صفحات العالم

إدارة الأزمات والنموذج السوري/ باسل أبو حمدة

 

 

ابتلعت أطراف المعارضة السورية طعم تصنيف فصائلها وشخصياتها، وقبلت بأن توضع على مقياس الإرهاب وما يعنيه ذلك من فرز بين كتلتين وحيدتين لا ثالث لهما، من وجهة نظر الرعاة الدوليين والاقليميين لذلك التصنيف.

واحدة ارهابية ثمة اجماع دولي واقليمي على تصفيتها، وأخرى معتدلة يرتبط ظهورها ودورها المستقبلي بمدى استعدادها للمشاركة في محاربة الكتلة الأولى والقضاء عليها، في خطوة تعمق الهوة التي حفرتها بنفسها، وباتت تفصل بينها وبين منطلقات الثورة السورية القائمة على ضرورة إحداث تغيير جذري في النظام السياسي في البلاد، وإسقاط طغمة الاستبداد فيها، وبناء نظام سياسي ديمقراطي بديل، ما ينقل القضية السورية برمتها من موقعها الحقيقي، بوصفها قضية سياسية عادلة إلى إطار ما يعرف بمربع إدارة الأزمات، الذي لا سقف ولا قاع له.

لا تقل ضراوة معركة الفرز هذه عن شراسة المعارك الدائرة على الأرض السورية، بما في ذلك عمليات القصف الهمجي التي يشنها طيران العدوان الروسي، فما عجزت آلة الحرب المسلطة على رقاب الشعب السوري عن تحقيقه في الميدان، بات من السهولة بمكان تحقيقه على يد المعارضة ذاتها، من خلال قبولها بغربلة نفسها بنفسها، اعتمادا على مقياس طرف خصم شرس لا يعترف أصلا بشرعيتها ولا يملك لغة أخرى غير لغة القوة في التعامل معها، بل ان عملية الغربلة هذه هيمنت على الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، وما عاد النظام السوري طرفا فيها، بعد أن تمكن من النأي بنفسه عن مخرجاتها، بوصفه أعتى قوة إرهابية منظمة في سوريا، بحيث تقتصر عمليات المقارنة والمفاضلة على مناهضي النظام السوري، وكأن ساحة الحرب الطاحنة خلت من تلك الجيوش الجرارة من المرتزقة التي انتصرت للنظام وجاءت جحافلها أفواجا برا وبحرا وجوا، وراحت ترتكب المجزرة تلو الأخرى على الأرض السورية وبحق شعبها.

إنها سردية النظام الأخيرة التي تندرج ضمن سلسلة من السرديات الزائفة، التي راح يروج لها الواحدة تلو الأخرى، منذ استيلائه على السلطة قبل خمسة وأربعين عاما، لكن المؤسف في كل تلك السرديات أن مقولات كل منها كانت تطرح للاستهلاك المحلي مثل، الوحدة والحرية والاشتراكية والمقاومة والممانعة، باستثناء السردية الحالية القائمة على خطاب محاربة الإرهاب، التي يمكن فهم دوافع وغايات سائر القوى الاقليمية والدولية للانخراط فيها وتبني مقولاتها، لكن من الصعوبة بمكان فهم غفلة قوى المعارضة السورية بمختلف مشاربها أو استهتارها بضرورة إدراج النظام السوري ومرتزقته وميليشياته الطائفية على قائمة الإرهاب، التي كلفت الحكومة الأردنية بوضعها ضمن توافق دولي بلغ ذروته في القرار 2254، الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي لا يمثل، في أحسن تجلياته، سوى نقلة جديدة في مسار انهاء القضية السورية، التي خضعت لنقلات خطيرة مماثلة سابقة ظلت جميعها تقارب المسألة من منظور أمني صرف.

لكن النقلة الأخيرة هي الأخطر من نوعها على الاطلاق، ليس لأنها تشرعن لإعادة بناء نظام الاستبداد في دمشق فحسب، بل لأنها تشرعن للحرب على الارهاب كذلك، وتجعلها العنوان الناظم لكل الحراك السياسي المرتبط بقضايا شعوب المنطقة والمقياس الوحيد المعتمد إقليميا ودوليا لدرجة حرارة الاصطفافات السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم، سواء كانت تلك الاصطفافات رسمية أم شعبية، في منحى تنازلي يتواصل تدريجيا وصولا إلى افراغ القضية السورية وحراكها الثوري من محتواهما السياسي في فصول ونقلات متعاقبة، تعنى بإدارة الأزمة وليس حلها، على غرار النقلات التنازلية التي شهدتها القضية الفلسطينية على مر تاريخها الطويل، والتي سجلت خلالها تراجعات مطردة في مجمل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بدءا من شعار تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر، مرورا بالقبول بدولة فلسطينية أراضيها مقتطعة من أراضي فلسطين التاريخية، وصولا إلى القبول باتفاقات أوسلو والحكم الذاتي الفلسطيني على أجزاء من تلك الأراضي المقتطعة من جغرافية فلسطين أصلا.

كما تأتي تلك النقلات ضمن حزمة أوسع من الخيارات التي تفجرها مراكز صنع القرار حول العالم ممثلة بالولايات المتحدة هذه المرة لكل لاعب اقليمي أو دولي في منطقة الشرق الأوسط، بحيث يتبنى كل منهم خيارا يعتقد واهما، أنه خياره ومشروعه الخاصان المحملان بكل ما يلزم من عناصر مكملة، بما فيها خلق منظومة من العداءات والصداقات المبهمة، وتوفير مصادر التمويل ووسائل التعبئة، فضلا عن بنك الأهداف، وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فإنه سيكون من الصعوبة بمكان قراءة ظاهرة الجمع بين مروحة من المتناقضات في بوتقة واحدة، على غرار الحلف الروسي- الاسرائيلي من جهة والتحالف الروسي- الايراني من الجهة الأخرى، أو وقوف نظام مستبد في وجه نظام آخر لا يقل عنه استبدادا، بينما يعلن انحيازه للقوى المعارضة لنظام الاستبداد ذاك، الأمر الذي يتجلى بوضوح تام في الحالة السورية.

تلك هي الطريقة التي تم بواسطتها إحكام السيطرة، قولا وفعلا، في المنابر السياسية وفي ميدان المعركة، على ركيزتي الثورة السورية المعاصرة الرئيسيتين العسكرية والسياسية، وأصبح من المتعذر على قوى المعارضة السورية الإفلات من القبضة الأمريكية- الروسية سواء على المستوى السياسي أو على المستوى العسكري، الأمر الذي يشمل سائر التشكيلات السياسية والعسكرية وربما المدنية المناهضة للنظام السوري والموالية له على حد سواء، والتي ظهرت برعاية ودعم أطراف إقليمية ودولية تدور جميعها في الفلك الأمريكي وتتحكم بكل شاردة وواردة تتعلق بتوجهات وتحركات تلك التشكيلات بعيدا عن الوطنية السورية، التي يفترض أن تشكل القاسم المشترك الأعظم بينها جميعا، بينما يشي الواقع بأنها الغائب الأكبر عن المشهد السياسي السوري في المرحلة الحالية، في ظل ذلك الحضور الطاغي لمصالح بقية الأطراف الخارجية المتورطة في الصراع على سوريا وفيها.

إنه الحراك في إطار النقلات ضمن استراتيجيات إدارة الأزمات والصراعات في السياسات المستقبلية لمراكز صنع القرار حول العالم، حيث لم تعد الولايات المتحدة ترى في الشرق الأوسط مصلحة مكثفة طالما ظل أمن الدولة العبرية سالما معافى، الأمر الذي يفسر انكفاء واشنطن عن التدخل المباشر في هذه المنطقة من العالم، مثلما يلقي الضوء على الأسباب الكامنة وراء اعتمادها في ادارة العمليات السياسية والعسكرية فيها على مقاولين محليين وعصابات محلية ودول اقليمية، لا تستثنى الدول الكبرى منها. هكذا خلقت تيار المالكي بالشراكة مع الإيرانيين، وهكذا صنعت تنظيم «داعش» بالشراكة مع أنظمة الاستبداد وأجهزة مخابراتها، وهكذا جلبت الطرف الروسي وفجرت له خياره في سوريا والمنطقة عموما، وهكذا تورطت دولة مثل فرنسا في المستنقع السوري بعد هجمات باريس الارهابية. كل ذلك عمل غير مكلف اعتمادا على سلسلة لا متناهية من التكليفات والمقاولات الموضعية والجزئية، على غرار تكليف الرياض بترتيب قائمة المعارضين السوريين للتفاوض مع النظام وتكليف عمان بإعداد قائمة الفصائل السورية الارهابية التي يجب محاربتها.

في نهاية المطاف، تبدو صورة مصائر الشعوب ومعاناتها باهتة للغاية في خلفية هذا المشهد الميكيافيلي التراجيدي بنقلاته الفتاكة، التي إن كانت تهدف لشيء، فإنها تهدف إلى كسب ما يلزم من وقت لإحداث تغييرات في التوازنات الميدانية، بغرض فرض سياسة الأمر الواقع، التي يراها البعض، مخطئا واقعية، والتي تصب، أولا وأخيرا، في خانة «سايكس بيكو» جديد يعيد رسم خريطة المنطقة جغرافيا وديموغرافيا بإدارة أمريكية.

٭ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى