توحش البُلهاء/ الياس خوري
مشكلتنا اليوم اننا لم نعد قادرين على رسم الحدود بين التوحش والبلاهة. فالمشهد الوحشي الذي يجتاح المشرق العربي يترافق مع مدّ ساحق للبلاهة التي لا حدود لها. والبلاهة كالوحشية تتلون بألف لون. مهمة التوحش هي القتل والإبادة، من براميل الأسد الصغير وسلاحه الكيماوي، إلى سكاكين داعش. وبين البراميل والسكاكين هناك أشكال شتى للتوحش، تبدأ وتنتهي عند اسم واحد هو حروب الأصوليات البربرية التي تشتعل على جسد احتمالات الثورات العربية. أما البلاهة فلها مهمتان: الأولى هي تعميم التوحش، عبر نشره على أوسع نطاق، بحيث يصير مألوفاً ان لم نقل مستساغاً، والثانية هي تبريره عبر الدفاع عن توحش معين في سياق الهجوم على توحش آخر. أي ان البلاهة في هذا السياق هي محاولة للمفاضلة بين اشكال التوحش، واختيار الملائم منها لمزاج الأبله الفكري، أو انتمائه الطائفي، أو أحقاده.
والمحزن ان كل شيء في حياتنا معرض للسقوط في متاهة البلاهة، وسراديب الوحشية.
في المشهد الدموي الذي يحاصرنا، يتمّ تحويل الدم الانساني الذي يسيل إلى ماء. فالأعجوبة التي صنعتها الوحشية هي تحويل الدم ماء يصلح لغسل الأيدي، وقد يصلح ايضا لغسل الضمائر. وهذا ليس خصيصة عربية أو إسلامية مثلما يدعي بعض تلامذة المستشرقين، بل هي جزء من تاريخ الاستعباد. ولعل ذروة تحويل الدم إلى ماء لغسل الأيدي والضمائر تمت في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تم غسل الأيدي من الدم اليهودي بالدم الفلسطيني. أي حين اعتبر الدم الفلسطيني ماء يصلح لغسل الضمير الأوروبي من آثار جريمة المحرقة النازية.
وصلت معادلة الدم والماء إلى ذروتها في المشهد السوري. حيث غسل الطاغية شعارات الثورة بدم الشعب السوري، قبل ان تتأسس معادلة الدم/الماء على مشهد الاستقطاب الوحشي بين أصوليتين واستبدادين. ولم يكن هذا ممكنا لولا نجاح الطاغية في تطبيق معادلة إحراق البلد وتشريد الشعب، التي شكلت التمهيد الضروري لتحويل سورية إلى ساحة الموت على مستوى الاقليم، وفتحت الباب أمام الاستبداديات والأصوليات كي تتقاتل على جثث السوريات والسوريين.
تقوم ثقافة البلهاء بتبرير التوحش تحت شعارات دينية طائفية أو علمانية استبدادية، لكنها تحرص على تبرئة نفسها أولا، ثم تبرئة من تحتمي بهم ثانيا، وصولا إلى تبييض الممول في أحيان كثيرة.
ثقافة تحويل الدم إلى ماء تحتمي بقراءة التاريخ كي تفسر الحاضر، وبذا تبرئ الحاضر، أي تبرئ الاستبداد، وتتابع، من دون أن تدري ربما، تراث الحداثة الاستبدادي الذي قام على افتراض بعث الماضي من رقاده، وكان رمز هذا المقترب هو أسطورة طائر الفينيق الذي حين يهرم يقوم بإحراق نفسه كي يولد من جديد.
هذا الطائر اللعين هو سيد المرحلة، به بدأت كارثة انحدارنا إلى الهاوية. كان هذا الطائر هو رمز النخب الانقلابية، من الفكر القومي السوري إلى الفكر البعثي، وقاد العديد من الشعراء العرب ليس إلى النخبوية المتعالية فقط، بل إلى تقديم تصور شامل لمعنى الاستبداد الذي لم ينجح في صوغه سوى الانقلابيين.
جاء الضباط ليكتبوا بالدم بدل الحبر، لكنهم كتبوا الحكاية نفسها التي بدأت بالزعيم المخلص المنتظر وانتهت بالديكتاتور المتوحش. وكان الضباط يعتقدون فعلا انهم يبعثون الماضي، حافظ الأسد كان يضع في مكتبه صورة صلاح الدين، وصدّام حسين اطلق على حربه ضد إيران اسم «قادسية صدام». وجد المستبد في العديد من الكتبة حبره، قبل أن يضطر إلى كتابة الروايات بنفسه، كما فعل صدام، أو القصص القصيرة والفلسفة كما فعل معمرالقذافي.
زمن الانبعاث «القومي»، أدخلنا عبر فشله ومهانته العسكرية أمام إسرائيل في منطق لا يوصل إلا إلى بعث صورة ما عن الإسلام. هنا يقع التقاطع بين الانبعاثين، الذي يجسده التحاق عدد كبير من ضباط الجيش العراقي الصدّامي بركاب أبي بكر البغدادي. ولجوء الاستبداد الأسدي إلى «حزب الله» والميليشيات الشيعية وإيران للدفاع عن نفسه. أي نحن لسنا مثلما يظن البعض أسرى القرن الأول للهجرة والصراعات التي تلت بيعة السقيفة، بل نحن أمام استكمال منطقي لدورة الحداثة الانقلابية التي تحمي استبدادها بخطاب استبدادي جديد.
المسألة اذن تتعلق بقراءة الحاضر وليس باسقاطه في الماضي، السقوط في الماضي هو حجاب وهمي كي يمنع قراءة الهمجية بصفتها ظاهرة حديثة ومرتبطة بأيديولوجية قومية ـ دينية فاشية قامت على فكرة بعث الماضي واستبدادية النخب.
المستبد في الحالين ليس الرعاع بل النخب الجديدة. وهذا ينطبق على نظام الأسد، كما ينطبق على نظام «داعش» و»النصرة» و»علوش». لا تخطئوا القراءة، نحن لسنا أمام وحش ماضوي، بل نحن أمام وحش يستخدم الماضي والموروث، كي يسوّغ الاستبداد والفاشية، في الحاضر بصفتهما منتجا راهنا.
لعبها ميشال عفلق في الماضي حين وقف في ذكرى الرسول العربي يبشرنا بعبقرية الأمة من خلال عبقرية الرسول، لينتهي به المطاف أخرس في حديقة صدام الخلفية، قبل أن يشهر إسلامه، كما قيل. ولعبها أنطون سعادة حين بشر بدين واحد هو «الإسلام برسالتيه»، وانتهى به المطاف قائدا لانقلاب فاشل. والآن يتعلم بشار الأسد أن يلعبها كما يلعبها البغدادي والجولاني، اي أن يرسم الحلبة في ماض متخيل يسقطه على الحاضر.
والطريف المدهش أن بعض بلهاء الثقافة صدقوا اللعبة، كي يبرروا الصمت والتواطؤ، جاعلين من الكلام صابونا لا يحمل سوى رغوة تتلاشى.
القدس العربي