الدراما الدعوية عبث مُمسرح بالتاريخ/ محمد العباس
التاريخ جملة من الوقائع المقروءة، وهو لا يفصح عن نفسه أصلاً إلا في صيغة سردية، سواء بشكل واقعي أو متخيل، فالسرد فعل فلسفي يقود إلى الاجتماعي، ويتواشج بكل ما هو زماني. أما السرد بشكله القصصي فيمتلك الكفاءة الأدائية للتشبه بالحدث التاريخي. وهذا هو ما يجعل الدعاة من كل الطوائف والأديان، الذين تزدحم بهم الفضائيات يؤدون دور الحكائين. فهم فقهاء في الأصل، وغايتهم تصعيد دورهم الفقهي، من أجل الاستحواذ على الجمهور وتأسيس سلطة في نهاية المطاف، من خلال لعب دور المؤرخين، حيث يشكل السرد مادتهم التوجيهية، إلا أنهم لا يسردون مروياتهم بالصورة الإخبارية المنبسطة، بل عبر ضرب من الفنون الأدائية المسرحية، أو ما بات يُصطلح عليه بالدراما الدعوية التي تعتمد على بناء العوالم الداخلية للمروية المراد توطينها في الوجدان الجمعي، وتشييد إطارها التجريدي ومخيالها الحسّي قبالة الجمهور.
هذا الخطاب التواصلي الدرامي ليس جديداً فهو جزء من أي دعوة أيديولوجية. ولا توجد جماعة أو دعوة بدون نصوص وسرديات ذات طابع تلقيني، حيث تظهر في البداية على شكل دراما تعليمية سرعان ما تتبدل لتتحول في ما بعد إلى دراما دعوية. وهذا هو ما يفسر ازدحام كُتب التاريخ بحكايات غير قابلة للتصديق، يُراد منها التبليغ الديني، ولو على حساب الحقيقة. كما يفصح ذلك عن وجود ركام من الاختلاقات والتصعيدات السردية في الأدبيات الدينية، التي تضخمت بدورها في لحظة انفجار الميديا، حيث تحولت الدروس الفقهية إلى لوحات ممسرحة وحبكات درامية لتمتين الوعظ الإرشادي، بحيث صار الدعاة في مأزق البحث عن نصوص تصلح لتأجيج الصراعات وشد عصب الجماعة، كما تستجيب للتقنيات المسرحية، بحيث تتحول تلك المقاطع الكلامية، بعد شيء من الإضافة والتركيب إلى نصوص مسرحية ساطية على الوعي الجمعي.
ومن منطلق التأثير على الجمهور يحقن الدعاة سردياتهم بالتهويل وتركيب المشاهد واختلاق القصص والمبالغات التي تصل إلى درجة الكذب المكشوف. لضرورات الاتقان القصصي المشرعن، الذي يجعل من الكذبة المتقنة أكثر تأثيراً وفاعلية من الحقيقة الضعيفة، من خلال أداء مسرحي له مواصفات المونودراما، حيث يؤدي الداعية عرضه بمفرده، وبمقتضى نصٍ يؤلفه بنفسه. وهي نصوص تتراوح ما بين الكوميديا والتراجيديا، يضطر بموجبها الداعية أحياناً للتباكي وتارة للتفكّه، لتقريع المتلقي وإرعابه من ناحية، ومن جهة أخرى لإيهامه بذوبان الفوارق ما بينه وبين الداعية عبر حيلة شخصنة الخطاب وإشعار المتلقي بأنه معني بشكل شخصي بالحكاية الملفقة. وأن الوعي والمشاعر والأمان والسلم النفسي والاجتماعي لن يتأتى له إلا إذا أسلم حواسه كاملة للداعية، بما في ذلك تلك الحيل التي يلجأ إليها بعض الوعاظ بدعوى تجديد الخطاب الديني، وإجراء حركات تنقيحية في الموروث.
سحرانية خطاب الداعية تكمن في قدرته على تحبيك الوجود التاريخي والثقافي للفرد والجماعة، أي في مهارته في الاستيلاء على المحل الاجتماعي من خلال شل قدرات الفرد على التفكير خارج إطار المروية المؤداة بشكل درامي. وبموجب الاستيلاء على الموروث الديني وإعادة إنتاجه في لوحات درامية تكتسب قدسيتها من قدسية النص الأول، بحيث يكون التاريخ والموروث الديني فضائين مفتوحين لسرديته الشخصية المنسوجة بلغة فائضة بالتوتر الدرامي. وهو أداء يتقاطع بحدة مع فكرة الدفاع عن الهوية والتمترس في خط الدفاع الأخير عن العقيدة المهددة بالضمور والمحاصرة بالأعداء، وبالتالي يلجأ إلى اختلاق الأعداء داخل مرويته والتفنن في الاحتكاك بهم والتنكيل بهم عبر محاججات واهية، ومن دون استدعاء أي ملمح للعقل البرهاني، فهو يقترح المعارف والسلوك القويم المستمد من منظومة العقائد والطقوس التي يطمح إلى توطينها في أذهان الجمهور.
هذا التنافس على مسرحة المنبر وتحويله إلى منصة للدراما الدعوية هو الذي أدى إلى تكاثّر الدعويين المتجرئين لا على التاريخ وحسب، بل على الفقه والشريعة. لدرجة أن المقاطع المصورة صارت تتداول بكثافة كمشاهد مسرحية موجبة للضحك والسخرية، أو لتعميق النزعة الإيمانية. فهي مبنية على سلطة التخريف، التي لا تتوقف عند حد الأداء الإعجازي للبشر، بل قد يضطر الداعية إلى استجلاب الجن إلى سياق مشهده الدرامي، إما لصد مروية الطوائف الأخرى، أو لتهميش ديانات المغايرين، أو لمقاومة طوفان الحداثة ومهبات العولمة.
وهذا يستلزم استثمار الوقائع المعيشة، وتحفيز مواطن الخوف، وادعاء القدرة على ترميم السحنة الاجتماعية المهددة بالتفتّت، ووقاية الذات المؤمنة من السقوط والاستلاب، وتحويل كل المفاهيم الرمزية والشكلية إلى ملموسات مادية داخل تجربة الزمن. وكل ذلك يتم عبر التطبيق الميزانسيني للنص الهاجع في الكتب التراثية، بالمعنى المسرحي، حيث تتحول الكلمات والعبارات والمأثورات إلى أفعال مجسدة ومحسوسة على المنبر الذي يعادل خشبة المسرح.
وهكذا تحولت الدراما الدعوية إلى ضرب من الخدع الرومانسية المحتشدة بالبطولات والكرامات والرموز المؤهلة لاختراق الزمان والمكان. فهي تعتمد على قلب الحركة التاريخية، بحيث يكون الماضي هو الفاعل وليس الحاضر، بمقتضى استدعاءات معدّة في مختبر أيديولوجي يناقض الوقائع. ومن دون أي مرجعية يمكن الاستناد إليها، لأن مصدرها هو الداعية الذي يكتسب صدقيته وقدسيته من طهورية النبع الذي يغترف منه. وهذا هو ما يفسر الطابع الحجاجي للدراما الدعوية، واحتقانها بالعنف المتمثل في تهميش وإقصاء ونفي خطاب الآخر، إذ لا يمكن للدراما الدعوية أن تكتمل أركانها السردية إلا باستحضار قيم الشر مقابل قيم الخير، التي يحارب بها الداعية خصومه على المنبر الممسرح بنبرة رسولية جازمة. وهو أداء لا يحتاج إلى المعرفة الكفيلة بتأليف نص المروية المختلقة وحسب، بل يتطلب مهارات أدائية عالية عند الدعوي يستخدم فيها صوته ولغة جسده وتعبيرات وجهه.
الدراما الدعوية اليوم وإن كانت تنتمي ظاهرياً إلى مرويات جمعية ذات جذور عقائدية ضاربة في العمق الاجتماعي، إلا أنها تحفظ للداعية ما يُعرف بالمسافة الاجتماعية، كل حسب قدرته التمثيلية وطاقته الأدائية التي تكفل له نجوميته، فهي أداءات تشبه إلى حد كبير ما يحدث في الروايات الحديثة التي تنهض على الفردانيات المفتوحة وترفض الانسياق وراء العموميات المنغلقة، بمعنى أن لكل داعية صوته الفردي، وقدراته الخاصة على دسّ ذاته في التاريخ وإعادة إنتاج المرويات الموّطنة في أذهان الجمهور بمقتضى محكي الذات، أي سرد (المابين) بحيث تنعدم المسافة الفاصلة بين ذات الداعية وموضوعه، بالنظر إلى ما يمتلكه من مخيال مرن يمكنّه من الغوص في الموروث ودفعه إلى واجهة الوقائع اليومية كحقيقة غير قابلة للنقاش. إلى جانب كفاءته الاستثنائية في ضخ الأدلة في الوثيقة التاريخية الثقافية للجماعة التي تمتلك في الأصل تصوراً عقائدياً أسطورياً عن نفسها. ومهمته هنا تغذية تلك الأوهام وابتناء وحدة ثقافية تضامنية للجماعة.
الذات الاعتقادية تقيم في قاع الغرائز وهي متورمة بفائض من الأوهام، كما تتسلح بكافة الأشكال السردية التي تنتجها تلك الخدع الهاجعة في الوجدان، إلى أن يلامسها الداعية ويحفزها باختلاقات متجددة هي عماد السرد عموماً، إذ لا تتوقف أي مروية عن الاختلاق المســـتمر، ولذلك تبدو الدراما الدعوية مستجيبة وقادرة على التمدد داخل لحظة الميديا، التي تسمح بالمحاججة والاستعراض، وتمجيد الأنا والحط من قدر الآخر، من خلال تأليف تاريخ اصطفائي مؤسس على الحكي الخرافي الساذج، وابتكار أكبر قدر ممكن من الصور المرجعية المنمطة عن الآخر، حيث تؤدي كل تلك الأداءات الدرامية الدعوية إلى استيلاد هوية مرضية، تحكم على الذات بالسجن في هوية منغلقة لا تحقق الوجود التاريخي للجماعة بقدر ما تحبسها في قدسية زائفة وتغلفها بطهورية هشة.
٭ كاتب سعودي
القدس العربي