يوميّات بيروت: ما لم نعشه بعد/ خالد الإختيار
الزحام، ورائحة العرق الممزوج بالمطاط المحترق، والعيون المُسهَدةُ التي ترمي بشرر، هي أجمل ما يمكن لزائر بيروت هذه الأيام أن يمتّع بها ما بقي له من حواس أعطبتها المدينة في أماكن أخرى.
أترجل من “السرفيس” الذي أطفأ السائق محركه. أمامنا سدّ مستحكم من العربات الأخرى المتكدسة في شارع زَرعَ في نهايته “الدرك” محرساً طارئاً. بوابة لتاريخ “مُعجّل مُكرر” (كما تختصرها اللغة القانونية الملتوية هنا). تاريخ يعيد نفسه كلّ مرّة، بإتقان المرّة الأولى.
الخطوات التالية تقودني على الرصيف لأتجاوز بخفةِ السحرِ الزحامَ المتفاقم لحظة بعد لحظة. يبزغ مشهد الاعتصام بضوضائه الأليفة من خلف خطوط “حفظ النظام” و”الأمن العام” و”الجيش” وعناصر “التحري” باللباس المدني.
قلوب المسؤولين سوداء كهذا الدخان الذي يتصاعد. أين خبز أولادنا يا من قتلتم آبائنا؟ هل أنهيتم اقتسام كعكة مناصبكم، وتشحذون سكاكينكم الآن لالتهام ما تبقى من عشاءنا الأخير؟
هكذا أقرأ الشعارات على اليافطات المرفوعة فوق الرؤوس المنتفضة.
هيئة التنسيق النقابية (وليت هيئة التنسيق السورية لديها مثل هذه القدرة على الحشد والتحرك) ليست كائناً أخضر، نحيلاً، جاحظ العينين، سقط علينا ذات عصر ذهبي من طبق طائر، فخلخل العيش المشترك الرغيد، لجمع سكاني ينام أفراده العُشاق على كرنفال من القبل الفرنسية كل ليلة.
والعمّال المياومون، ليسوا قُطّاع طرق من العصور الوسطى، مشوهي الوجوه، يتلطون في الغابات المعتمة ليلاً؛ ليصلبوا عابري السبيل الآمنين، نهاراً.
ومتطوعو الدفاع المدني، ليسوا حفنة لصوص متنكرين بزي الشرطة، يخلعون الأبواب، ويدخلون البيوت لنهب مدخرات قاطنيها الذين أهدر حيواتهم العتهُ السياسي المستشري في الأرجاء لعقود.
ستدور الكاميرات كعادتها بالـ”زوم آوت” فوق أرتال هياكل السيارات المستسلمة لمحطاتها الإجباريّة غير المتوقعة، على مشارف “الداون تاون”، و”كورنيش النهر”، و”الجميزة”، وساحتي “الشهداء” و”رياض الصلح”. ولجالسٍ بسيجاره أمام شاشة الـ 40 إنش الـ”هاي ديفينشن” أن يلعن، ما طاب له اللعن، ذلك الشلل الذي يسببه هؤلاء الرعاع.
ولكن شلل ماذا؟
وكأنّ دوران الدم كان مكتملاً في أعضاء الجسد “الوطني” قبل لحظات التظاهر تلك.
وكأنّ نبض قلب البلد الوادع مستقرٌ على ترنيمة حياة طبيعية، وجاء اليوم من يغرز فيه فيروساً خبيثاً يحيل إيقاعَه الهادئ إلى هدير وخفقان مضطرب، كما لو أنّ مساً شيطانياً أصابه.
بالقطع لا.
فتلك “الثوابت” الجامعة، و”المبادئ” الراسخة التي يَنْظـُم فيها الساسة اللبنانيون خطبهم “البروباغاندية” (مرة بالكرافات وأخرى بالعمائم والقلانس) لم تعد هي ما يشدّ الناس إلى بعضهم بعضاً. بل يتضّح يوماً بعد يوم أنّها ـ كما كانت دائماً ـ مجرّد شعوذة منمّقة غايتها أن توهم الناس أن لبنان معهم بخير. (أين تُرانا سمعنا شبيهاً لهذا الإعلان من قبل؟)
بيد أنّ من يعاند المتظاهرين في مطالبهم البديهية ليسوا عبدة السلطة المدمنين من أمراء الحرب، وسماسرة المال العام فحسب؛ بل وينأى بنفسه عنهم اليوم ذلك النوع من الناشطين المكرّسين، الذين تفاقمت خيباتهم من مشاريعهم التي لا ينزل في ساحة التضامن معها كل مرة سوى بقية أقران فقاعتهم الرقيقة، ليوم أو يومين. قبل أن يتبخروا جميعاً في المقاهي والحانات ومدارج المطارات، مهددين (مَنْ؟) بالسفر والارتحال إلى بلاد تصفق لـ”نضالهم”، وتمنحهم “المواطنة”، و”التغيير”، و”الجوائز”.
شهور طويلة من الوجع الشعبي ولا ترى “بوستراً” إعلانياً واحداً، أو شريط “فيديو آرت”، أو “غرافيتي” ناجزاً عن هذه المسيرة (غير البيضاء) الهادرة من العمال، والموظفين، وشغيلة السخرة الذين لا يُنظر إليهم عادة إلا كمادة خام (وحطب) لأحابيل السجال الطائفي والعشائري والإثني، ورسائل الـ”دكتوراه” في علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفقه الشرعي.
شهور طويلة من الصراخ المضني لهذه الجموع المطالبة بحق تقرير مصيرها المخطوف؛ ولا تجد بينهم سوى بضعة أصدقاء لبنانيين “ناشطين”، من أصل كتيبة تواصل انشغالها بالتنقل بين مكاتب المنظمات غير الحكومية الأجنبية، و”ووركشوبات” بناء المجتمع المدني (أين؟)، و”إيفنتات” إطلاق المشاريع والأفلام (التي تتحدث عن هموم الشعب بالطبع)، في سبيل الوصول إلى الناس. نعم الناس. أولئك الواقفون أنفسهم عند الناصية منذ ساعات، يتلقفون الوعود الكاذبة والهراوات. والتاريخ يعيد نفسه أيضاً وأيضاً.
هل سينفث ثعبان السياسة سمّه في وجوه القادة النقابيين فيعميهم عن متابعة مسيرتهم؟
هل سيُستدرج منظمو الحراك المطلبي إلى المحاصصات الفئوية البخسة، ويضيعوا البوصلة التي منحهم الشعب (بألف ولام العهد) إيّاها؟
لم يعد ذلك مهمّاً. نعم لا يهم.
لقد فعلها الناس مرة، وسيفعلونها ثانية، وثالثة، ورابعة. سواء مع هؤلاء الذين وضعوهم في مقدمة صفوفهم، أم بغيرهم.
لقد صنع المقهورون ذكرى زحفهم. ذكرى ثورتهم.
“بَدّك تطول بالك استاز” مازحني أحد العمال المياومين وهو يخفي حجراً في معطفه.
ومن الذكريات ما لم نعشه بعد.
سأفوّت على نفسي ـ ثانية ـ دعوة أصدقاء لبنانيين أحبهم يهيئون لاعتصام من أجل سوريا.
أنا، سأنزل اليوم إلى شارع بيروتي، من أجل لبنان.
فلا تعطوني سلّة غذائية هذه المرة، أو بطانيّة إسفنجية. لا، ولا تعرضوا عليّ خيمة، وكيس ملابس مستعملة.
فأنا هنا أشم رائحة أهلي وأصدقائي. وليوم واحد، لن أكون مجرد لاجئ.
جميع حقوق النشر محفوظة 2014
العربي الجديد