلا شيء يولد من عدمٍ، بينما الإيديولوجيا الإسلامية لا تقدر وحدها على تفسير أسباب انفجار بعض ناسها بأنحاء الكوكب، الآن. في مقابل هذا السعي إلى فهم جاذبية «داعش»، تسود تفسيراتٌ لا تسعى لفهم الحالة وإنما وضعها في قالبٍ لضبطها، فتحصرها إما بفجر الإسلام أو بعتم الجاهلية والعصور الوسطى. التفكيك والتصنيف في فهم «داعش» يتواجهان فكرياً، بينما «داعش» لا يتناقض بينهما. لديه من كلّ منحى ملمح. وإليهما، تضاف تفسيرات الجنون، العته، الخرق، انعدام السوية، تأتي لتؤدي ما كانت تؤديه قبلها «المخدرات» في تفسير ما تعجز النظرية عن تفكيكه / تصنيفه. والعته «المجنون»، كما المخدرات، يبقى بدوره غير مستبعَدٍ في حالاتٍ فرديّة في «داعش»، علماً أنه يصبح دالّاً لمّا يكون عامّاً، وهو هنا عامّ. باختصار، إن «داعش» هو ذلك كله وأكثر، فهو أيضاً «يريد النكاح، يريد الزواج».
منذ ولادته، يتفق «داعش» ونقّاده في العالم على محورية النساء فيه. التنظيم يرى في تصنيفه لها إنصافاً لها، بينما نقّاده (الكوكب) يرون فيه استعباداً لها. يسخرون من رجاله بأنهم يموتون اشتهاءً لحور العين، ومن نسائه بأنهنّ طالبات جنس. وعلى طريق نقد «داعش»، تبرّئ هذه الأمّة السعيدة نفسها من هوسها بحور العين، إن تديّناً أو تحرّشاً، وهما لا يتناقضان أيضاً، بينما تطلق يد الذكوريّة في الرجل والقانون والأخلاق العامّة والدين لتثبيت النساء كملكيّةٍ للرجال. وإذا ناقشناهم بالحقوق والعدالة، فيجيبون بالإسلام. يعيدون النقاش إليه، فهو يبيح إخراس من يختلف مع فقهه، وفقهه فضفاض. هذه «الأنشودة»، ألا يصبّ ينبوعها في بحرٍ من فتاوى النكاح ونقاشات «حرية» المرأة وخطب الجمعة واعتداءات التحرّش؟ واجتماعياً، ألا تأتي صور الرجال على أسماء مرشحاتنا إلى كلّ انتخابات، من المحيط إلى الخليج؟ ألا تفيض من وسائل اتصالنا فتاوى الـ «يجوز» والـ «لا يجوز» في أصول الولوج والخروج وأدعيتهما؟ ألم تصدر عنا فتاوى إرضاع الزميل، ونكاح الوداع، وتستّر الطفلة (تحت 6 سنوات) أمام والدها كي لا يشتهيها؟ ألم ننتج كلّ هذه المعرفة، وأكثر؟ ألا نقتل النساء شرفاً؟ ألا يبيح القانون قتل النساء شرفاً؟ ألا نشبّههن بالحلوى، تحتاج حجابها لتتفادى الذباب؟ ألم نطرّز معادلة «إيه اللي وداها هناك؟»، و «شو كانت لابسة؟»، على خطاباتنا بشديد الهدوء والاقتناع؟ ملفّنا حافل بالنساء، وما «داعش» إلا موجة في بحره.
بصراحة، أمام هذه «الأوبريت»، ترانا لم نتردّد في تصديق أنها نشيدٌ «داعشيّ». لكن، ماذا لو كان المنتدى على حقّ، وهي أغنيةٌ من أغاني الحبّ الشرعيّ الصادرة الآن وهنا؟ هل نحن فعلاً قادرون /ات على الجزم بأن هذه «الأوبريت» هي من فعل «داعش» أو من فعل شبابنا الورع؟ وما الذي تقوله وهو جديدٌ علينا، غير استخدام اللغة المباشرة في طلب الزواج، واللغة الفصحى في طلب النكاح؟ لا بل إنها رومنسيّة، وتستحضر شرع الله ورضا الوالدين. إنّ إضافتها تكمن في صراحتها في التفجّع على غياب النكاح (وهو تجرؤ حتى على آدابنا التي تفضّل العفّة في توصيف الجنس). الأغنية تحوّل الكبت إلى أسى، وتجعل التحرّر منه مطلباً حنوناً على لسان شابٍ يحلم بالفستان الأبيض. تكاد الأغنية أن تكون طليعيّةً في هذا السياق، وفي هذين المكان والزمان.
كنساءٍ يحمِلن السلاح في البريّة ليقاتلن من أجل مبادئهن، ولكن من تحت نقابٍ ماحقٍ يستعصي معه تمييز هذه المبادئ، تأتي هذه الأغنية. هي تشير إلى لسان حالٍ، ينأى بنفسه عن فوالق الأزمات الكبرى ليصدح بمكنونات الصدر. وفي هذا الصدر، مكنوناتٌ كثيرة تبرّر التحاقه بـ «داعش»، مثلما يرويها هو، من دون أن نسقطها عليه. على رأسها الدين والغضب، وفي طياتها الجنس والحرب والتغيير أيضاً. ما نعتبره إدانةً لـ «داعش»، تكفي قراءة مجلة «دابق» للتأكد من أنه فخر التنظيم واعتزازه. هذا التنظيم يُخبرنا دورياً بهوى ناسه، لكننا نصرّ على فهمنا «الأوعى» لأسبابهم /ن. «قوّامون» عليهم، نحن. إن أسباب «داعش» موجودة بيننا، ومثلما أنتجت عشرات التشكيلات التكفيريّة وصولاً إلى «القاعدة» فـ «الدولة الإسلامية» فالتنظيمات المتكاثرة راهناً في بلاد الشام، ستنتج سواها لاحقاً، طالما كلما قال لنا التنظيم: «أنا كذا»، نجيبه بثقة الفاتحين: «لا، أنت لستَ كذا، وإنما أنتَ..».
هذه الثقة، تراها ترتمي بيننا بكثافةٍ إما لحماية الذات عبر نفي «الهمجيّ» عنها أو لحماية السلطات القائمة عبر نفيّ التشكيك والمساءلة وإمكانيات التغيير عنها. وإلى أصحاب الحاجتين، ينظر «داعش» بثقةٍ أيضاً، ويبتسم قائلاً: «أريد النكاح».
السفير