استمرارنا الضروري في الثورة وعدمية استمرارها/ عهد زرزور
في استحالة الاستمرارية الأولية:
يعلم شباب الثورة السورية في نقاشاتهم المغلقة أن الثورة لم تعد كما بدأت، كل شيء بدا مثالياً في الشهور الأولى وتهيأنا له مثاليتنا الثورية، انبهرنا وأبهرنا، هكذا حتى اصطدمنا بأنظمة كبرى ليس من مصلحتها أن يسقط نظام الأسد – الذي قامت الثورة لتحقيق شرط إسقاطه بطبيعة الحال، وبعد ست سنوات نُرغم أنفسنا بالاقتناع أن «الثورة مستمرة» في كليشيهات صلبة تعبر عن المقاومة والرفض الراديكالي للواقع المعاش من قبل العقل الثوري الذي لا يتنازل عن قضيته والذي ببنيته يتبنى كسر الواقع، باتت عملية التكسير والتحطيم عامة وشاملة من مبدأ أن الثورة فعل هدم وليست فعل بناء، وبدأ تأخير العمل على أي استراتيجيات تفكير بحجة أن الوقت مبكر لمناقشة المطالب العامة للحرية، في وقت الحرب صوت المعارك أعلى من كل شيء، لكن بالمقابل بدأت تتشكل جيوب فكرية متقلصة على ذاتها بين الإسلاميين والعلمانيين والتيارين الأخيرين مع أنفسهم، لم يجر تناولها ضمن حوار ثوري شامل لتكون عتبة أساسية للنضوج السياسي والفكري بالثورة. على استمرار هذا الحال تغيرت معالم الثورة وتخللها مراحل انتقالية عديدة، وما حدث في 2011 مستمر سيستمر طويلاً ويغير العالم إلى المجهول.
معنى الثورة العام كحركة تاريخ شعبية:
إن كان أحد التعاريف الإجرائية للثورة بأنها انتفاضة شعبية واسعة هزّت قواعد البنية الاجتماعية للبلاد لإزالة نظام حكم دكتاتوري، فإن الثورة السورية خرجت من المستحيل لتكون ثورة كاملة، تمر الثورة منذ زمن بأيام متعِبة، فقدانها رويداً للروافع التي تحملها سواء الشعبية منها أوالرمزية أوالسياسية أوالعسكرية أوالاقتصادية وعدم وفاء أصدقائها المدعوين لها، أنهك وقوفها وحيدة.
كان التقلص الكبير في أعداد المحتجين له أسبابه الكثيرة أولها استحالة استمرار التظاهر تحت القصف الشديد الذي دمر الحجر ومحا أحياء وقرى بأكملها، حتى وصل الحال في عام 2013 إلى عمليات إخلاء ذاتية للمنازل الواقعة في محيط ساحات التظاهر، هنا بدأت تتشكل ملامح الفرار من ثقل الموت ورغبة الناس بالانفصال عن التحريك الأساسي للثورة وظهرت فجوة ما بين النشطاء المنظمين عن القواعد الشعبية الحاملة للثورة، أدى هذا إلى نخبوية الصورة المرسلة إلى الإعلام، عدا عن تحوّل الصراع الشعبي في المناطق المحررة كالغوطة وبلدات إدلب من مواجهة نظام سياسي لم يسقط بعد إلى اصطدام مع كتائب إسلامية تحاول احتكار حكم المنطقة باسم القضاء والحسبة وفرض معطيات سياسية بهالة دينية وانشغال سجونها بالرافضين لوجودها.
تحت هذا المعنى ومعاني تطول بخصوص العمل المدني والعسكري والسياسي تجمّدت الثورة في عروق البلاد، وبقي شرط استمرار الشعب المتعب والمهجّر بالمضي فيما أخذوه على عاتقهم من انعتاق هو شرط أساسي لاستمرارها.
استمرارنا الضروري وعدمية استمرارها:
صيغة الثورة عبارة عن مسمى مختلف باختلاف محالها التي تنسب اليه فهناك ثورتنا الشعبية، وثورتنا السياسية، وثورتنا الاجتماعية، وثوراتنا الفردية الخاصة العديدة.
دخلت الانتفاضة كل ذات وغيّرت حتى في نسق تفكير من حملها ومن يعاديها ويستهزئ بها، قبل عام 2011 لم يكن حال أي أحد منا كما هو عليه الآن، كلنا كسوريين أصبحنا مستمرين بسياقاتنا الخاصة بعد توقف رهيب لعقود وبطء شديد بتطور التجربة مع الوطن والتفاعل الشخصي مع الهوية، الثورة بحدوثها المتفجر جعلت كل شيء يستمر معها، الجمال والقبح والقسوة والجنون والفوضى والموت وما بعد الموت وأسئلة الجدوى من كل هذا.
المعارضون والمؤيدون كتعريف سياسي، الثوار والصامتون والقتلة كتعريف انساني، الجميع مستمر بتطوير وعيه وتصرّفه.
لكن في لفظنا الصعب «الثورة مستمرة» ما الذي نعنيه بالضبط بهذه الاستمرارية؟ هل هي استمرارية مطالبنا؟ أم استمرارية حقدنا وذاكرتنا؟ هل هي استمرارية محاولاتنا؟ أم استمرارية إطلاق ثوراتنا الذاتية؟ أم استمرارية استحالة عودة ما كان كما كان؟
إن كانت استمرارية مطالبنا، فما هي هذه المطالب؟ وقف إطلاق النار أم إطلاق سراح المعتقلين؟ اسقاط النظام أم وجوده على طاولة المفاوضات كجزء اساسي من الحل بضمان أقل الخسائر؟
من سيستجيب لكل هذه المطالب الحالمة؟ وإن كنا لا نهتم لاستجابة العالم والدول، هل نترك كل ما سبق ونعلن التوقّف؟
الرجوع بات مستحيلاً والثورة تعرقلت بشكل يكفي لليأس، لكن جدلية الاستمرارية والجمودية مرهونة بأشخاص تبنّوا بشكل ما استمرار الخطاب الذي يفرض وجودها، تحويل الثورة إلى مهرجان خطابي يفرض وجوده سياسياً ثقافياً وفنياً، واستحضار لست سنوات مليئة بالشهادات والحكايا والقصص والمعارك والشخصيات والتجارب الرهيبة، استحضار اللحظة الآنية التي تسقط فيها الصواريخ على رؤوس الأحياء والأموات.
استمرارية الألم كمخلص وفخ:
في كل عام كان يؤرقني التحول إلى حالة النوستولجيا والانصات لسيمفونية الذكرى، في الأعوام السابقة كان يحضر ربيع آذار في «احتفالية الثورة» واليوم نسميها «ذكرى الثورة»، الذكرى التي نناضل أن تبقى حية.
الثورة انفجرت بملحميتها استمرت بتراجيديتها مع سلسلة من الاستمراريات، يأس المعتقلين داخل السجون وربما اشتياقهم للموت، تقارير الشهداء تحت التعذيب مستمرة، وتسريبات صورهم المتغيرة المخيفة المقتولة، ثأر الشهيد الذي لم يهدأ وفيضان القلب دموع، براميل الموت وتهجير المدن وتغيير الخريطة وسرقة التراب، إعدام الأطفال تحت الركام وبرودة كل شتاء، سنوات الأطفال الضائعة في الخيمة، دلف الخيمة تحت الماء، سنوات الطاغية تكبر، عائلته أمواله أبناؤه واقتناع العالم به، وذاكرتنا بكل هذا مستمرة، الشيء الوحيد الذي أضحّي بعمري لينقطع هو هذا الاستمرار القاسي.
تبقى استمرارية أحبها، هي تذكر ما كان جميلاً قبل تراكم الألم، دهشة الصرخة، قُدس العلَم على النعش وأشياء صغيرة تعنيني، أسماء لا يمكن الانصراف عنها، وشرف كلمة الحق بين أكوام الصامتين والقتلة.
القدس العربي