يوسف عبدلكي.. كل ثوار الربيع العربي معك!
بول شاوول
الذين حَطمّوا أصابع الفنان علي فرزات، واقتلعوا حنجرة مغني الثورة السورية، ولم تفرغ سجونهم ومعتقلاتهم المتقدمة جداً في فنون التعذيب، والاذلال وقطع الأيدي والأطراف والأعضاء، والقتل تحت الضرب، والصدم الكهربائي والدولاب، هؤلاء هم الذين اعتقلوا الفنان الكبير الصديق يوسف عبدلكي. رسام اللحظات التراجيدية. ملتقط بحس نافذ ما وراء الأشياء الأليفة والطيور، من مآسٍ ودم وبتر. كأنما جنون الآلة القمعية غير المحدودة. لا تترك زمناً ولا جسماً ولا حيواناً ولا تفصيلاً. من دون ان تدمغها بعنفها. انه السوري المتجذر في أرضه وتاريخه أي المتجذر في الحرية والكرامة والانسان، و”الباريسي” الذي غادر موطنه كانه حلم لن يأتي، وبشائر ملطخة بسواد الاستبداد والبياض القاني المُنتَهَك. ما بين الأسود والأبيض اكثر منهما أو اوسع منهما، البعد الآخر، الثالث أو الرابع.. أو الألف. حيث التراجيديات الكبرى تحتل في خلفيات الرسوم ما يُطبق على الأجسام والكائنات وما يسقطها، وما يقطعها وما يشيئها وما يلغيها. في باريس رسم بصمت، ولم يكن بعيداً عن “شياطين” العنف والطغيان، لم يكن على عزلة “القديسين” أو “المنفيين” ، أو المهمشين المغادرين شروطهم ومواقعهم. لم يكن في باريس، مجرد لاجئ احتمى بالغربة لكي يرى الألفة اوضح. لكي يرى اعمق (ربما) ما تستهلكه كل الآلات الجهنمية في بلاده، وما تضّمه السجون، وما يسيل من دماء، وما يهوي تحت اعقاب البنادق، وما يستذل بالاكراه، وما يستغل بالفساد، وما يتداعى بالهزائم. كان هناك، كأنه ينتظر ربما غودو آخر أو أكثر. ربما خلاصاً، من دون ان يحدد ممن ومن أين؟ وفي 2005 عاد إلى موطنه. في همروجة ما اعلنه النظام “الجديد” مع الرئيس بشار الأسد من اصلاحات ومن تغيير يعدّل الصور الكالحة والمظلمة التي ورثها من عهد الطغيان. عاد إلى موطنه واراد ان يساهم بما ملكت يداه وما اختزن قلبه وما امتهن. فلعله يجد هامشاً صغيراً يشارك عبره في صنع وطن جديد. لكن، الآلة الجهنمية بدت خالدة بدورانها الساحق واسترجعت سلاسلها واسلحتها، وعدّتها وذهنيتها فكأنها تعلن، لا تغيير ولا من يغيرون، لا يشاركنا أحدُ حتى في تفصيل عابر. الآلة العائلية تدور وحدها، ومن تلقائها وعلى استمرار . خُدع يوسف عبدلكي. خدعته “مثاليته وطيبته ونزاهته” . خَدَعهُ الطغاة.. وحوله ما لا يوحي ما يُعيد الأمل إلى الناس. هنا بالذات، حوّل عودته إلى أكثر من انتظار فالانتظار فات أوانه والماضي ينتج الحاضر، والحاضر ينفي المستقبل، اندلعت الثورة أهي مراجعة التبعات. أهي اليقظة الكبرى، اهي اختراق لجدران الرعب. أهي الحلم بوطن له وللشعب. أهي البشائر أم النذائر؟ مئات الألوف في الشوارع والمدن في درعا ودمشق وحمص.. ودير الزور. وادلب في كل أنحاء سوريا! ها هي الجماهير. ها هي قوة التاريخ تواجه بأجسامها وصدورها الطغاة. اعداء التاريخ. والجغرافيا والانسان والناس. فما أبهاها! لكن هال النظام هذا “النهوض الشعبي” الى المقدمة (بعدما كان مرمياً في المخلفات السفلية) فلجأ الى الوسيلة الوحيدة التي يعرفها: القتل والمجازر والسلاح ثم القصف بالطيران ثم الصواريخ والدبابات. مما جعل الثوار يردون بلغة الطغيان دفاعاً عن أنفسهم وعن الوطن. السلاح بالسلاح بعدما استنفدوا التظاهرات السلمية…
هنا بالذات كان ليوسف عبدلكي ان يكون حريصاً على ان يحتل المكان الثوري الذي يؤمن بالسلم أو بالحوار، أو بالتغيير الشعبي، لم “يتطرف” في خطابه لكن وراء رسومه كانت الفاجعة السافرة الساطعة. الرفض، الاحتجاج، الانتماء إلى الارض والناس والحرية. استبقاه النظام كرهينة. او كضحية مقبلة في اوقات ضيقة، انه مُعارض وكفى! وهذه خطيئة سواء بقي في مَرْسمِه، أو رَسَم، أو لم يرسم. سجلوا عليه معارضة، وانتظروا. ثم انقضوا عليه. تذكر يوسف حنجرة المغني المقتلعة، وأصابع زميله علي فرزات، ومواكب الشهداء الأطفال… والرجال والنساء . انقضوا عليه لكي ينفوا ما تداولوه من دعوات الى حوار مع المعارضة، اعتقلوه على حاجز مجنون (ونحن في لبنان نعرف جيداً ما معنى حواجزهم!) ليقولوا لا لأي معارضة ولا لأي فنان لا يتواطأ مع اجرامهم! لا لأي مثقف يصرخ رافضاً. لا لأي صوت يمكن ان يضمر او يعلن تأييداً للثورة ، سواء كان “معتدلاً” او غير معتدل. فالكل ارهابي في نظرهم! نعم! كل من يفكر في معارضة النظام (أو ما تبقى منه) ارهابي. او تكفيري. أو قاعدة. … وأُدرج يوسف عبدلكي، هذا الفنان الطليعي في خانة اعداء الوطن. وربما العمالة… ولم لا الارهاب. مثله مثل معظم الشعب السوري الذي وُصم بالتكفير. شعب كله موصوم بالارهاب، من قبل اكثر الانظمة ارهاباً في العالم…
يوسف عبدلكي بعيدٌ الآن عن اصابعه التي ترسم، وعن رسومه وعن مرسمه, وعن المقهى الذي يتردد اليه، والشارع الذي يقطعه. ها هو يحلم في احد اقبية النظام (وهذا النظام ليس أكثر من مجموعة اقبية مظلمة على صورته!) ماذا ينتظر يوسف عبدلكي! اترى (لا سمح الله) ينتظر مصير علي فرزات! او المثقفين ومئات الوف المواطنين في السجون!
ماذا يقول المحققون التافهون لهذا الفنان الكبير! بم ينعتونه؟ وهل يتعرض للتعذيب والضرب والاهانة والتهديد؟ والى متى يبقى في زنزانته؟ وهل يُفرج عنه؟
اياً كان مصير هذا الفنان المناضل.. فهو يعرف في عمقه انها ارماق النظام الأخيرة تتنفس بدمائها على وجهه . انه يعرف بحاسة التاريخ والفن ان هذا النظام مهما سانده “أشباهه” كحزب ايران (غير اللبناني) او حزب المالكي، او ولاية الفقيه أو الطاغية بوتين… فانه سيسقط!
وستنتصر دماء الشهداء ورسوم الفنانين واغاني الثوار وأصوات الحرية!
يوسف عبدلكي نحن معك!
وثوار ميادين الربيع العربي كلهم معك!
كلهم قلوبهم معك
حماك الله من شر هؤلاء القتلة!