صفحات الثقافة

جاذبية التهميش/ أمير تاج السر

 

 

منذ فترة سألني أحد القراء، من المعتادين على سؤالي من حين لآخر، عن أشياء كثيرة تخص الكتابة والقراءة، وكان يكتب القصة القصيرة، وسألني عن رأيي في الكاتبة الكندية المخضرمة أليس مونرو، التي حصلت على نوبل للأدب منذ عامين، ولم أستطع إجابته، ذلك ببساطة أنني لم أكن قرأت شيئا لأليس مونرو، ولا فكرت في قراءة شيء، ولم أكن أقصد عدم قراءتها هي بالتحديد، لكني ابتعدت عن قراءة القصة القصيرة منذ زمن، بسبب ما نالها من تنكيل في السنوات الماضية، بحيث أصبحت القصة القصيرة، تبدأ مثلا بشخص يحك رأسه، وتنتهي في السطر التالي بالشخص نفسه، وما زال يحك رأسه، وكتبت مرة عن تلك القصة التي وصلتني من كاتب لا أعرفه، وكان عنوانها مكونا من ثلاثة سطور، بينما هي في سطر واحد فقط.

لكن وتحت ضغط ما يشبه الإحساس بالجهل من عدم قراءة كاتبة مهمة مثل أليس، بدأت أقرأ لها، واكتشفت أن القصة القصيرة في عوالمها، شديدة التوهج والجبروت، وتستطيع إذا ما مدت حبالها قليلا أن تصبح رواية غنية بالأحداث والتفاصيل، أيضا يوجد لديها ما يسمى بالمتواليات، بمعنى أن بطلة القصة تنتهي قصتها، لتقلب الصفحة وتجدها في قصة أخرى، فيها العوالم السابقة نفسها، من شوارع وبيوت وأشخاص مؤثرون، لكن الحكاية تختلف وهكذا.

اللافت أن أليس في ما قرأته حتى الآن، تمسك بشدة بعالم المهمشين: العمال الفقراء، الذين يسكنون بيوت الخشب والصفيح، في الأحياء الفقيرة، وأطراف المدن، الذين يتحدثون بلغة الفقر في مأكلهم وملبسهم، وتفاصيلهم الصغيرة والكبيرة، والذين إذا تعلموا فإنما يتعلمون بمشقة في مدارس لا يهتم أحد إن كانت مؤهلة لاستقبال التلاميذ أم لا؟ إن كان من يدرسون فيها، مدرسين حقيقيين أم هواة مستهترين، سيقضون أوقاتهم في التثاؤب أو الصياح، أو التحرش بالتلاميذ والتلميذات.

ولأن الكاتبة من جيل بعيد، ألم بتفاصيل حقيقية لم تشوهها التكنولوجيا الحديثة، ولا دخلتها شوائب من الإنترنت، والهواتف المحمولة، وحتى الكهرباء العادية، أحيانا، نستطيع أن نشم روائح المكان بسهولة، الدرب الوعر يبدو وعرا مليئا بالحفر والأوحال بصدق، الحصائر المتسخة في البيوت القذرة، ستبدو كذلك، وحتى وصف المراحيض العمومية، في المدارس والأسواق، سيبدو وصفا حقيقيا لما كانت عليه الصحة العامة في زمن ما، ولو كتبت هذه القصص اليوم، فقطعا لن يكون الهامش المذكور فيها، هو الهامش القديم نفسه، فلا بد من تغير، خاصة أن الكتابة عن بلد كبير ومتحضر، وصناعي، ومن بلاد الغرب الأشد جذبا للهجرة إليه من العالم الثالث المثخن بالفقر والحروب.

كتابة الهامش هذه، عند أليس مونرو وغيرها من الروائيين حول العالم، وحتى في البلاد العربية، دائما ما تبدو للقراء أشد حرارة، ودفئا كما لو كانت كتابة فاخرة عن الفخامة وتوابعها من قصور ويخوت وسيارات، وأسفار مخملية هنا وهناك. دائما ما تشد تفاصيل البيوت الضيقة، والأنفاس الحارة المتلاصقة، والأفواه الجائعة وغيرها من أدوات رسم المأساة، قراء أكثر، وتعليقات أكثر في تلك المواقع التي تهتم بالقراءة، وتقصي الإصدارات الجديدة.

بالطبع هناك من يفعل العكس، أي يتفاعل مع كتابة الفخامة، والمركز المزدحم بالعطور والمكياج، والوسائد الناعمة أكثر، لكن قصدت أن أغلبية من يتفاعلون، يبحثون عن الهامش الدامي، أو الهامش الذي سيصبح مأساة، أيضا تجد معظم الروائيين، وحتى لو لم يكونوا من سكان الأحياء الفقيرة، أو سكنوها وترعرعوا فيها ذات يوم، يبحثون عن تفاصيل تلك الأحياء، وملامح سكانها، ليكتبوها في قصصهم، وبذلك يحصدون تعاطفا أكثر، وتحصد شخصياتهم المأزومة ما يشبه العطف الكبير عليها، وأن هناك من يتمنى لو قدم لها شيئا.

تفاصيل الهامش في رأيي الشخصي، أكثر ثراء من تفاصيل المركز الثري ماديا، بمعنى أن الثراء المادي هنا، يتم تعويضه بالأحلام، ومحاولات الحصول على موقع متميز في الحياة، ومعروف بالطبع أن تفعيل الخيال، في حد ذاته مادة خصبة توحي بالقصص، فالعسكري المسكين الذي يقيم في حي النور الشعبي البعيد، في مدينة بورتسودان، مثلا، ويذهب إلى وحدته محشورا في المواصلات العامة، يستطيع بسهولة شديدة، وبشيء بسيط من الخيال والخيلاء، أن يبدو في وسط الحي جنرالا، وبذلك فهو مادة ذات تفاصيل يمكن التقاطها، وقد عرفت واحدا، من سكان حي النور، كان يعمل ساعيا بسيطا في مستشفى بورتسودان، حيث كنت أعمل، يصنع الشاي والقهوة، ولا يبدو أكثر من أي شخص عادي بلا أي إيحاءات، لكنني حين صادفته مرة في حيه، كان مختلفا تماما، كانت ملامحه كلها غطرسة، مشيته بترفع، وجيوبه محشوة بأدوية الأسبرين والبندول، وحبوب الملاريا، ويناديه الجيران بلقب: الدكتور.

إذن هنا ثمة خيال، عمل هذا الساعي البسيط على تفعيله بقوة، ووصل به بالفعل إلى درجة الطبيب التي لن تتحقق بالطبع على أرض الواقع، ما لم يكن ثمة جهد يبذل وسنوات طويلة تضيع في الدراسة.

أيضا كتبت عن تلك المرأة عواطف، التي عشقت عالم الرجال، رغم أنوثتها الواضحة للجميع، وأنها كانت زوجة ذات يوم. حيث قصت شعرها، وارتدت الثوب والعمامة، وأطلقت على نفسها اسما ذكوريا كان منتشرا في حيها، ولا تسمح لأحد بمناداتها داخل الحي بغيره، لكن حين تذهب إلى وسط المدينة أو تضطر لتوجد في مكان تغشاه المرأة فقط، مثل أقسام النساء في المستشفيات، أو العزاءات داخل البيوت، فهي امرأة، بثياب النساء. هذه ليست شخصية مجنونة كما قد يعتقد من لا يعرفها، لكنها شخصية غنية، وتحتاج لمن يتغلغل في خيالها، صانعا منها مقاطع مدهشة.

في سياق الحديث عن الهامش الجاذب، أو البلاد الفقيرة الدامية، الجاذبة أبدا للقراءة والكتابة، أرى على سبيل المثال فقط، بلادا مثل أفغانستان، التي لم تنهض من كبواتها قط، من زمن احتلال الروس، إلى عهد الطالبان المتوحش، إلى زمن تحررها الذي لم يأت بأي ثمار. هذه البلاد كتبت كثيرا جدا، كتبت بأقلام أبنائها مثل: عتيق رحيمي، وخالد حسيني، وكتبت بأقلام غريبة استثمرت ضعفها وخرابها، والملاحظ أن كل ما كتب كان ناجحا على مستوى الكتابة والقراءة. «حجر الصبر» لرحيمي، رواية ناجحة، «عداء الطائرة الورقية» لخالد حسيني ناجحة، وحتى «سنونوات كابل»، الرواية التي لم أحبها لياسمينة خضرا، نجحت على مستوى القراءة.

كاتب سوداني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى