طائر الريبة الأبيض/ ريبر يوسف
مطار دير الزور العسكري عام 1983
جمعٌ من ذوي جدّي وأولاده يرافقونه حيث خطواته الموثقة بالأرض ـ الأخيرة، قبل أن تأخذه الطائرة لأداء مناسك الحج، أشار أخي إلى (الكرباج) بيد عناصر الشرطة العسكرية المنصبين على ضرب المودّعين عموما، بغرض تفتيت شملهم أو لأسباب أخرى مبطّنة، اتخذ قوم جدّي من فيء جدار بعيد ستاراً يحميهم من غضب رجال الشرطة السورية حينذاك، وتوسّدوا الريبة جمعاً، كان لم يزل أخي يشير إلى السوط في أيدي “رجال الأسد” هاتفاً لأبي، فما لبث أن صرخ باكياً منبطحاً على الأرض لنيل مبتغاه، إلى أن تملّك أحد أقرباء جدّي الجسارة وقد أتى بسوط – خاصة أحد الجنود، وناول أخي شيركو الذي أمعن النظر في الدرس حدَّ الاتقان وهمّ بجَلد الجمع المرافق لجدي مقلّداً “رجال الأسد”، كان الدرس الأميّ الأول لطفل نال حيرة مجهولة واستوطن ما يشبه العنف آنذاك على مشارف أحد مطارات دولة البعث في سورية.(انتهى).
مطار دمشق الدولي 2006
راقبتُ الطائرةَ مع أبي إلى أن اختفت عن ناظرينا وتماهت في الدخان الذي يغطّي سماء دمشق، قال أبي: “أمك في تلك الطائرة يا بُني”. دفعتُ بدمعةٍ صغيرة نحو عيني والتقطتُ أنفاسي. وصلت أمي إلى مطار برلين آنذاك، بينما كنت أحتسي الشاي مع أبي في استراحة دير الزور إذ توقّف الباص المتّجه بنا صوبَ الحسكة قادماً من كراجات حرستا، كانت أمي مريضةً، لذلك، فرحةُ وصولها بالسلامة أنستنا الفراغ الذي سُعِّرَ في البلد إثر خروجها منه لكي تزور أخي شيركو شهراً واحداً. في استراحة تدمر، دفع أبي نحوي علبة سجائره وطلبَ مني تدخين واحدة، خجلتُ وأعدتُ له علبته إذ دفعتُها بذات القوة والرهافة التي دفعها هو بها على الطاولة، كانت سيجارتي الأولى والأخيرة برفقته، فكّرتُ طويلاً بالركن المضيء في القلب، الركن الذي يغيّر مفهوم الرقيب في ساعات الحنين والحيرة. أسيرُ في ذات الشوارع التي شاهدتها أمي في برلين قبل عقد من الزمان وأكثر، أذهب إلى الحديقة حيث جلستْ، أفكّر بالمكان خارج معادلات الجغرافيا والسياسة والقلق، أشاهد في برلين غيابَ أمي الموجودة في بيتنا بمدينة القامشلي، إلى الحد الذي تحوّل فيه ذاك الغياب إلى وطن يجمعنا.
مطار (النَفْس) 2017
لم أكن قادراً على جرّ مساحة صوب أرض مخيلتي آنذاك، مساحة تعيد ترتيب توجّسي من المطارات، كنت على يقين تام بأن المطار هو باب القفص الذي نركن فيه بصمت، كان النظام السوري حريصاً على جعل الباب ذاك موصداً بإحكام في وجه السوري، كانت الرقابة ذات وجهين آنذاك، الوجه الأول الخاص بالأجانب الذين تهبط طائراتهم في سورية وهم كانوا الرموز الشفهية السرية لنا نحن أبناء ومريدي القفص الكبير، كانوا لنا في مثابة الهواء القادم إلينا من وراء البحار، لذلك، كانت المخابرات السورية تُتعِبُ دون رأفة كل سوري يتحاور – شفهياً – مع أي أجنبي دخل البلد، قد يكون الوجه الثاني حشواً لغوياً في نص أدبي آن نهمّ في البحث فيه، نحن أبناء القفص السري السوري. أثناء زياراتنا العائلية إلى مدينة (القامشلي) – شمال شرقي سورية – كنت أختلس النظر مقتعداً ركناً مجاوراً لأمي إلى رجال يرتدون الزي العسكري، يحملون بنادق الكلاشينكوف الروسية الصنع، يتأملون في وجوه الناس داخل العربات المتأهبة لدخول المدينة عبر نقطة التفتيش أو المراقبة المقابلة لمطار المدينة، اختارت الحكومة رجالاً ذوي بشرات وملامح قاسية ليحرسوا مساحات شاسعة من الأراضي المفتوحة في فم اليباس التابعة للمطار المطل على كافة أرجاء المدينة كأبراج المراقبة في قاسيون دمشق، كنت أمعن النظر في طائرة معطوبة مركونة في أرض مطار القامشلي طوال تلك السنوات، الأمر الذي عزّزَ في نفسي فكرة اللاخروج من ذاك القفص، كان ثمّة دراسة مبطنة مفضية إلى حكمة ما في وضع طائرة معطوبة شبه مدمرة أمام ناظري كل من يدخل أو يخرج من تلك المدينة، كان النظام السوري يمرّننا على حالة اللاجدوى إلى أن أتقنّاها للأبد، اللاجدوى تلك، ذاتها التي يتداخل فيها شكل الحلم مع الواقعي إلى الحد الذي لن يكون في مستطاع المرء الفصل بينهما بتاتاً، في ظهيرة يوم سعّرت الشمس فيه سحنات غريبة على جباه الناس، سلّلني خالي إلى حيث الطائرة المعطوبة تلك، لم أر جندياً يرفع بندقيته في وجهنا كإشارة تنبيهية تدفعنا إلى التراجع، كان ثمّة أصوات مجهولة وظلال كائنات غائبة متداخلة مع أسلاك معقدة على متنها المعقّد، أطلقت عينيَّ عبر الزجاج الأمامي المهشّم ودفعتهما صوب السماء لافتراس نسر الضوء، كان المشهد يتكرر إلى أن نظرت خلال نافذة طائرة إلى الأضواء التي تبتعد عني في (أثينا) بدا العالم صغيراً إذ تتبعت عيني اللتين استرجعتهما لحظة خروجي من القفص السرّي السوري أواخر عام 2009 عبر مطار أثينا بجواز سفر يخصّ أحدهم قاصداً دولة التشيك فأدخل براً منها إلى برلين.
مطار برلين 2016
اجتاز أصدقائي ركن الأمن فولجوا الردهة دوني، إذ استوقفني رجل وامرأة من عناصر الأمن داخل المطار واستودعاني غرفة مرّروا فيها أجهزة ومواد كشف المتفجرات على جسدي وحقيبتي، فكرتُ لوهلة بالعناصر الباعثة الريبة خلل المرء وأرجأت الحدث حيث ذاك القاع السحري في باطن المرء، لم أكن قادراً على جرِّ تفسيرات أخرى صوبي تخصّ شعري الطويل وذاك الشال الشرقي الذي أرسلته لي أمي من مدينتنا البعيدة في سورية، في الزقاق الضيّق توجستُ بالأصوات المكتومة داخل الطائرة المعطوبة في مطار مدينة القامشلي السورية، أسدلتُ جفنيّ وتتبّعتُ كرات الضوء الصغيرة تحت أسفلهما كما لو أنها انفجارٌ قد فتح ذهني على الريبة الأبدية، أطلقت عيني مثل نسرٍ لافتراس السؤال الشاق الذي يظهر لحظات الحيرة.
*شاعر من سورية يقيم في ألمانيا
ضفة ثالثة