صفحات الثقافة

الديكتاتور… والهولوكوست اللغوي/ فيصل نويران

 

 

طغيان الحالة الشعاراتية والتوظيف الفاسد لجملة من المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية والوطنية في مضامين الخطب العصماء للمستأسدين الأب والابن، كرست ملامح لغة جديدة ونهج مبطن قائم على فكرة الابتزاز، التي تحولت إلى سياسة ثابتة حكمت السوريين على مدى العقود الخمسة الماضية.

سعى المستأسدان إلى إعادة صياغة المفاهيم، التي تشكل في معناها الحقيقي تهديدا لوجودهما والعمل على قولبتها في أطر جامدة، للاستفادة منها في تسويق أجندة التسلط، وتناولها في سياق رومانسي ذي نزعة شعاراتية، اكسبتها صفة الثبات، مع تغييب متعمد لاختراع «المرادفات»، بهدف تأكيد رؤية القائد الفيلسوف والمفكر، وربطها بالوعي الجمعي بطريقة قدسية، لتكريس «ثقافة التبعية المطلقة»، وبالتالي فإن الخروج على تلك الصيغ يعد حالة من الكفر البائن، فالوطن مزرعة، والوطنية كناية عن غياب العقل، والولاء مصدره الأساسي التبعية وتعزيز غريزة القطيع، الخير ما يقوله ويرتضيه القائد الملهم، والشر ما يقلق حكمه ومزاجه، الاحترام أحد مفرزات الخوف بدون أي قيمة أخلاقية. فقد ارتبطت تلك المفاهيم «التهم الجاهزة» في مزرعة فخامته بجمل جاهزة، ومجرد تناولها خارج السياق المعهود تتشكل أرضية قانونية تمنحك وسام الخيانة مع مرتبة الشرف، والسعي لوهن نفسية الأمة، وبالمقابل يتوج القائد الهمام وحوشه ومرتزقته بالأوسمة الوطنية، ليكونوا هم جند الوطن الحقيقيين، وحماة الديار، وأبطالا، وشرفاء….. إلى آخره، فلغتنا التي شكلت مصدر فخر لنا لما تتمتع به من فخامة ورقي وحس إنساني عال، تحولت إلى مصدر لإنتاج التهم بكافة أشكالها وفق مراجع وقواميس «أسد» حامي اللغة العربية والأمين على إرثها، فمن حق الديكتاتور أن يتغني بالحرية والديمقراطية إعلاميا وجماهيريا، ويتحدث عن قداسة الوطن ونبل الوطنية، ولكن أخي السوري! لا تذهب بمخيلتك بعيداً، فالمعنى في قلب بشار أسد ابن أبيه، ولا تتعب نفسك بنعمة التأويل، فالعلاّمة ابن أبيه سبقك وأنشأ مداجن خاصة لإنتاج أجود أنواع المصطلحات الوطنية الفاخرة، التي تتلائم ومختلف المناسبات، سياسية، اجتماعية وثقافية … وبالتأكيد مرفقة بدليل المستهلك يوضح كيفية استخدامها. فحين نتحدث عن الحرية بتجرد فإننا نتحدث عن لغة أخرى اتقناها بالفطرة ولكن الحرية من وجهة نظر المستأسدين أن تفتديهما بالدم والروح، والديمقراطية اعتراضية لا محل لها من الإعراب يمكن التعبير عنها سلوكيا «تصفيقا أو هتافا»، وفق ما ورد في كتيب التعليمات المرفق للمنتج.

رحم الله الراحل الماغوط الذي تبنى مفهوم الخيانة على الوطنية الأسدية متمردا على اللغة، رغم إدراكه الضمني أن هناك فارقاً شاسعاً بين سوريا كوطن وبين سوريا الأسد كمختبر لإنتاج المفاهيم الفاسدة أو المقلدة، حين قال: ومع احترامنا لكل حرف في لغتنا، ومع تقديرنا لجميع ظروف الزمان والمكان في كل جملة ومرحلة في الوطن العربي لا بد أن نسأل: ما الفائدة من الاسم إذا كان صحيحا… والوطن نفسه معتلاً؟

فالنتيجة الطبيعية لهذه الكوميديا السوداء سقوط اللغة كأداة تخاطب ثوري أو فكري في مكب التعاطي القذر، الذي أسس له الديكتاتور في المشهد العام للواقع السوري، وتراجع دور النخب المثقفة لعدم قدرتهم على إيجاد صيغ جديدة تمكنهم من ربط خطابهم الكلاسيكي وحتى المبتكر الذي يعبر عن روءاهم بحركة الواقع، إذ لم يبق أمامهم إلا التقوقع على الذات والاستمتاع بسطوة الأنا، فاليساري ازداد يسارا واليميني كذلك، أما دعاة اللاأدلجة فقرروا الدوران على أنفسهم طلبا لمتعة الإغماء والغياب. وأصبح الفعل ورد الفعل، أيا كان شكله وطبيعته أداة التخاطب الوحيدة.

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى