أي سلام يصنعه شركاء المجازر الجماعية/ مطاع صفدي
من كان يصدق أن أمريكا انسحبت من الشرق الأوسط حقاً. إنها بالأحرى تسحب منهجها القديم لتعوضه بأساليب أخرى، حققت جولات استراتيجية يمكن وصفُها إجمالاً إنها ناجحة، وإنها تتفوق على مراحل النشاط السابق المعروف بغطرسته السياسية المطلقة، واندفاعاته الشرسة التي لا ترضى إلا بالحلول القصوى، وفرض مخططاتها بكامل عنفها دونما أية خشية من حسيب أو رقيب، أو معارض.
أمريكا اليوم تحتل كالعادة مركز المهندس والمصمم من أهم قضايا الشرق الأوسط. ها هي تقود اليوم واحدة من أعقد وأهم تطورات الصراع القطري، الإقليمي، الدولي في مسارح المشرق. فلم تعرف هذه المسارح نوعاً من التشابك للقوى المتناقضة وتوالي العقد الدبلوماسية والاستخبارية والسياسية في أوقات متزامنة كما يحدث اليوم خاصة بعد التدخل الروسي، وتحوله إلى أحد أخطر عوامل الوضع البالغ التعقيد إلى أقصى الحدود. فقد ولدت المرحلة الراهنة تحت شعارات العملية السياسية المصمّمة على وقف الحرب في سوريا. لكن كل المقدمات والتحركات في هذا الاتجاه قد كشفت أن هناك رهانات أعمق وأخطر بكثير من مظاهر الدعاوى السلمية وأشباهها.
لم تعد المسألة المركزية في كل هذا الهول الساطع في المشرق تدور حول الهدف الأول الذي انطلقت منه، ما كان يسمى بثورة الربيع العربي السوري؛ لقد تخطت الأحداث حتى هدف التغيير المطلوب لرأس السلطة في دمشق.
يكاد هذا الهدف يصير منسياً، أو على الأقل بات جُزئيةً تابعة لجزئيات أخرى كثيرة، لكن كلاً منها تأخذ فجأة شكل مطلب سياسي كبير ما أن تحين لحظة تحقيقها. كأنما أصبح يُراد لمتغيرات هذا المشرق الصغير أن تولِّد متتابعات فرعية تتناول مجمل خارطة المنطقة كلها، ولا بأس كذلك من أن تساهم في إنتاج نظام عالمي جديد. لن تكون أمريكا هي سيدته العظمى، وإن حرصت أن تظل هي السيدة الأولى الحاكمة على كل سيدة أخرى تتبوأ جانباً من قيادة هذا النظام العالمي الجديد. كل هذه الآفاق أو الأبعاد الاستراتيجية ما كان لها أن تظهر لولا القفزة الروسية المفاجئة إلى صميم المشكلة السورية والمشرقية.
من سوف يحكم سوريا، من سيحكم العراق، وكيف ستكون عليه بقية دول المنطقة. هذه لم تعد أسئلة مجردة. فقد أمست الأجوبة عليها، وسلفاً مرافقة للسؤال السوري نفسه، إن لم تطغ عليه كلياً أحياناً؛ ذلك أن العصر الذي كان يمكن فيه تبديل حكم طاغ بحكم عادل قد انتهى إلى غير رجعة؛ هنا، صار التغيير السلطوي يعادل انقلاباً كيانياً. سوريا هذه إن أتيح لها أن تستقر يوماً ما فلن ترجع هي ذاتها أبداً. وهذا الصخب الدولي الهائل الذي يلف مناحيها كلها بات اليوم مخترقاً داخله بنزعات، تتعدَّى الصراع على مناطق نفوذ لتغدو مشاريعَ تقسيميةً، جغرافياً وسكانياً وحكومياً. لن يبقى سطح المشرق هو نفسه. دويلات ستنشأ وأخرى ستختفي. (إنهم) يحولون المشرق كله إلى ما يشبه معملاً حرارياً هائلاً يخّرج منتوجات هيكلية عجائبية مرعبة؛ لم يترسمها ولن يحيط بها إلا عقل أمريكي أو صهيوني، تمرّس على تفتيت الشعوب وسرقة أوطانها، وتجريف سكانها وإبادتهم.
أما القول مثلاً أن أمريكا لا تريد من كل هذا سوى أن تعيد بعض أمور السلطة في سورية إلى نصابها الديمقراطي، وأنها سوف، ربما تسلّم الأمور إلى صديقها اللدود بوتين، ربما قد تفعل ما يشبه هذه المناورات، ولكن بعد أن يستوعب الروس دروسَ مغامرتهم الخائبة هذه؛ حينئذ فقط سوف يعودون إلى الحضن الأمريكي، قانعين بدورٍ لامبراطورية قيصرية فرعية تحت الزعامة الكونية للقيادة الأمريكية المعهودة.
ما يشهده العالم اليوم من عنف الصراع المتصاعد في زحمة التنافس الدولي على الميراث السوري، حتى قبل تخلي مغتصبيه القدامى من النظام وشركائه الأقربين والأبعدين، ما يشهده الرأي العام الدولي من فظائع الارتداد الهمجي المنظم على الربيع السوري، قد لا يكون أوباما مسؤولاً عنه وحده، بل معه شريكه الروسي كما يتهمه بذلك الكثيرون، ومن رجال إدارته أنفسهم. أو من قبل شرائح متنوعة من المثقفين الغربيين، وليس العرب والمسلمين فحسب. إذ يقول معظم هؤلاء ان أوباما لم يتمسك بالسلبية وحدها، أو الحيادية على الأقل، إزاء توالي الكوارث الدموية الرهيبة؛ لم ترعبه فظائع الهمجية المتصاعدة، لم تجعله يعدل قليلاً من عقيدة أحادية الزعامة الكونية لأمريكا. رغم أن العصر الإنساني لم يعد يحتمل مبدأ الزعامة الإحتكارية لأية دولة كبرى مهما تملّكت من إمكانيات التفوق والسيادة. ولقد قدمت له القضية السورية فرصاً ذهبية، استغلها الرجل بفضل خبرته الثقافية الأكاديمية. اكتشف مثلاً أن الأخذ بمبدأ إطلاقية السلطة قد يؤدي بأسيادها إلى العزلة عن بقية العالم، و يوغل عليها صدور الجميع ضدها. فالحروب الكارثية الفاشلة الذي خاضها سَلَفُهُ (بوش الابن) أتت بأوخم العواقب على مصير الاستراتيجيا الكونية لمشروع الأمركة في ذاتها.
ومع ذلك، فقد وعى أوباما آفاق تجربته الجديدة ابتداء من منعطف اللحظة (التاريخية) لقرار امتناعه عن ضرب النووي الأسدي؛ فمنذ ذلك التحول أصبحت أمريكا هي المالكة، والمشرفة على ما يشبه غرفة للعمليات الموحية بأخطر التطورات الرئيسية للحدث السوري وهوامشه والمستفيدة الأخيرة من نتائجه. هذا لا يعني أن المحافل الخلفية طيلة سنوات الرعب الراهنة في سوريا أمست فقط ملاعب مفتوحة لجولات الذكاء الدبلوماسي الأمريكي. فحين وصل الروس إلى ما اعتبروه صميم الصراع السوري كان ثمة دور هناك لهم بانتظارهم. ولم يكن الأمريكان صانعي هذا الدور. لكنهم لم يمنعوه. كما لم يمنعوا من قبلُ كثيرين من الساعين إلى حجوزات لهم في قوافل العنف المنطلق في هذا القطر السوري البائس. لكن البهلوان الأمريكي يمكنه أن ينصب حباله وحده. مبدأ الزعامة الكونية الأحادية يصير مبدأ متعدد الرؤوس من الدرجات التالية دائماً على الرقم الواحد الأحد، فالزعيم الأكبر، العصري والمثقف جداً، هو الأقدر في الأمور الحساسة على إعادة توزيع الحصص السيادية النسبية دائماً، محتفظاً في مآل كل إشكالية بسر المبدأ الرياضي القائل أن كل تعددية ناجحة إنما تنطلق من الرقم (الواحد).
معترك الجحيم السوري تعددي برؤوسه النارية المتكاثرة حول مجازره. وكل منجذب جديد نحو بعض أوكاره اللاهبة إنما يأتي بأحطاب، بوقود إضافية. ما يفعله بوتين هناك هو البرهنة يومياً على مدى قدرته في القتل. أما أوباما فإنه لا يزال يأمر بعض أجهزته بإحصاء مجاميع القتلى من فقراء الأرياف السورية بأسلحة الدمار الشامل للقيصر الروسي. هل سوف يجرؤ على وصف حفلات القتل هذه بالجرائم القصوى ضد الإنسانية. هل يمكن لمهندسي الفظائع القصوى ضد الإنسانية أن يتحول بعضهم إلى حكام عدل.. أو جورٍ أبدي..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي