ازمة اللاجئين في اوروبا وكيفية الحل/ جورج سوروس
بينما كانت أزمة اللاجئين تؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، ساهمت يوم 23 يونيو/حزيران في فاجعة أكبر – وهي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (Brexit). وقد دعمت هذه الأزمات الأحزاب الوطنية الكارهة للأجانب في جميع أنحاء القارة. وستحاول هذه الأحزاب أن تفوز بسلسلة من الاقتراعات الرئيسية في العام المقبل – بما في ذلك الانتخابات الوطنية في فرنسا وهولندا وألمانيا عام 2017، واستفتاء في المجر حول سياسة اللاجئين بالاتحاد الأوروبي يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول، وإعادة للانتخابات الرئاسية بالنمسا في نفس اليوم، واستفتاء دستوري في إيطاليا في وقت لاحق من شهر أكتوبر/تشرين الأول هذا العام.
وبدلًا من الاتحاد لمواجهة هذه التهديدات، أصبحت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير مستعدة على نحو متزايد للتعاون فيما بينها. فهي تتبع سياسات هجرة متعارضة لا تخدم إلا مصالحها الذاتية، وغالبًا ما يكون ذلك على نحو ضار بجيرانها. وفي هذه الظروف، لا يمكن التوصل لسياسة لجوء أوروبية شاملة ومتساوقة على المدى القصير، حيث أن الثقة اللازمة للتعاون لا تتوافر. وسيكون لزامًا إعادة بناء هذه الثقة من خلال عملية طويلة وشاقة.
يلزم أن تظل السياسة الشاملة على قمة أولويات الزعماء الأوروبيين؛ حيث أن الاتحاد لا يستطيع أن يبقى على قيد الحياة بدونها. أزمة اللاجئين ليست حدثًا لمرة واحدة؛ فهي تنذر بفترة من ضغوط الهجرة الأشد في المستقبل المنظور جراء مجموعة معينة من الأسباب، بما في ذلك الاختلالات الديموغرافية والاقتصادية بين أوروبا وأفريقيا، والصراعات التي لا نهاية لها في منطقة الحدود، وتغير المناخ. فسياسات الهجرة المنطوية على إفقار للجار لن تُسْهِم فقط في تفكيك الاتحاد، بل ستضر كذلك بصورة خطيرة بالاقتصادات الأوروبية وتُقَوّض معايير حقوق الإنسان العالمية.
كيف ستبدو المقاربة الشاملة؟ ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يضع هدفًا مضمونًا قوامه 300 ألف لاجئ سنويًا ممن سيعاد توطينهم على نحو آمن وبصورة مباشرة في أوروبا من الشرق الأوسط – وهو عدد إجمالي نأمل أن تضاهيه بلدان أخرى في مناطق أخرى من العالم. وفي نفس الوقت، ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يساعد بلدان خط المواجهة في تحسين ظروف التوظيف والمعيشة. ينبغي أن يكون هذا كافيًا لإقناع طالبي اللجوء بألا يخاطروا بحياتهم بعبور البحر المتوسط، ولا سيما إذا كان الوصول إلى أوروبا من خلال وسائل غير نظامية سيحرمهم من إمكانية النظر إليهم كطالبي لجوء حقيقيين.
ويمكن لهذا أن يخدم كأساس لسياسة لجوء أوروبية شاملة من شأنها أن تنشيء مراكز معالجة في البلدان الكبيرة التي تستضيف اللاجئين خارج أوروبا؛ وأن تستحدث قوات غفر حدود وسواحل أوروبية فعالة؛ وأن تضع معايير مشتركة لمعالجة طالبي اللجوء وإدماجهم، ولإعادة الذين لا يتأهلون؛ وأن تعيد التفاوض بشأن لائحة دبلن؟ (التي يتم مناقشتها في الركيزة الرابعة).
ولكن على النقيض من ذلك، تعاني الاستجابة التدريجية للأزمة، التي بلغت ذروتها في الاتفاق الذي إُبرم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لإيقاف تدفقات اللاجئين في شرق البحر المتوسط، تعاني من أربعة عيوب جوهرية. أولًا، هذا الاتفاق ليس أوروبيًا بحق؛ حيث أن الاتفاق مع تركيا تفاوضت بشأنه المستشارة «ميركل» وفرضته على أوروبا. ثانيًا، الاستجابة الكلية تعاني من نقص حاد في التمويل. ثالثًا، حول الاتفاق اليونان إلى حظيرة ماشية فعلية مع منشآت غير كافية. وأخيرًا، هذا الاتفاق ليس طوعيًا: فهو يحاول أن يفرض حصصًا تعارضها بشدة الكثير من الدول الأعضاء ويستلزم من اللاجئين الإقامة في بلدان حيث لا يكونون موضع ترحاب، وفي نفس الوقت يجبر الآخرين الذين وصلوا إلى أوروبا من خلال وسائل غير نظامية على العودة إلى تركيا.
والاتفاق المبرم مع تركيا مثير للجدل على نحو خاص. فمن ناحية، يبدو أنه ناجح، حيث أن طريق البلقان قد سُد بصورة كبيرة وانخفضت تدفقات اللاجئين إلى اليونان إلى أعداد هزيلة. بيد أن تدفقات اللاجئين تزايدت على مسارات البحر المتوسط الأخرى الأكثر خطورة. وفي نفس الوقت، فإن مقدمة الاتفاق نفسها، التي مفادها أن يمكن إعادة طالبي اللجوء بصورة قانونية إلى تركيا، تعاني من عيب جوهري. فمحاكم اليونان ولجان اللجوء تقضي بصورة منتظمة بأن تركيا لا تمثل «بلدًا ثالثًا آمنًا» لمعظم طالبي اللجوء السوريين. كما أن عملية إعادة التنظيم التي تمت مؤخرًا للجان استئنافات اللجوء في اليونان لجعلها أكثر صداقة للحكومات معرضة للطعن عليها أمام المحاكم.
وفي نفس الوقت، فإن الاتفاق المبرم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والذي بُنى على مقدمة مفادها أنه يمكن مقايضة حقوق اللاجئين مقابل خدمات مالية وسياسية، يتم الآن استخدامه كنموذج على نطاق أوسع. ففي الشهر الماضي، طالبت المفوضية الأوروبية بجعل أموال التنمية متوقفة على تنفيذ قيود الهجرة من قبل الشركاء الأفارقة. وهذا ينتهك القيم والمبادئ التي ينبغي أن ترشد الاتحاد الأوروبي ويشكل قطيعة مع عقود من الممارسات المتمثلة في تمويل التنمية ويُحط من معاملة كلاً من المهاجرين واللاجئين. فلا يمكن لأية صفقة كبرى مع البلدان الأفريقية والبلدان الأخرى أن تكون ببساطة هي أنه إذا أوقفت المهاجرين عن القدوم إلى أوروبا، فإنه يمكن أن تفعل أي شيء آخر تريده. فهذه المقاربة تدمرنا وتدمرهم، أخلاقيًا وسياسيًا واقتصاديًا. فالصفقة الكبرى الحقيقية ينبغي أن تركز على التنمية في أفريقيا – التنمية الحقيقية التي ستتطرق على مدى جيل للأسباب الجذرية التي كثيرًا ما يستدعيها الكثير من السياسيين لكنهم يتجاهلونها بنفس القدر في الممارسة الفعلية.
مقاربة أكثر ملاءمة
من شأن البديل الفعال للمقاربة الأوروبية الراهنة أن يُبنى على ست ركائز.
أولًا، يلزم على الاتحاد الأوروبي وبقية العالم أن يقبلوا عددًا كبيرًا من اللاجئين بصورة مباشرة من بلدان خط المواجهة بطريقة آمنة ومنظمة، ومن شأن ذلك أن يكون أكثر قبولًا بكثير للشعب مقارنة بالفوضى الراهنة. إذا قطع الاتحاد الأوروبي التزامًا بالسماح بدخول حتى 300 ألف لاجئ كل سنة، وإذا تمت مضاهاة هذا الالتزام من قبل بلدان أخرى في العالم، فإن معظم طالبي اللجوء الحقيقيين سيحسبون أن فرص وصولهم لوجهتهم النهائية مرتفعة بما فيه الكفاية بحيث لا يسعون للوصول إلى أوروبا بصورة غير قانونية، حيث أن من شأن هذا أن يحرمهم من التأهل والقبول القانوني. وإضافة إلى ذلك، إذا تحسنت الأحوال في بلدان خط المواجهة بفضل المزيد من المساعدات، فلن تكون هناك أزمة لاجئين. لكن ستظل مشكلة اللاجئين الاقتصاديين قائمة.
وهذا يصل بنا إلى النقطة الثانية: أكثر شيء يمكن أن يستعدي الشعب ويفزعه هو مشاهد الفوضى. فحين قامت المستشارة «ميركل»، في لفتة سخية، بفتح حدود ألمانيا على مصراعيها أمام اللاجئين، لم يتم التفكير في هذا الأمر بعناية؛ حيث أنه تجاهل عامل الجذب. فقد أدى ذلك إلى تدفق مفاجئ لأكثر من مليون مهاجر، ما أثر بصورة كبيرة على طاقة السلطات وقدرتها، وأدى إلى تحول الرأي العام ضد المهاجرين. والآن يحتاج الاتحاد الأوروبي بصورة ملحة أن يحد من التدفق الكلي للوافدين الجدد، ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا عن طريق التمييز ضد المهاجرين الاقتصاديين. نأمل أن يكون ذلك أمرًا مؤقتًا، حيث أنه غير ملائم وضار أثناء استمراره. المهاجرون الاقتصاديون الذين يتمتعون بمهارات عالية يُحَسّنون الإنتاجية ويدفعون النمو ويرفعون من الطاقة الاستيعابية للبلد المستقبل.
وبعد 15 شهرًا من اندلاع المرحلة الحادة للأزمة، لا تزال الفوضى هي الحاكمة في اليونان ومنطقة البحر المتوسط. فاللاجئون يعيشون في قذارة. والشعب يشاهد ذلك على شاشات التلفاز ويتعجب من عدم قدرة أوروبا القوية على توفير حتى الإمدادات الأساسية للأطفال والنساء الذين يفرون من الحرب. وفي نفس الوقت، تبدو أكثر أساطيل العالم تقدمًا غير قادرة على إنفاذ حياة الأشخاص الذين يعبرون البحر المتوسط؛ حيث ارتفع عدد الغرقى بمقدار 50% هذا العام. والتفسير الساخر لكل هذا، وهو أن الاتحاد الأوروبي يسمح عن عمد باستمرار هذه الأحوال كي تعمل كرادع، مزعج بنفس القدر.
العلاج الفوري بسيط: إعطاء اليونان وإيطاليا أموالًا كافية لرعاية طالبي اللجوء وإصدار الأوامر للأساطيل بجعل عمليات البحث والإنقاذ (وليس «حماية» الحدود) أولويتها، وتنفيذ الوعد الخاص بإعادة توطين 60 ألف طالب لجوء من اليونان إلى دول أعضاء أخرى بالاتحاد الأوروبي.
ثالثًا، يحتاج الاتحاد الأوروبي أن يُعد أدوات مالية يمكن أن توفر أموالًا كافية للتعامل مع التحديات طويلة الأجل التي تواجهه، وألا يسير ببطء شديد من خطوة لأخرى. فعلى مدار سنوات، اضطر الاتحاد الأوروبي أن يمول عددًا متزايدًا باستمرار من التعهدات مع مجموعة موارد متقلصة. وفي عام 2014، اتفقت الدول الأعضاء والبرلمان الأوروبي على تقليل ميزانية الاتحاد الأوروبي الإجمالية وتحديدها عند نسبة متواضعة تبلغ 1.23 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي حتى سنة 2020. وقد كان هذا خطأ مأسويًا، حيث أن الاتحاد لا يستطيع أن يعيش بميزانية من هذا الحجم.
ستكون هناك حاجة لـ 30 مليار يورو على الأقل سنويًا كي ينفذ الاتحاد الأوروبي خطة لجوء شاملة. ثمة حاجة لهذه المبالغ لاستخدامها بداخل حدود الاتحاد، وذلك لبناء وكالات حدود ولجوء فعالة وضمان ظروف استقبال كريمة وإجراءات لجوء عادلة وفرص للاندماج، وأيضًا خارج الحدود، وذلك لدعم البلدان التي تستضيف اللاجئين وتحفيز خلق الوظائف في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط.
وبينما قد يبدو هذا مبلغًا هائلًا، إلا أنه يتضاءل بالمقارنة بالكلفة السياسية والبشرية والاقتصادية للأزمة إذا طال أمدها. وعلى سبيل المثال، ثمة تهديد حقيقي يتمثل في انهيار نظام الشنغن للحدود الداخلية المفتوحة في أوروبا. وقد قدرت مؤسسة برتلسمان أن التخلي عن نظام الشنغن سيكلف الاتحاد الأوروبي بين 47 و140 مليار يورو في صورة إجمالي ناتج محلي مفقود كل سنة.
تُبنى المقاربة الراهنة على أساس إعادة تخصيص مبالغ ضئيلة من ميزانية الاتحاد الأوروبي ومن ثم الطلب من الدول الأعضاء أن تساهم في أدوات مكرسة متنوعة، مثل المرفق التركي والصندوق الاستئماني لسوريا. ولا يمكن لهذا ألا أن يكون حلًا مؤقتًا، حيث أنه غير مستدام وليس كبيرا بما فيه الكفاية لتمويل الجهود التي يلزم أن تنمو في الحجم والنطاق. وفي حين أن الصناديق الاستئمانية هذه يمكن أن تكون أدوات قوية على المدى القصير لإعادة توزيع الموارد والسماح للدول الأعضاء بتخصيص المزيد من الأموال لجهد معين، إلا أنها تبين أيضًا القصور الجوهري في ميزانية الاتحاد الأوروبي، بمعنى أنها تبقى معتمدة على النوايا الطيبة للدول الأعضاء في كل خطوة على حدة. في واقع الأمر، فمن مبلغ الـ 3 مليار يورو التي وعد الاتحاد الأوروبي بتقديمها لتركيا في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم يتم إلى الآن إلا تحصيل مقدار طفيف منه (ومن بلدين فقط، هما ألمانيا وفنلندا).
ومن أجل توفير الأموال اللازمة على المدى القصير، سيحتاج الاتحاد الأوروبي أن ينخرط فيما أسميه «زيادة في التمويل». وينطوي هذا على رفع الديون عن طريق الاستفادة من ميزانية الاتحاد الأوروبي الصغيرة نسبيًا ، بدلًا من وضع صناديق غير كافية سنة تلو الأخرى. ومن شأن إنفاق مبلغ كبير في البداية أن يسمح للاتحاد أن يستجيب بصورة أكثر فعالية لبعض أخطر العواقب لأزمة اللاجئين. وتتضمن هذه العواقب المشاعر المناهضة للمهاجرين في الدول الأعضاء التي أدت إلى تزايد الدعم للأحزاب السياسية الاستبدادية، والقنوط بين أولئك الذين يسعون للجوء في أوروبا والذين يجدون أنفسهم الآن مهمشين في البلدان المضيفة بمنطقة الشرق الأوسط أو عالقين في العبور في اليونان. ومن شأن توفير استثمارات أولية ضخمة أن يساعد في إمالة كفة الديناميكيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعيدًا عن كراهية الأجانب والسخط والدفع باتجاه النتائج البناءة التي تفيد كلًا من اللاجئين والبلدان المضيفة على حد سواء. وعلى المدى البعيد، سيقلل هذا من مبلغ المال الإجمالي الذي سيكون لزامًا على أوروبا أن تنفقه لاحتواء أزمة اللاجئين والتعافي منها. ولهذا السبب أسميه «زيادة» في التمويل.
ولتمويل ذلك، سيكون لزامًا فرض ضرائب جديدة عاجلًا أم آجلًا. وفي غضون ذلك، يمكن تلبية الاحتياجات جزئيًا عن طريق تعبئة الائتمان غير المستخدم للأدوات المالية القائمة بالفعل للاتحاد الأوروبي – اي مرفق مساعدات ميزان المدفوعات ومرفق المساعدة المالية الكلية وآلية الاستقرار المالي الأوروبي (EFSM). ولدى هذه الآليات معًا أكثر من 50 مليار يورو من الائتمانات غير المستخدمة المتاحة.
وفي أوج أزمة أوروبا، تمكنت الدول الأعضاء من استدعاء الإرادة السياسية لكل تُعد بسرعة مجموعة جديدة من الأدوات التي رفعت بصورة كبيرة من القدرة المالية للاتحاد الأوروبي. وقد رفعت آلية الاستقرار المالي الأوروبي، التي أصبحت بعد ذلك آلية الاستقرار الأوروبي (ESM)، قدرة الاقتراض للاتحاد الأوروبي لتصل إلى حوالي 500 مليار يورو في غضون عام واحد فقط، وهي بهذا تثبت أنه إذا صح العزم وضح السبيل. لكن كل هذه الأدوات تواجه ثلاثة قيود: صغر حجم ميزانية الاتحاد الأوروبي؛ اشتراط التصريح بالإجماع من الدول الأعضاء؛ وتصمميها الأساسي المتمثل في إقراض المال للدول الأعضاء الأخرى بدلًا من الانخراط في الإنفاق الحقيقي باسم الاتحاد الأوروبي.
ويتمثل السبيل الوحيد للأمام على المدى القصير في تشكيل «ائتلافات راغبين» لا تتطلب الموافقة بالإجماع. ويمكن لهذه المبادرات أن تُلْهم إصلاحات أعمق في ميزانية الاتحاد الأوروبي. وقد كان هذا هو المبدأ وراء ضريبة الصفقات المالية ورسوم المصارف التي تمول صندوق القرارات الفردية. وقد كان بوسع هذه المقاربة أن تؤدي في نهاية المطاف إلى إعداد خطة بطالة بين الدول الأوروبية وخدمات مشتركة أخرى من شأنها أن تساعد في تقليل الاختلالات بين الدول الأعضاء. ومن ثم، فقد شجعني كثيرًا مقترح وزير المالية الألماني «ولفغانغ شوبليه» العام الماضي بخصوص فرض ضريبة غازولين على مستوى البلدان الأوروبية. لكن سرعان ما خاب أملي حين حذر صراحة من استغلال قدرة الاقتراض غير المستخدمة بصورة كبيرة بالاتحاد الأوروبي.
إن وجود الاتحاد الأوروبي نفسه معرض للخطر. ويمثل السماح للاتحاد الأوروبي بالتفكك بدون استغلال كل موارده المالية قمة عدم المسؤولية والتخلي عن الواجب. فعبر التاريخ، أصدرت الحكومات سندات استجابة لحالات طوارئ وطنية. فمتى ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يستخدم قدرة الاقتراض غير المستخدمة بصورة كبيرة إذا لم يكن ذلك في لحظة يواجه فيها خطرًا قاتلًا؟ ومن شأن فعل هذا أن يكون له ميزة إضافية تتمثل في توفير حافز اقتصادي مطلوب بصورة كبيرة. والآن بعدما وصلت أسعار الفائدة لأدنى مستوياتها التاريخية، فإن الوقت موات على نحو خاص لقبول مثل هذه الديون.
رابعًا، يلزم استغلال الأزمة لبناء آليات أوروبية مشتركة لحماية الحدود وتقرير مطالب اللجوء وإعادة توطين اللاجئين. ثمة عملية متواضعة قيد التنفيذ: حيث أقر البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي تشريعًا يقضي بإنشاء غفر السواحل والحدود الأوروبي. لكن لائحة دبلن – التي تشكل الأساس لتقرير البلد الذي يتحمل المسؤولية في دراسة حالات طالبي اللجوء واستضافتهم – تحول بين التضامن بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي عن طريق وضع معظم العبء على بلد الدخول الأول؛ لذا، ثمة حاجة لإعادة التفاوض بشأن ذلك.
ثمة حل أوروبي بصدد الظهور الآن على أراض اليونان حيث يفحص المكتب الأوروبي لدعم اللجوء (EASO) بالفعل طلبات اللجوء لكي يساعد السلطات اليونانية المدحورة. ومن شأن وجود إجراء لجوء أوروبي وحيد أن ينهي الحوافز الخاصة بالبحث عن بلد اللجوء الأنسب وأن يعيد بناء الثقة بين الدول الأعضاء.
خامسًا، حالما يتم الاعتراف باللاجئين، ثمة حاجة لوضع آلية لإعادة توطينهم بداخل أوروبا بطريقة متفق عليها. سيكون من المهم للغاية للاتحاد الأوروبي أن يعيد بصورة جوهرية التفكير في تنفيذ برامجه الجهيضة الخاصة بإعادة التوطين وإعادة النقل. لا يمكن للاتحاد أن يُكْرِه لا الدول الأعضاء ولا اللاجئين على المشاركة فيها. يلزم أن يكون البرنامج طوعيًا؛ يمكن لخطة مضاهاة أن تستطلع التفضيلات من كل من اللاجئين والمجتمعات المستقبلة لكي ينتهي المطاف بالناس في الأماكن التي يريدون أن يكونوا بها وحيث يتم الترحيب بهم. وقد بدأ المكتب الأوروبي لدعم اللجوء تجربة خاصة بخطة المضاهاة.
ينبغي أن تكون هذه البرامج مترسخة بعمق في المجتمعات المحلية. وقد أظهر رؤساء البلديات عبر أوروبا استعدادًا رائعًا لاستقبال اللاجئين، لكنهم تعرضوا للإفشال من قبل حكوماتهم الوطنية. ويمكن لبرامج الرعاية بين القطاعين العام والخاص، حيث تقدم مجموعات صغيرة من الأفراد والمنظمات المجتمعية والشركات الدعم المالي وغيره من أنواع الدعم للوافدين الجديد فيما يتفاوضون بشأن المدارس وأسواق العمل والمجتمعات المحلية، يمكن لهذه البرامج أن تستفيد من النوايا الطبية غير المستغلة للمواطنين عبر أوروبا.
توفر كندا قدوة مناسبة (مع أن سياقها الجغرافي يختلف عن سياق أوروبا الجغرافي). ففي غضون أربعة أشهر فقط، سمحت بدخول 25 ألف لاجئ سوري وتقوم الآن بإدماجهم في شراكات بين القطاعين العام والخاص والمنظمات الأهلية المحلية. وقد وعدت الحكومة بقبول عشرة آلف سوري آخر بنهاية العام، أي بإجمالي 44 ألف في عام 2016. (وفي نفس الوقت، فهي تسمح بدخول 300 ألف مهاجر بصورة إجمالية كل عام؛ ومن شأن هذا أن يعادل قبول الاتحاد الأوروبي لـ 4.5 مليون مهاجر سنويًا).
وقد تم تنقيح العملية التي تقوم كندا من خلالها بإعادة توطين اللاجئين من خلال الاستخدام المتكرر على مدار فترة زمنية طويلة، وتجتاز حتى المعايير الأمنية المفرطة في الشدة لجارها الجنوبي. فقد تم تنفيذ عملية فحص طالبي اللجوء السوريين بدقة وعناية من قبل 500 مسؤول قنصلي وعسكري تمت تعبئتهم فورًا بعد تولي رئيس الوزراء «جاستين ترودو» للسلطة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعدما وضع هذا المشروع على قمة أولوياته. وقد استجاب كل من الشعب ووسائل الإعلام بصورة إيجابية، على الرغم من صدمة الهجمات الإرهابية في باريس وبروكسل التي وقعت بينما كان برنامج اللاجئين السوريين بكندا في أوجه. وقد تمثلت عناصر النجاح الرئيسية في القيادة الحازمة من القمة، والتنسيق الوثيق مع المجتمعات المحلية المستقبلة، وعملية الفحص وإجراءات إعادة التوطين القوية والأمانة في مواجهة المشاكل الحتمية. قارن كل ذلك بالأحوال التي تسود في أوروبا، وستحصل على مؤشر على المسافة التي يلزم على أوروبا أن تقطعها.
سادسًا، يلزم على الاتحاد الأوروبي، إلى جانب المجتمع الدولي، أن يدعم البلدان التي تستضيف اللاجئين بصورة أكثر سخاء بكثير مقارنة بما يفعلانه الآن. والدعم المطلوب هو دعم مالي جزئيًا، حتى يتسنى لبلدان مثل الأردن أن توفر خدمات تعليم وإسكان وتدريب ورعاية صحية مناسبة للاجئين، وجزئيًا في صورة مزايا تجارية كي تستطيع تلك البلدان أن توفر فرص التوظيف لكل من اللاجئين ومواطنيها على حد سواء. وببساطة، ليس من المنطقي أن تخصص أوروبا ما يصل إلى 200 مليار يورو بين عاميّ 2015 و2020 للتعامل مع الأزمة على شواطئها – هذا هو المبلغ الذي بصدد أن تنفقه الدول الأعضاء على استقبال اللاجئين وإدماجهم – في حين أنه لو تم إنفاق قسط صغير من هذا المبلغ في الخارج لأبقى على تدفق المهاجرين في إطار حدود قابلة للتعامل معها.
وبنفس القدر، يتوجب على الاتحاد الأوروبي أن يكون أكثر سخاء في مقاربته نحو أفريقيا، لا أن يعرض ببساطة المساعدة المالية مقابل فرض قيود على الهجرة، مثلما اقترحت المفوضية الأوروبية الشهر الماضي. فهذه المقاربة تُمَكّن ببساطة الزعماء الأفارقة من استغلال الهجرة كتهديد ضد أوروبا، تمامًا مثلما فعل «أردوغان». بدلًا من ذلك، من شأن الصفقة الكبرى الفعالة أن تركز على التنمية الحقيقية في أفريقيا التي ستتطرق على مدى جيل للأسباب الجذرية للأزمة. وهذا يعني تجارة حرة واستثمارات هائلة والتزام باجتثاث الفساد.
لقد دعا بعض الزعماء في أوروبا إلى خطة مارشال لأفريقيا. وهذا يمثل طموحًا مثيرًا للإعجاب، لكن حين يتعلق الأمر بالتفاصيل، فإن أوروبا أبعد ما تكون عن مثل هذه الرؤية. فبعد الحرب العالمية الثانية، استثمرت الولايات المتحدة 1.4 بالمائة من إجمالي ناتجها المحلي للمساعدة في إعادة بناء أوروبا – وذلك كل سنة على مدار أربع سنوات. ومن شأن الاستثمارات التي ستكون على مستوى خطة مارشال الأصلية أن تتطلب حوالي 270 مليار يورو سنويًا على مدار السنوات الأربع القادمة.
إن إتباع هذه الركائز الست ضروري ولازم من أجل تهدئة مخاوف الشعب وتقليل التدفقات الفوضوية لطالبي اللجوء وضمان الإدماج الكامل للوافدين الجدد وإقامة علاقات مفيدة للطرفين مع بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وتلبية الالتزامات الإنسانية الدولية لأوروبا.
يمثل كل هذا سببًا كافيًا للقيام بالاستثمارات المحددة أعلاه. لكن يوجد سبب آخر شديد الأهمية وراء حاجة أوروبا للقيام بإجراء ما: فمع شيخوخة سكانها، لا تستطيع ببساطة أن تتحمل كلفة خلق بيئة يكون فيها اللاجئون غير مرغوبين. إن المنافع التي تجلبها الهجرة تفوق بصورة كبيرة تكلفة إدماج المهاجرين. فالسكان المختلفون يجلبون مهارات مختلفة، لكن المنافع تتأتى بنفس القدر من الابتكارات التي يدخلونها مثلما تتأتى من مهاراتهم المحددة. توجد الكثير من الأدلة القولية على ذلك، بدءًا من مساهمة «هوغونوت» (Huguenot) في الثورة الصناعية الأولى عن طريق إدخال النسيج والصرافة إلى إنجلترا. وأنا منبهر على نحو خاص بالأدلة الموثقة التي تبين الفوائد التي جلبها عمال الزراعة الألبانيون الذين عادوا من اليونان في عام 2011، وذلك في غضون فترة زمنية قصيرة مقدارها أربع سنوات. كان من الممكن أن يتوقع المرء أن تؤدي هذه الهجرة الضخمة العائدة إلى خفض الأجور الزراعية، لكن بدلًا من ذلك، أدخل العائدون طرق الزارعة الأكثر تقدمًا التي تعلموها في اليونان واستثمروا المال الذي كانوا قد ادخروه؛ وقد مكنهم هذا من شراء الماكينات لمزارع الأسر، ما أدى إلى زيادة الأجور في واقع الأمر. وهذا يدل على أن المهاجرين لديهم إمكانية كبيرة في الإسهام في الابتكار والتنمية إذا اتيحت لهم الفرصة لفعل ذلك.
خاتمة
لا تمثل أزمة اللاجئين الأزمة الوحيدة التي يتوجب على أوروبا مواجهتها، لكنها الأكثر إلحاحًا. سيستلزم الأمر منا الذهاب بعيدًا لدراسة كل هذه الأزمات، لكن إذا أمكن إحراز تقدم كبير في قضية اللاجئين، فهذا سيجعل القضايا الأخرى أسهل في التعامل معها. ثمة حاجة لوضع عناصر القضايا في موضعها الصحيح، وتظل فرص النجاح ضئيلة. لكن طالما أنه توجد استراتجية قد تنجح، فإنه ينبغي على كل الأشخاص الذين يريدون للاتحاد الأوروبي أن ينجو أن يلتفوا حولها.
تنشر بالتزامن مع مجلة فورين بولسي
جورج سوروس
القدس العربي