صفحات الناس

دير الزور: مدينة على ضفاف الجنة/ رند صباغ

 

 

هي ضحكة الفرات ودرته، وإن تركتها الحرب جريحةً منسيةً على ضفته، فلها تاريخ إن حكى لصار قصيدةً في النضال منذ بدء سيرتها وإلى اليوم، وإن غاب في صمته غنته أهازيج أهلها الباكية. هي مدينة دير الزور، أكبر حواضر المنطقة الشرقية في سوريا، مدينة الجسور السبع، وقصة للماضي والحاضر.

تبعد دير الزور 450 كم شمال شرق العاصمة السورية دمشق، وهي مركز المحافظة التي تضم مدينتي الميادين والبوكمال، ويطلق عليها لقب سلة الغذاء السورية، حيث يقوم اقتصادها على زراعة القطن والقمح، بالإضافة إلى وجود ثروات باطنية كالنفط والغاز، كما تم تأسيس مدينة صناعية فيها عام 2007.

تمتاز المدينة بسبع جسور تقسمها إلى نصفين، أهمها الجسر المعلق الذي أقامه الفرنسيون عام 1925 وتهدم جراء قصف النظام السوري على المدينة في 2 أيار/مايو 2013 إضافة إلى ذلك، توجد في المدينة عدة أسواق تقليدية قديمة ذات سقوف مقوسة ومغطاة بالحجارة مثل سوق الحبوب وسوق الهال وسوق التجار، والحدادة، والخشابين، والنحاسين، والصاغة وغيرها.

تسمية المدينة

تتباين الحكايات حول أصل التسمية، فيشير المؤرخ السوري أحمد سوسة إلى أن أقدم أسماءها هو «شورا» أو «جديرته» وهي كلمة سريانية تعني الحظيرة، في حين يقال أن اسمها أثناء العصر السلوقي كان «ثياكوس» أما ظهور لفظة «الدير» في أولها فجاء مع العصر الأموي، حيث عرفت باسم «دير بصير» نسبة لدير البصيرة القريب، وزمن الخليفة عبد الملك بن مروان سميت بـ «دير حتليف»، إلى أن ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان باسم «دير الرمان» وذلك لوفرة شجر الرمان فيها، إلا أن الاسم تم اختصاره مع الزمن إلى «الدير» فحسب، إلى أن عاد العثمانيون إلى إضافة لفظة «الرحبة» في نهايته، وذلك نسبة للقلعة القديمة الواقعة جنوب الميادين، ومع بداية القرن التاسع عشر لقبت بـ «دير الشُّعار» من أهالي المدن الأخرى لكثرة الشعراء فيها، في الوقت الذي لقبها فيه بعض الرحالة الأوروبيين بـ «دير العصافير» لكثرة البلابل. أما حصولها على اسم «دير الزور» فتعددت فيه الأقاويل وتباينت، حيث يعتقد الباحث عمر صليبي في كتابه «لواء الزور في العصر العثماني» أن كلمة «الزور» تعني الصدر الواسع ويقصد به صدر النهر، لكن آخرون يظنون أن الكلمة مشتقة من لفظة «ازورار» أي مال واعوج، وذلك لميلان النهر في موضع المدينة، وغيرهم اعتبروها تعني الأرض المنخفضة المجاورة لمجرى النهر، أما العلامة عبد القادر عياش، ففسر الزور في كتابه حضارة وادي الفرات بأنه لفظ من العامية ويعني الغابة.

تاريخياً

لا تتضح ملامح دير الزور في وقت قديم جداً كمدينة حقيقية، وإن كانت بعض اللقى الأثرية تدل على وجود الإنسان فيها منذ الألف التاسع قبل الميلاد، إلا أنها غالباً ما كانت قرية صغيرة ملحقة بعددٍ من الممالك يعرف منها في الألف الثالث قبل الميلاد، مملكة ماري ومملكة يمحاض، كما توالت عليها ممالك كالآكادية والآشورية، إضافة إلى خضوعها لحكم حمورابي، كما دخلها الاسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد، لتتبع دير الزور لمدينة أوروبورس التي شيدها، كما دخلها الرومان في عام 64 قبل الميلاد، وفي القرن الثاني الميلادي تبعت لحكم زنوبيا ملكة تدمر، وبقيت الآرامية هي اللغة المحكية لوقتٍ طويل.

إسلامياً فتحها عياض بن غنم عام 640 ميلادي، وذلك في عهد الخليفة عمر بن خطاب، وازدهرت عمرانياً وزراعياً زمن الحكم العباسي، إلا أن المغول قاموا بتدميرها في القرن الثالث عشر، ومع وصول العثمانيين تم اعتمادها مركزاً لمتصرفية، ووطنوا فيها عدداً من العشائر بقصد حماية الطرق التجارية التي تصل حلب ببغداد، حتى حالت من بعدها محطةً للمسافرين، وقد تبعت في العهد العثماني الأول إيالة الرقة، لكنها عانت الخراب من جديد عام 1807 بسبب حروبٍ وهجمات داخلية، إلى أن أتبعها إبراهيم باشا فترة حكمها لسنجق حماة، ليبقى الحاكم المصري فيها من عام 1831 وحتى 1840.

بدأت المقاومة في دير الزور خلال ثورتها على الحكم العثماني عام 1858، والتي تم قمعها بقيادة عمر باشا النمساوي، لكنها عادت لتشهد تمرداً آخر عام 1865، لتتحول من بعدها إلى مركز قائمقامية، حيث نشأت فيها دار السرايا وثكنة عسكرية ومشفىً وسوق ميري، كما استوطنها عدد من أهالي أورفة (التركية حالياً) وتحولت إلى متصرفية عام 1868 لتصبح تبعيتها للصدر الأعظم في إسطنبول بشكل مباشر وشملت معها محافظتي الرقة والحسكة الحاليتين، واستمر هذا العهد 54 عاما شهدت فيها المدينة ازدهاراً عمرانياً واقتصاديا، واتخذت شكلاً أكثر مدينية.

ومع الحرب العالمية الأولى عام 1914 شهدت الدير مجاعة كبرى وانتشرت فيها الأمراض وبارت الزراعة، بالإضافة للحملات العثمانية التي قامت بتجنيد أبنائها في صفوف الجيوش العثمانية.

نهايات الحقبة العثمانية، فتحت الدير ذراعيها لضحايا مجازر الأرمن ومجازر سيفو، ومن حينها أصبح الأرمن جزءاً من تركيبة المدينة وتاريخها المعاصر، وهم يمارسون العادات الديرية بشكل كامل، فصاروا جزءاً من العائلات وجمعت بينهم صلات القربى.

سياسياً

ازدهر العمل السياسي مع خروج الاحتلال العثماني عام 1918 حيث اتفق أهالي المدينة على تشكيل حكومة محلية تسير شؤونهم بعد غياب السلطة الحكومية، وكان نتيجةً ذلك المجلس المحلي الذي ترأسه الحاج فاضل العبود، وهو ما عرف فيما بعد بحكومة الحاج فاضل، وبعد أشهر قليلة تم إتباع المدينة للحكومة المركزية في دمشق، ليعود البريطانيون لفصلها عن بقية سوريا، وضمنها لحكمهم في العراق بداية 1919، فعمّت المدينة ثورة شعبية رافضة، توازت مع مشاركة عدد من الوجهاء في المؤتمر السوري نهاية حزيران/يونيو 1919 الذي تم خلاله إعلان استقلال سوريا وما تبعها من قيام المملكة السورية العربية في 8 آذار/مارس 1920.

ومع بداية الاحتلال الفرنسي، وتقسيمه للأراضي السورية لمجموعة دويلات أو كيانات مستقلة، صارت دير الزور جزءاً من دولة حلب، لكن أهالي دير الزور عرفوا أشكالاً خاصةً في مقاومتهم للاحتلال الفرنسي، فما أن دخل المدينة في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1921 حتى انطلقت الاحتجاجات والمظاهرات، والتي تم على إثرها اعتقال الحاج فاضل العبود، بالإضافة إلى الحملات العسكرية التي شنها الفرنسيون ضد عشائر البوخابور إثر رفضهم دفع الضرائب لدولة الاحتلال.

بعيد انطلاق الثورة السورية الكبرى، لعب أهالي دير الزور دوراً وطنياً بارزاً، وبدأت الحركة ضد الفرنسين بشكل واسع، وراح ضحيتها ضباط من القوات الاستعمارية، ليأتي الرد على شكل قصف استهدف منازل المدنيين، وإحراقٍ للأراضي والمحاصيل، وإهلاكٍ للماشية، كما تمت محاسبة أسرة عياش، وإعدام 14 شخصاً رمياً بالرصاص من بينهم محمود العياش وذلك في 15 أيلول/سبتمبر 1925.

وشهدت دير الزور حراكاً مدنياً بمشاركة أهاليها بالإضراب الستيني الذي عم أرجاء سوريا عام 1936 والذي أسفر عن توقيع اتفاقية الاستقلال بين سوريا وفرنسا، ووصول الكتلة الوطنية إلى الحكم، إبان إجراء انتخابات نيابية تم تمثيل الدير فيها بثلاثة نواب.

لكن في 3 حزيران/يونيو 1941 عرفت دير الزور معركة كبيرة بين جيش حكومة فيشي والجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ودعم الجيش الأردني الإنكليز، ما أثر بشكل بالغٍ على المدينة.

حافظت المدينة على دورها النضالي والسياسي بالإضافة لحراكها المدني حتى إبان مرحلة الاستقلال، فانطلقت فيها عام 1946 ما عرف بانتفاضة القمح ضد المحافظ مكرم الأتاسي، وذلك بسبب استئثار السلطة بالقمح الجيد في المدينة، واستطاع أهالي المدينة تحصيل حقوقهم.

وإثر استيلاء حافظ الأسد على السلطة، عانت دير الزور من تهميش واضح، بالرغم من إفرازها الدائم سابقاً ولاحقاً لشخصيات سياسية فاعلة نتجت عن حراك سياسي منظم، ومنها رئيس الحكومة حسين الزعين قبيل الانقلاب، ولم يقم حافظ الأسد بزيارتها على الإطلاق.

وفي الثمانينات طالت أيادي الأمن السوري العديد من الأهالي سواء من كان منهم ينتمي لتيارات شيوعية، أو لجماعة الإخوان المسلمين ضمن الحملات الواسعة التي شنها الأسد على طول البلاد.

ثقافياً

ظهرت الحياة الثقافية في وقت مبكر من القرن العشرين في مدينة دير الزور، فعرفت المسرح منذ عام 1926، وأنشئ فيها أول مركز ثقافي عربي باسم النادي العربي، وازدادت مع الزمن الجمعيات والنوادي الأدبية والتي كانت تعرف هامشاً سياسياً واضحاً، ومنها نادي الفرات، ونادي الجراح (الذي أصدر جريدة الفرات عام 1942) والنادي الثقافي الذي أصدر مجلة الثقافة عام 1946 وغيرها الكثير من دور النشر والمطابع وغيرها، لكنها انتهت بمعظمها مع سيطرة البعث على الحكم.

دير الزور بعد 2011

كانت دير الزور من أوائل المدن التي شهدت مظاهرات واسعة، كان أولها في 15 نيسان/أبريل 2011 انطلقت من الملعب البلدي، وبالرغم من الاصطدام بقوات النظام والشبيحة الذين استخدموا الرصاص الحي، إلا أن المظاهرات لم تتوقف. وفي 22 تموز/يوليو 2011 والذي عرف باسم «جمعة أحفاد خالد بن الوليد» شهدت المدينة أكبر المظاهرات، ليفوق عدد المشاركين 200 ألف، لكن الحملات العسكرية والأمنية سرعان ما بدأت تأخذ دورها ضد أهالي المدينة، فكانت أولها في 28 تموز/يوليو 2011 حيث قامت قوات النظام بقصف حي الحويقة بالدبابات واقتحامه وإطلاق النار على الأهالي، ليصل عدد الضحايا يومها إلى أكثر من 19 قتيلا، وأسفر بدوره عن انشقاقات كبيرة في الجيش، لتزداد حدة العمليات العسكرية ويصل عدد الضحايا إلى 300.

عادت قوات النظام لمحاصرة المدينة بالدبابات في آب/أغسطس 2011 لتستعيد السيطرة عليها بشكل كامل، ولكن الجيش الحر عاد ليبسط سيطرته في حزيران/يونيو 2012، ليبدأ النظام بقصف المدينة دون توقف إلى الآن.

ومع بداية عام 2014 بدأ المتطرفون يبسطون سيطرتهم على المدينة، حتى أعلن تنظيم «الدولة» ضمها لما سماه بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وبقيت قوات النظام السوري محاصرة في جزء صغير من المدينة إلى الآن، في حين يرزح مدنيوها تحت وزر سيوف تتقاتل على رقابهم إلى اليوم، منها النظام السوري من جهة، و»داعش» من الجهة الأخرى، وقوات التحالف الدولي من السماء.

شهدت المدينة دماراً هائلاً، لكن كما أُهملت في السلم، كذلك في الحرب، فلم تلق الأحداث الدرامية فيها تغطيةً كافية، ونزح الكثير من أهلها ممن استطاعوا، لتبقى دير الزور وأهلها «منسيون على ضفاف الفرات» كما تقول هذه الأغنية التراثية: «ما أقبح الدهر ونصبر على تقابيحه، ونرجي من الله يأتينا بمفاتيحه، يا قلب مسّك من الغبن حاوي، ولا أنت مدينة ولا قلعة ولا حاوي، راح الصديق الي كنت أنا وياه متخاوي، وبالليل عبّي سري وصاح لي الواوي».

القدس العربي،

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى