المعارضة السورية لا يجب أن تبقى على ما هي عليه/ د. بشير موسى نافع
ثمة تغيير ملحوظ، وإن لم يكن كبيراً، في موقف الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات من المسألة السورية. كان بدا واضحاً، خلال العام الماضي، أن الدول الغربية، ومعها عدد من الدول العربية، تتجه نحو قبول وجهة النظر الروسية تجاه سوريا، بما في ذلك الموقف من بقاء النظام والتعايش مع استعادته السيطرة، بدعم روسي وإيراني، وبقوة السلاح والتدمير، على معظم سوريا. ما استبطنه ذلك الموقف، بالطبع، التعايش مع تحول سوريا إلى ما يشبه المستعمرة الروسية ـ الإيرانية المشتركة. حتى أولئك الذين ظلوا على موقفهم المعارض لتصاعد مستوى النفوذ الإيراني في سوريا، أصبح أملهم منحصراً في التنافس الروسي ـ الإيراني، وتوجه روسيا في مرحلة ما إلى دحر الإيرانيين من دائرة التأثير في الشأن السوري. خلال الشهر أو الشهرين الماضيين، وقع تغيير ما في هذا الموقف، وبدا كأن ميزان القوى يميل من جديد ضد النظام وحلفائه، وإن لم يكن بعد لصالح المعارضة السورية وقواها المختلفة.
السبب الرئيسي خلف هذا التغيير يتعلق بالسياسة الأمريكية. وكما هو منطق الأِشياء منذ نهاية الحرب الباردة، ما إن يتغير الموقف الأمريكي حتى يتبعه تغيير في موقف أغلب الحلفاء الأوروبيين، وأغلب أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وليس من الصعب رؤية الدوافع التي أدت إلى تغيير المقاربة الأمريكية من سوريا: على المستوى الاستراتيجي، هناك، بالطبع، تبني إدارة ترامب لسياسة مناهضة للتوسع الإيراني في الإقليم، بما في ذلك سوريا؛ وعلى مستوى الأحداث، لا يمكن تجاهل غباء نظام الأسد واستخدامه السلاح الكيماوي، مرة أخرى، ضد شعبه. خلف ذلك كله، كان انتقال إدارة ترامب الحثيث من سياسة التوافق مع روسيا، إلى سياسة مواجهة الروس في كافة مناطق النزاع الروسي ـ الغربي. ولعل تطور تصريحات المسؤولين الأمريكيين من القول بأن إطاحة الأسد ليست أولوية لإدارة ترامب، إلى التوكيد على أن أية تسوية سياسية للأزمة السورية لابد أن تتضمن خروج الأسد من المشهد، المؤشر الأبرز على التغيير في مقاربة الوضع السوري.
هل سيستمر الأمريكيون على هذا الموقف؟ ليس من الممكن الإجابة على هذا السؤال بأي درجة من اليقين. بدأت إدارة أوباما هي الأخرى تعاملها مع الثورة السورية بالدعوة إلى تغيير النظام، ولكنها سرعان ما تراجعت عن هذه السياسة عندما أصبحت الأزمة أكثر تعقيداً، وبدا أن إسقاط النظام يتطلب تدخلاً خارجياً مكافئاً لحجم التدخل الإيراني، ومن ثم الروسي؛ وعندما تراجع التيار الرئيسي للمعارضة لصالح داعش والنصرة. ولكن المهم في هذه اللحظة أن ثمة موقفاً أمريكياً جديداً، وأن هذا الموقف انعكس على مواقف القوى الأوروبية الأكثر اهتماماً بالأزمة السورية، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا وألمانيا، كما على مواقف تركيا والعربية السعودية؛ بل وحتى مصر، على نحو ما، بالرغم من تقاربها السابق مع روسيا وإيران ونظام الأسد.
بيد أن هذا التغيير في الموقفين الدولي والإقليمي لم ينسحب بعد إلى العلاقة مع قوى المعارضة السورية، السياسية والمسلحة، ولا أسس لانقلاب ملموس في ميزان القوى على الأرض، آللهم إلا إن اعتبر القصف الأمريكي للقاعدة الجوية السورية، التي انطلقت منها طائرات القذائف الكيماوية، انقلاباً ما.
بخلاف عملية درع الفرات، التي تعهدها الجيش التركي ونجحت في تحرير جزء من الشريط الحدودي من سيطرة داعش وتحويله إلى منطقة آمنة، ليس هناك أي تحرك ملموس بعد لإقامة المناطق الآمنة التي تحدث الرئيس الأمريكي عنها في أكثر من مناسبة. ولم يزل هدف محاربة داعش، بما في ذلك التحالف الإشكالي مع قوات حماية الشعب، التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، الهدف الرئيس للسياسة الأميركية في سورية. ليس ثمة من جهد ملموس لإعادة الاعتبار الدولي للإئتلاف الوطني السوري، وليس هناك من مؤشرات جدية على دعم إضافي، عسكري أو غير ذلك، للتنظيمات السورية المسلحة، التي يخوض أغلبها مواجهات مزدوجة مع قوات النظام وقوات داعش والنصرة. إن كان ثمة تغيير في الموقف الأورو ـ أمريكي والعربي من نظام الأسد، فإن هذا التغيير لم يترجم إلى دعم ملموس لقوى المعارضة.
يعكس هذا التباين، على الأرجح، عدم تبلور استراتيجية أمريكية بعد للتعامل مع الشأن الدولي، سيما العلاقات مع روسيا والتعامل مع مناطق الأزمات الأكثر إلحاحاً. ولكنه يعكس كذلك وضع المعارضة السورية غير المرضي؛ وخشية الكثير من القوى الغربية والإقليمية لما يمكن أن تصبح عليه سوريا بعد سقوط النظام. داعش والنصرة هما، بالطبع، مشكلة ثقيلة الوطأة، سواء فيما يتعلق برؤية العالم لسوريا والثورة السورية، وما يخص الشعب السوري نفسه، وسعيه لإقامة نظام حر، ديمقراطي، تعددي، وعادل. ولكن المشكلة لا تقتصر على داعش والنصرة. تآكلت شرعية الإئتلاف الوطني، التعبير السياسي الأبرز للمعارضة، من جهة حجم القوى والشخصيات التي يضمها، ومن جهة تمثيله للقطاع الأوسع من الشعب السوري. وفي مقابل انسحابات عدة من الإئتلاف، نجحت التدخلات الروسية والمصرية في إقامة هيئات سياسية منافسة، معارضة أو شبه معارضة. في الوقت نفسه، وبالرغم من العلاقات الوثيقة بينها، إلا أن الإئتلاف والهيئة العليا للتفاوض والوفد المفاوض في الآستانة تعتبر هيئات مستقلة، ليس ثمة إطار واحد يجمعها.
في الساحة العسكرية، يبدو المشهد أكثر مدعاة للقلق. فالجيش الحر، القوة المسلحة الأولى التي واجهت بطش النظام، ليس جيشاً موحداً بالمعنى المفهوم، بل يمثل عدداً من الفصائل الموزعة على الجغرافية السورية، التي لا تربطها مرجعية عسكرية قيادية واحدة. وقد شهدت الساحة السورية ولادة، وتوحد، ومن ثم انقسام، عشرات من الفصائل، التي يبدو بعضها أشبه بالعصابات المسلحة منها إلى القوى الثورية. تعبر بعض هذه الفصائل عن ثقافات إسلامية متشددة، أقرب إلى فكر القاعدة وأخواتها منها إلى إسلام عموم السوريين، وتمارس، في بعض الحالات، قمعاً أيديولوجياً بمناطق سيطرتها لا يبعث على الاطمئنان، ولا يؤهلها لحكم سوريا وشعبها. الأسوأ، أن هذه الفصائل دائمة التنازع على النفوذ والموارد ومساحات السيطرة، حتى إن أدى ذلك إلى مقتل العشرات من منتسبيه ومن المدنيين، على السواء، وإلى التأثير على المواجهة مع قوات النظام والميليشيات الحليفة له. وبالرغم من المحاولات المتكررة، فشلت كافة الجهود في إرساء إطار واحد يجمع ولو حتى الفصائل الرئيسية.
هذا وضع لا يساعد على تقدم قضية الثورة والشعب، وضع لا يجب أن يستمر. هناك حاجة ملحة لإعادة بناء الإطار السياسي للثورة، بحيث يجمع أكبر عدد ممكن من القوى والشخصيات. ومن هذا الإطار، فقط، تنبثق مؤسسات الثورة المختلفة، بما في ذلك هيئات ووفود التفاوض والحكومة المؤقتة.
وإلى هذا الإطار، فقط، تعود مرجعية جناح الثورة المسلح، الذي يبنى على أساس من فكرة الجيش الحر، أو على أساس جديد كلية؛ إلى جانب الأجهزة القضائية وقوات الأمن العاملة في المناطق المحررة. هكذا يساعد السوريون أنفسهم قبل ان يسألوا العالم الوقوف معهم، وهكذا تؤكد قوى الثورة الوفاء لذكرى مئات آلاف الشهداء، الذين دفعوا أغلى الأثمان من أجل حرية سوريا والسوريين.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
لقدس العربي