يوميات سجين “عوني” في أحد سجون المخابرات السورية في لبنان:
لازم تفهم يا حيوان أن سوريا الأسد هي قدركم في لبنان!
صدر “موت الأبد السوري، جيل الصمت والثورة” للزميل الروائي محمد أبي سمرا. الكتاب يحتوي في خمسة فصول شهادات حية يرويها أبطالها كما عاشوها أحداثاً ووقائع في سوريا ولبنان.
الكتاب مصوغ بلغة الذين عاشوا مآسيهم، أي بلغة التحقيق، وباللغة المباشرة، العفوية، الصارخة، وقد عرف محمد أبو سمرا كيف يقدمها بطزاجتها لكن بلغة تروي، تسرد، حاملة شروط الرواية المحققة.
الكتاب صدر عن “دار رياض نجيب الريس”، وقد اخترنا فصلاً يرويه أحد مؤسسي “التيار الوطني الحر” أنطوان خوري حرب (من تنورين)، والذي كان مناهضاً للوجود السوري. تنقل الشهادة يوميات اعتقاله وتعذيبه وإهانته في أحد سجون الاستخبارات السورية في بيروت 1994.
هنا رواية الشهادة بلسان من عانى هذه الأيام “الجهنمية”.
حين جاوبته أن لا متفجرات في سيارتي التي تركتها في عهدة الجيش
شتمني وشتم الجيش اللبناني
عاجلوني بصدمات كهربائية عالية الشحنات
انقطع صوتي وقبل أن يغمى عليّ أحسست بتسلّخ مواضع في جلد رأسي
انهالوا عليّ صفعاً وركلاً وضرباً بأعقاب البنادق شاتمين الجنرال عون والبطريرك صفير
كنت في مكتبي بمركز المعلوماتية التابع للجامعة اللبنانية في الحدث، حيث كنت أعمل موظفاً، حين تلقيت اتصالاً هاتفياً في نهار من بدايات تشرين الثاني 1994. قال لي الشخص المتصل أنه رتيب في الجيش اللبناني، وإن الرائد يريد اللقاء بي على فنجان قهوة. كنت قد تعوّدت على مثل هذا الاستدعاء كتعوّدي على اعتقالي المتكرر منذ 1991، بعد انتهاء تطوّعي في الجيش اللبناني نصيراً لحركة الجنرال ميشال عون لمقاومة الجيش السوري واحتلاله لبنان في ما سمّي “حرب التحرير” عام 1989. على الهاتف طمأنني الرتيب قائلاً أن استدعائي عادي وليس فيه ما يبعث على القلق، لأن لقائي الرائد لن يستغرق أكثر من ربع ساعة في المقر الرئيسي السابق لـ”القوات اللبنانية” في محلة الكرنتينا، الذي احتله الجيش اللبناني واتخذه مقراً له بعد حل “القوات” ومطاردة محازبيها واعتقالهم.
على مدخل المقر، أخذوا مني مفاتيح سيارتي، وقادوني فوراً الى مكتب قالوا إن الرائد سيحضر إليه بعد قليل، ثم خرجوا وأقفلوا الباب وتركوني وحدي. كانت الساعة الحادية عشرة قبيل الظهر تقريباً، وكان عليّ أن أنتظر حائراً قلقاً، فيما الوقت يمر بطيئاً بطيئاً، ساعة بعد ساعة. طرقت الباب مرات وناديتهم، فلم يجبني أحد، لكنني تردّدت في أن أستعمل هاتف المكتب الذي اقتربت منه مرات، ومددت إليه يدي، فمنعتني حيرتي من استعماله. الساعات تمضي بطيئة بطيئة وأنا أتنقل بين المقاعد جالساً ومبدلاً وضع جلوسي، ثم أقف وأمشي قليلاً، فيما الضجر يتآكلني ويرميني مجدداً على مقعد، فأغفو مخمّراً بالضجر، ثم أفيق لتأخذني الغفوة مجدداً، كمن يغفو في منامه. صور لأهلي وللعالم الخارجي الذي غادرته كأنما من سنين، راحت تبتعد وتبتعد وتتلاشى في اليقظات الثقيلة المتتالية المغبشة بالخواء والخور.
ضوء النهار التالي الذي أيقظني، كان رخواً وبائتاً على وجهي المزيّت بدبق الضجر والانتظار والإهمال. ثم فُتح الباب فجأة ودخل منه ثلاثة رجال في ثياب مدنية، فقلت: هذه هي نصف الساعة؟! من دون أن أسمع كلمة واحدة، اقترب مني أحدهم وأدخل رأسي في كيس من قماش كان في يده، وأمرني أن أمشي، فمشيت، موقناً أنهم سيقودونني الى وزارة الدفاع في اليرزة، حيث سيحققون معي كما في مرات سابقة.
في الخارج قدّرت أنهم أدخلوني الى شاحنة أو ان. آنستني قليلاً أصوات السيارات في الطرق التي ساروا فيها قرابة ربع الساعة، قبل أن يوقفوا السيارة التي كنت فيها معهم، وتغيب الأصوات تماماً من حولي. سكوت هائل خيّم للحظات قطعتها أصوات فتحهم أبواب السيارة وإغلاقها. وحين نزعت قليلاً كيس القماش عن وجهي، رأيت صورة لباسل الأسد على نافذة من نوافذ الان المصفحة كلها بصفائح من حديد، بدل الزجاج، فأيقنت أنني في قبضة الاستخبارات السورية. قلقاً مرتعباً تقاذفتني الأفكار والهواجس في متاهة بلا قرار.
كانوا أربعة رجال أو خمسة في الان الذي أخرجوني منه وساروا بي في أمكنة شعرت بأنها تحت الأرض. حين نزعوا كيس القماش عن رأسي في غرفة، انهالوا عليّ صفعاً ولكماً ورفساً وضرباً بأعقاب البنادق، شاتمين الجنرال ميشال عون والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير. استمرّت الوجبة الأولى من الضرب والشتائم أكثر من نصف الساعة، قبل أن يجرّوني الى غرفة أخرى مشيّدة حديثاً الى جانب زنازين قديمة لمحتها متماثلة في أحجامها، فيما هم يرمونني في الجديدة ويقفلون عليّ بابها الحديد الذي من ثقوب في أعلاه يدخل ضوء شحيح لم يبدّد العتمة التامة في الزنزانة إلا بعد وقت مكّنني انقضاؤه من أن أبصر إصبعي في الظلام. تذكرت أن وجوه الرجال كانت شديدة السمرة ولهجتهم سورية، وهي الوجوه واللهجة نفسها التي تبيّنتها في وجبة الضرب والتعذيب والشتائم المسائية، بعدما سمعت وقع أقدام كثيرة تخبط الأرض مقتربة من زنزانتي.
فيما قبضاتهم وأقدامهم وشتائمهم تنهال عليّ عشوائياً ومن دون تمييز، كنت أضع رأسي بين ذراعيّ لأحميه، قائلاً لهم إنهم أخطأوا في القبض عليّ أنا الذي لم أقم بأي عمل مشبوه، فسمعت أحدهم يقول لي: شو صاير عليك ليصير فيك هيك، اعترف، اعترف وينتهي الأمر. قبل أن أقوى على سؤالهم بماذا أعترف؟ خرجوا وأقفلوا الباب وذهبوا، تاركين جسمي محطماً، وسرعان ما رحت في نوم ثقيل لم أستيقظ منه إلا في الصباح، قبيل اقتيادهم إياي الى وجبة ضرب جديدة في غرفة أخرى، حيث مدّدوني على ظهري وتداوروا على ضربي بعصا على قدمي. كانت بقع من الدماء تلطخ جدران الغرفة التي قدّرت أنها للتعذيب. في أثناء وجبة الفلق الصباحية هذه، كانوا يصرخون بي قائلين: كلاب إسرائيل، عصابات التقسيم والفتنة، كلاب اليهود.
ظهراً رموا لي في الزنزانة رغيف خبز ووعاء به مرق وعبوة بلاستيكية صغيرة قُطِع منها نصفها الأعلى وبها ماء آسن. حين طرقت باب الزنزانة طالباً الدخول الى حمام، جاؤوا وضربوني ضرباً مبرّحاً، فظللت يومين من دون أن أقضي حاجتي. وفي المساء أذاقوني وجبة جديدة من التعذيب، هي الفروج: عارياً إلا من الكيلوت، وفي معصميّ طوقان معدنيان موصولان بجنزير معلّق في سقف غرفة التعذيب، وجسمي مشدود الى عصا غليظة، رفعوني عالياً وانهالوا عليّ بالعصيّ التي راحت ضرباتها تؤرجحني في الجهات كلها.
مضى عليّ يومان على هذه الحال. في الليل، كلما غفوت بين وقت وآخر، كان أحدهم يخبط باب زنزانتي خبطات عنيفة من الخارج، فينتفض جسمي المحطم وأستيقظ في حال من رعب مروّع يكاد يجمّد الدم في عروقي ويقطع أنفاسي. كنت أسمع أصواتاً وكلمات كثيرة، جعلتني أقدّر أنهم يحضرون شباناً الى المعتقل الذي لا أعرف مكانه ولا سبب اعتقالي فيه(…).
حدث هذا كله قبل أن يقودوني الى غرفة التحقيق، حيث أجلسوني على كرسيّ خشبي ورأسي داخل كيس القماش. أصداء كلماتهم التي سمعتها جعلتني أقدّر أن الغرفة فسيحة خالية. سألني المحقق أسئلة مكّنته من معرفة الكثير من سيرة حياتي، قبل أن يفاجئني قائلاً: ليش معك متفجرات في سيارتك التي ضبطنا فيها كمية من المتفجرات؟ حين جاوبته أن لا متفجرات في سيارتي التي تركتها في عهدة الجيش اللبناني، شتمني وشتم الجيش اللبناني، قبل أن يقول: الجيش اللبناني وسرمايتي سوا.
قدّرت أنهم وضعوا متفجرات في السيارة، وأصررت على رفض التهمة، فانهال المحقق عليّ بكرباج، قبل أن يستدعي الحرّاس، قائلاً لهم إن تجاوبي ضعيف، فليأخذوني إذاً، الى غرفة التعذيب، حيث كوّروا جسمي وسط دولاب شاحنة وراحوا يدفعونه فيتدحرج بي بينهم في ما هم يضربونني بالعصيّ ويرفسونني بأقدامهم، قبل أن يرتطم الدولاب بالجدار في آخر الممر الطويل. كان رأسي لا يزال في الكيس فيما الدولاب يتدحرج بي مرات جيئة وذهاباً مرتطماً بالجدران، مما أزاح فقرة من عمودي الفقري من مكانها ومزّق غضروفها، وحتى اليوم لم أُشفَ من هذه الإصابة التي تحتاج الى علاج دائم.
[غرفة التحقيق
في النهار الخامس أو السادس، اقتادوني مجدداً الى غرفة التحقيق. ما إن أجلسوني على كرسي الاستجواب حتى سألني المحقق عن دوري في قذف شاحنة عسكرية سورية في الحدث بقنبلة يدوية انفجرت فيها، فقلت إنني لم أسمع أي خبر عن هذه الحادثة التي لا علم لي بها. ذكر النهار الذي قُذفت فيه الشاحنة بالقنبلة، وسألني عن مكان وجودي في ذلك النهار، فأجبته بأنني كنت في بلدتي تنورين. تلا على مسامعي قائمة طويلة من أسماء أشخاص، ثم توقف لدى تسميته المقدم سمير يونس ليسألني عن صلتي به، فقلت إنني لا أعرفه ولم أسمع باسمه قبل الآن. كنت أعرف المقدم سمير يونس، ابن بلدتي تنورين والمسؤول عني في الجيش اللبناني، حتى احتلال الجيش السوري قصر بعبدا الرئاسي في 13 تشرين 1990، وأعلم أنه اشتبك على رأس مجموعة من جنوده مع وحدات من الجيش السوري في عهد الرئيس أمين الجميل.
لم أعترف بأنني أعرف أي اسم من الأسماء التي ذكرها المحقق الذي استدعى الحراس وقال لهم إنني أرفض التعاون، وطلب منهم أن يأخذوني الى كرسي الصدمات الكهربائية.
[ الكرسي الكهربائي
مكبّل اليدين والرجلين ورأسي في كيس القماش، وجسمي عار إلا من الكيلوت، أجلسوني على الكرسي الكهربائي، وخرجوا من الغرفة وتركوني وحدي. ميكروفون أمام فمي وسماعتان تكبّران الصوت تضغطان على أذنيّ. مع الشحنات الكهربائية الأولى الخفيفة التي سرت في جسمي لعشر ثوان، سمعت أصوات أسئلتهم قوية في داخل رأسي، لكنني ظللت صامتاً متحمّلاً قوة الصدمات الأولى ومصمّماً على عدم الكلام.
الدفعة الثانية من الشحنات اجتاحت أعضائي كلها أقوى من الأولى ولمدة 20 ثانية تقريباً. حاولت أن أصرخ، فلم أستطع، كأنما كل عضو في جسمي قد تعطّل فجأة، سوى حاسة البصر. حتى التفكير شُلّ في رأسي الذي تخدّرت أعصابه، وصارت نهباً لأرتال من دبيب النمل. أعصابي وعضلاتي يرجرجها وجيب داخلي خاطف، فأشعر بأنها من الداخل والأعماق تتمزق وتتمزق. كان عليّ أن أقاوم عبثاً حال الانهيار وفكرة أنني مقبل على نهايتي. قاومت لأنني لم أقم بالعملية التي يريدون أن أعترف بقيامي بها، ليس لأنها معيبة، بل لأنني، بكل بساطة، لست من قام بها.
في بداية الدفعة الثالثة من الشحنات الكهربائية، أغمي عليّ بعدما سمعت عبر السماعتين على أذني اسمي بيار أبي رعد ونضال حرب اللذين كنت أعرفهما، وأعرف أنهما سافرا قبل مدة الى الإمارات العربية المتحدة للعمل هناك، لكن الصوت قال انني واياهما نفذت في الحدث عملية رمي الشاحنة العسكرية السورية بقنبلة يدوية.
لا أعلم بعد كم من الوقت أفقت من إغماءتي منطرحاً أرضاً بعيداً من الكرسي الكهربائي، ومبللا بالماء، كنت اشعر بأن جسمي رخو من الداخل وجلدي منمّل، كأنه في تقدده موشك على التشقق، فيما اعصاب رأسي وخلاياه متخشبة، حين قربوا كوب ماء من فمي لم استطع ان احرك فكي المنطبقين، فوضعوا شلموناً بين شفتي المتخشبتين، كي اشرق الماء من الكوب فلم اقو على شرقه، فيما انهمر اللعاب من فمي والمخاط من أنفسي، غزيرين كالبول الذي سال لا ارادياً من مثانتي.
حملوني من غرفة كرسي الصدمات الكهربائية، ورموني في زنزانتي، حيث أخذ يشتد الوجع الرهيب في جسمي مع نوبات من الغثيان، من دون أن أقوى على التركيز والادراك في أي زمن أنا الآن وفي اي مكان. وعي خامد منقطع، حتى بصري صار شحيحاً كلياً، فلا ابصر سوى غبش به ثقوب سود، كالنوم الثقيل الذي نمته مخدراً طوال عشر ساعات متواصلة، فتحوا علي بعدها باب الزنزانة، لأخذي مجدداً الى غرفة التحقيق. لم أستطع الوقوف، فحملوني وساروا بي، أحدهم قال لي في نبرة متسائلة: ليش ما أكلت اكلك ولاه حيوان، وليش ما شربت المياه، شو جاي تموت عنا هون، يا حيوان؟! بعد لحظات قليلة قال آخر: أنت كلب ولاه، كلب وراسمالك كلب عندنا هون.
في هذه اللحظات عاودتني أصداء الأصوات التي سمعتها في النهارات والليالي السابقة. اصوات لا أزال حتى الساعة أسمعها في نومي، فتوقظني فجأة وتذهب النوم من حواسي وجسمي. اصوات جريحة معذبة ليست من طبيعة بشرية، بل شبيهة بالتي ترسلها قطط أو كلاب ملتاعة جراء اصابتها بنوبات من المغص الشديد. في الأيام التالية، بعد تعرضي لما كان يتعرض له الذين كانوا يرسلون هذه الاصوات، رحت أرسل أصواتاً تماثلها، فايقنت أنها أصوات بشر مثلي، واصابهم ما يصيبني.
عاودتني أصداء هذه الأصوات، فيما هم يحملونني محطماً مدمراً الى غرفة التحقيق، فقررت ان اقاوم، وتذكرت ما كنت قد سمعته من حكايات التعذيب في السجون السورية، وكم من الأشخاص قضوا في هذه السجون، وحين حدست أنهم سيستمرون في تدميري وسحقي حتى الموت على الأرجح، قررت أن اقاومهم حتى نهايتي، لعلي أموت راضياً عن نفسي.
في النهار السابع من اعتقالي عرفت من أقوال الحراس الذين قادوني الى غرفة التحقيق، ان المحقق ضابط برتبة مقدم لم ابصره حين دخلت الغرفة وسمعت صوته يقول لي: انشالله اليوم تكون أحسن من مبارح، وحابب تتعاون معنا، جاوبته: نعم سوف أتعاون، لكنني اريد أن أقول بعض الكلمات قبل أن تبدأ التحقيق معي: شلون تريد تحكي، قلي شلون؟ قال المحقق.
فجأة وعن سابق تصور وتصميم وارادة قلت له: نحن لا نحبكم الآن عرفت لماذا لا يحبكم اللبنانيون. قبل وصولي الى هنا كنت احسب ننا نكرهكم لأنكم تحتلون بلدنا وتنهبونه، لكنني الآن افهم أننا نكرهكم بقوة هذا العذاب الذي تنزلونه بي حتى الموت، هنا في هذا المكان الذي أجهل أين يكون، ولأنكم تتهمونني بعمل لا علاقة لي به. لا لا نحبكم، ولن نحبكم مهما طال زمن احتلالكم بلدنا، ولن نمارس أعمال عنف ضدكم. لا يهمني ان تقتنع او لا تقتنع بما أقول. التعذيب الذي تنزلونه بي لن يفيدك في شيء لذا ارجوك اعدمني فوراً، لأنني غير معني بما تتهمونني به. أرجوك اعدمني الآن. قبل ان يستدعي المقدم المحقق الحراس، استشاط غضباً فيما هو يقول صارخاً: “أنتم يا كلاب ضد سورية؟! ضد العروبة؟! حلك تفهم يا حيوان ان سورية الأسد قدركم في لبنان. لسه ما حابين تفهموا انتم والحيوان تبعكم عون ان سورية قدر لبنان؟!”.
دخل الحراس غرفة التحقيق وانهالوا علي بأيديهم وارجلهم طوال اكثر من ساعة، حملوني بعدها ورموني في زنزانتي. في ما بقي من ذلك النهار وفي ليلته، كان كلما وصل أحدهم في موعد خدمته، يفتحون له بوابة زنزانتي ليروح يضربني ويضربني حتى يسأم أو يتعب من ضربي.
بعد ضربة قوية سددها احدهم بحذائه العسكري مباشرة الى فمي، وأحسست جراءها بالتماعة برق في عيني، خرج الدم غزيراً من فمي الذي ما ان تحسست بيدي اسنان فكه الأسفل، حتى انتزعت اصابعي في سهولة اسناناً ثلاثة منه.
[ جامع جامع
فجأة ادخلوني الى مكتب فرشه وثير فخم، ومزين بشعارات بعثية وعلم سورية ونسرها، وبصور حافظ الأسد وابنه باسل، ثم خرجوا من المكتب وتركوني مع شخص في ثياب مدنية مشغول بأوراق أمامه على طاولة مكتبه الذي رن هاتف عليه، فتناول سماعته وقال عقب اصغاءة قصيرة: حاضر سيدي، أمرك سيدي.
أعاد الشخص السماعة الى مكانها وخاطبني قائلاً: فوت لعند سيادتو، ناطرك فوت، ثم قام عن كرسي مكتبه فاقترب مني وأمسك يدي وجرني نحو باب فتحه أمامي لأدخل منه، فدخلت، فاذا أنا في مكتب آخر فسيح وأكثر فخامة.
رايت في المكتب الفسيح رجلاً في ثياب مدنية، فنظر الي قائلاً أبرك أبرك (أجلس) فجلست على مقعد مستغرباً مندهشاً (لاحقاً، بعد ايام من خروجي، رويت قصتي هذه لسامي خوري الذي كنت قد التقيت به في حمام المعتقل، فقال لي ان رجل المكتب الفسيح هو جامع جامع المسؤول عن جهاز الاستخبارات السورية في بيروت).
سألني الرجل، ان كنت شربت قهوة، وهل أريد سيجارة؟ وفي تلك اللحظة أيقنت أن الموت ليس مصيري، وسرعان ما أحضر رجل المكتب السابق القهوة والسجائر، فيما رجل المكتب الفسيح يقلب أوراق ملفات على مكتبه. شعور عميق بالراحة غمرني، ورحت أتلاشى وأتلاشى غير مدرك إن كان النعاس أم الخمول ما استبد بجسمي كله وحواسي تركني واهناً واهياً كطيف.
قال لي رجل المكتب الفسيح: ولو يا أنطون، انت ابن عيلة، شو هالحركات اللي عم تعملها؟ لا حقلي ميشال عون وماشي عالعمياني! مبين عليك شاب ابن عيلة.. شو رح يفيدك ميشال عون؟!
مندهشاً خاملاً سمعت كلماته التي كانت تصلني من بعيد، ثم قال اكتشفنا ان عملية الحدث نفذها “….” من جماعة عرفات، وأنت سوف تذهب الى بيتك. لم أصدق ما سمعت، فقلت: خلص ع البيت؟! فجاوبني متجاوزاً سؤالي: بس بدي منك شغلي نريد ان تتعاون معنا، ولا لزوم لأن تحكي شو صار معك. مش لازم تحكي لحدا ابداً شو صار. اشكر ربك انك طلعت من هون طيب، واذا عزت اي شي نحن حاضرون. نريد منك ان تتعاون معنا.
ضربوني وأهانوني وشتموا عون ورفاقي
روى انطوان خوري حرب أيضاً:حين فتحوا باب زنزانتي في النهار التاسع، لم يركلني اي منهم بقدمه، بل جروني مباشرة الى غرفة التعذيب بالصدمات الكهربائية، ما ان اجلسوني على الكرسي وأوثقوا جسمي اليه، واضعين السماعتين على أذني والميكروفون امام فمي، وخرجوا من الغرفة، حتى بادرتهم بأفذع ما في ذاكرتي ومخيلتي من الشتائم.
اطلقت صوتي قوياً صارخاً معولاً، وحاملاً طاقة الحقد كلها التي غرستها ضرباتهم وكلماتهم في جسمي وروحي طوال الأيام التسعة الماضية، ونثرتها شتائم عليهم، من رئيس جمهوريتهم حتى أصغر نفر في جيشهم واستخباراتهم. جاوبوني على شتائمي بأن عاجلوني بصدمات كهربائية عالية الشحنات، فلم يتدرجوا في قوتها كما في المرة السابقة. فجأة انقطع صوتي فلم أعد أسمعه الا في داخلي، كأنني أصرخ في منام، وقبل ان يغمى علي تماماً، أحسست إحساساً جسمانياً خاطفاً وأخيراً يتسلخ مواضع من جلد رأسي.
حين استعدت وعيي في زنزانتي، لم استطع تقدير الوقت الذي استغرقته غيبتي مغمى علي. مددت يدي ولمست رأسي، فاذا خصل من شعري تتساقط بين أصابعي من دون ان اشعر بتساقطها، كأنها خصل من شعر شخص آخر، اجزاء ومواضع كثيرة من جسمي كانت لا تزال مخدرة مبنجة، بينما كنت اشعر بتمزق عميق شديد الألم في الأجزاء والمواضع الحية او التي استعدت الاحساس بها. وحين لمست صدري تساقط كذلك قسم من شعره في يدي. وفيما كان جسمي كله يعود الى تلاشيه وانحطاطه، لأغيب مجدداً عن الوعي، راودني احساس خاطف بأنني اقترب من نهايتي.
بدأت أصحو في ما تهيأ لي أنه صباح النهار التالي، اي العاشر من ايام مصيري المجهول. بعد الظهر سمعت اصداء خطوات تقترب من زنزانتي، فأيقنت ان موعد نهايتي يقترب اذا اجلسوني، بعد على كرسي الصدمات الكهربائية، ابتعدت اصداء خطواتهم أو توقفت، فبدأت صور من حياتي تزدحم في رأسي وتتلاحق كأنها صور شريط طويل لا بداية له ولا نهاية. وجوه اهلي وأصدقائي في المدارس والجامعة ورفاقي في النضال.. اخيراً حضرتني صور ابن اخي الصغير الذي كنت مولعاً به، وسميناه حين ولد باسم الجنرال ميشال عون، نوبة هائلة من الحزن البعيد القت بي لأنني مقبل على الموت من دون أن اراه وأودعه.
كنت مدركاً انني أعزي نفسي وأودعها الوداع الأخير، مؤدياً على انفراد شعائر امانة خاصة وشخصية ولا يشاركني فيها أحد، من دون أن اعلم مكان وجودي، وماذا يفعل الان كل من أعرفهم ويعرفونني في العالم الخارجي الذي انقطعت عنه تماماً منذ عشرة ايام.
بعد وقت قصير، سمعت مجدداً وقع خطى تقترب من زنزانتي، فوجهت كتفي نحو بابها، حين فتح احدهم الباب، فاجأني استبداله ركلي بحذائه بأن ناداني: تفضل اخ انطون، استغربت هذه الكلمات التي سمعتها للمرة الأولى منهم، وكانت قد صارت منسية كالعالم الذي غادرته وانقطعت عنه منذ عشرة أيام، الكلمات هذه ونبرة صوت قائلها زادتني يقيناً باقتراب نهايتي، اذ فكرت انها من الكلمات المحايدة التي ينادى بها، عادة، الذاهبون الى الاعدام (…)
كل شيء في سلوكهم أخذ يزيدني يقيناً بأنني ذاهب الى نهايتي المحتومة. قبل أن يدخلوني الى غرفة مصعد، قال النقيب لأحدهم ان يحضر لي بيجاما. إنها لباس الإعدام، فكرت، حين أمر النقيب بغسلي بعد خروجنا من المصعد، قلت انها غسلة ما قبل الموت. في بهو فسيح قرب المصعد، وجهوا الى جسمي العاري الا من الكيلوت، أنبوباً من الكاوتشوك، فاندفع الماء من فوهته غزيراً وراح ينهمر علي بارداً، فأحسست بصقيع لم يطفئ الحمى الداخلية في جسمي المحطم، البيجاما التي احضروها وأمروني بأن ألبسها، كانت عسكرية وأضفتها الى اشياء ما قبل الإعدام وترتيباته المسبقة.