الغالب والمغلوب في الحرب السورية: تركيا/ جلبير الأشقر
في إطار تفحّصنا العام لمحصّلة حرب سوريا في بداية سنة 2017، وقد بدأناه بتقدير وضع اللاعبيْن الدولييْن الرئيسييْن: أمريكا وروسيا، نواصل في هذا المقال تناولنا للاعبيْن الإقليمييْن الرئيسييْن في الساحة السورية، ناظرين في أمر تركيا، بعد إيران.
أياً كانت الآراء حول محصّلة حرب سوريا بالنسبة لتركيا، ثمة أمرٌ أكيد هو أن رجب طيب أردوغان هو الطرف السياسي الأكثر تقلّباً في تلك المأساة. ويفيد هنا أن نلقي نظرة سريعة على مساره السياسي. فأردوغان، كما هو معروف، اشتهر أولاً عندما كان عضواً في حزب الرفاه، المرادف التركي للإخوان المسلمين والذي قاده نجم الدين أربكان. وقد كان أول بروز هام لأردوغان على الساحة السياسية انتخابه سنة 1994 عمدةً لمدينة إسطنبول.
وبعد حلّ السلطات التركية لحزب الرفاه سنة 1998 ومن ثم حلّها بعد ثلاث سنوات لحزب الفضيلة الذي كان إعادة تشكيل للسابق تحت اسم آخر، تمرّد أردوغان وأصدقاؤه على أربكان وأسّسوا حزب العدالة والتنمية في عام 2001. وقد مثّلوا في ذلك الحين مشروعاً سياسياً إسلامياً ليبرالياً شبيهاً بمشاريع المنشقّين الليبراليين عن جماعة الإخوان المسلمين في بلدان شتى.
وقد فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية بانتظام منذ عام 2002. ومنذ تولّيه الحكم، شرع أردوغان، بالتحالف مع فتح الله غولن والحركة التي يتزعّمها، في تفكيك تدريجي للسيطرة العسكرية والكمالية (نسبة لمصطفى كمال «أتاتورك») على السلطة السياسية في تركيا. وقد اتفق الطرفان على إصلاح المؤسسات وعلى السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، لكنّهما اختلفا في الموقف من الحركة القومية الكردية، إذ عارض غولن المهادنة التي اتبعها أردوغان إزاء هذه الأخيرة في مسعاه لتوفير مناخ سياسي مؤاتٍ للاستثمار الرأسمالي في تركيا ولمشروع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه، اختلف أردوغان وغولن في السياسة الإقليمية حيث لم يستسغ الثاني طموحات الأول «العثمانية الجديدة»، بما فيها توتيره للعلاقات مع الدولة الصهيونية بشكل مسرحي بغية كسب عطف العرب خاصة والمسلمين عموماً. وكان أردوغان قد عقد علاقات صداقة مع بشّار الأسد، بل توسّط بينه وبين الحكم الصهيوني ساعياً وراء تحقيق اتفاق سلام بين الطرفين بتشجيع من واشنطن. وعندما بدأ «الربيع العربي»، ظنّ أردوغان أن ساعة تحقيق طموحه بالزعامة الإقليمية قد دقّت، فتحالف في هذا السبيل مع قطر وراهن على الإخوان المسلمين، آملاً بأنهم سوف يتولّون السلطة في معظم البلدان العربية. ولمّا وصلت الموجة الثورية العارمة إلى سوريا، حاول أردوغان إقناع صديقه الأسد بتحقيق إصلاح ديمقراطي في النظام السياسي السوري ومصالحة الإخوان المسلمين.
غير أن رفض آل الأسد لنصائحه جعل أردوغان ينقلب عليهم ويحتضن المعارضة السورية، ساعياً وراء فرض وصايته عليها وجعلها أداةً لمطامعه الإقليمية. ولم يستسغ قط حليفه غولن تورّط تركيا في النزاع السوري. وقد تصاعد الخلاف بين الزعيمين التركيين في السياستين الداخلية والخارجية حتى انفجر سنة 2013، بينما كان طموح أردوغان إلى احتكار السلطات بين يديه يتصاعد بشكل ملحوظ. في تلك السنة ذاتها، وكي ينصرف إلى المواجهة مع حركة غولن، سرّع أردوغان المسار السلمي مع الحركة القومية الكردية كما عاود التصالح مع الكماليين في المؤسسة العسكرية.
غير أن إعلان الحركة القومية الكردية في سوريا لـ«فدرالية شمال سوريا» في مطلع عام 2014 وتصاعد نفوذها العسكري من ثم، على الأخص مع بدء الولايات المتحدة في دعمها منذ معركة كوباني/ عين العرب ضد داعش في خريف السنة ذاتها، أمورٌ أغاظت أردوغان وأصدقاءه الجدد في المؤسسة العسكرية التركية. وقد انضاف إلى ذلك أن فتْحه لأبواب العمل السياسي الشرعي أمام الحركة الكردية كاد يحبط طموحه إلى السلطة الفردية في عام 2015، عندما حاز التحالف السياسي الذي أسّسته الحركة على عدد من المقاعد البرلمانية حرمَ حزب الحرية والعدالة من الأغلبية التي يحتاج إليها كي يغيّر دستور البلاد.
كان ذلك في حزيران/يونيو وكان ردّ فعل أردوغان أن أنهى المسار السلمي وأعاد تفجير الحرب مع الحركة الكردية التركية في الشهر التالي، خالقاً هكذا مناخاً سياسياً أتاح له استرجاع الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي جرت إعادتها في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 إثر حلّ البرلمان المنتخب قبل أشهر قليلة. هذا وقد امتعض أردوغان من تدخّل روسيا العسكري المباشر في حرب سوريا بدءًا من خريف 2015 الذي أضعف المعارضة السورية المرتبطة بتركيا ويسّرَ بالتالي امتداد سيطرة الحركة الكردية إلى مساحات جديدة في المناطق السورية المتاخمة لتركيا. في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، في إطار توتّر العلاقات بين الدولتين، أسقطت تركيا طائرة حربية روسية بما أدّى إلى قطيعة بين أنقرة وموسكو.
هكذا وجد أردوغان نفسه في وضع سياسي حرج لا شكّ أنه دخل في حسبان العسكريين الذي حاولوا الإطاحة به في تموز/يوليو 2016. وقد تمكّن من إفشال المحاولة الانقلابية، بل انتهز فرصتها كي يقوم بـ«تطهير» واسع النطاق لمؤسسات الدولة التركية من كل من اشتبه في أمر ارتباطه بأحد خصمي أردوغان الرئيسيين: حركة غولن، التي اتهمها بتدبير الانقلاب الفاشل، والحركة الكردية.
وقد اضاف مذّاك إلى الخطاب الإسلامي خطاباً تركياً شوفينياً قاده إلى التحالف مع أقصى اليمين التركي القومي المتعصّب (حزب الحركة القومية) في وجه إجماع كافة التيارات السياسية الأخرى على معارضته بحدّة.
أما خطوة أردوغان التالية فجاءت كردّ فعل على رفض الولايات المتحدة معاونته ضد خصميه اللدودين، سواء بوقف تأييدها للقوات الكردية في سوريا أو بتسليمها إيّاه فتح الله غولن. فما كان منه إلّا أن انقلب على واشنطن وأذلّ نفسه في حزيران/يونيو 2016، بعد أشهر من التبجّح والغطرسة، بتقديم الاعتذار لبوتين عن إسقاط الطائرة الروسية. كان ذلك مدخلاً إلى عقده صفقة مع روسيا، قَبِل بموجبها بمبدأ إبقاء بشّار الأسد في سدّة الحكم «لمرحلة انتقالية» وبعدم اعتراض هجمة الحلف الثلاثي السوري الإيراني الروسي على شرقي حلب، لقاء ضوء أخضر روسي لإدخال قوات تركية إلى الأراضي السورية بغية قطع الطريق أمام امتداد سيطرة الحركة الكردية السورية والتمهيد لمحاولة دحرها عندما تسنح الظروف. وإثر سقوط شرقي حلب، أعلنت روسيا عن عملية سياسية جديدة تحت رعايتها وبمشاركة تركيا وإيران، بحيث توطّد تواطؤ أردوغان مع بوتين على حساب حلفاء الأمس، سواء أكانوا في واشنطن أم في المعارضة السورية.
وفي نهاية هذا المطاف بالغ الاعوجاج، فإن أردوغان، الذي كان قد راهن على الإخوان المسلمين في مطامعه الإقليمية «العثمانية»، يجد نفسه في تحالف دونيّ مع بوتين الذي بات رأس حربة التصدّي للإخوان المسلمين في المنطقة بانتقاله من دعم آل الأسد إلى تأييد عبد الفتّاح السيسي والتعاون معه في دعم خليفة حفتر في ليبيا.
ولم يبقَ أمام أردوغان سوى، من جهة، الأمل بالتمكّن من تعميم التجربة التونسية بتحقيق حلول توافقية بين الأنظمة القديمة ومنافسيها الإسلاميين كي تبقى له يدٌ في مستقبل المنطقة العربية. ومن الجهة الأخرى، التعويل على أن يبارك الرئيس الأمريكي الجديد نهجه المستجدّ نظراً للمجازفة القصوى التي شكّلها انقلابه على واشنطن بالرغم من إرتهان تركيا، وجيشها على الأخص، بالدعم الأمريكي.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي