”رقصة القبور” تاريخنا كما تخيله مصطفى خليفة/ عبد السلام الشبلي
ماذا لو لم يكن حافظ الأسد موجودا؟ بهذا السؤال الصادم يستهل مصطفى خليفة روايته الأخيرة «رقصة القبور» الصادرة عن دار الآداب، فاتحا الأبواب أمام تخيل واسعٍ لمجريات التاريخ السوري، في ربط لمعالمه المتخيلة بفروض تاريخية حملت في طياتها حكايات من الأساطير المنسوجة شعبيا، عن قصص العرب القديمة بعد الإسلام وصراعاتهم التي أسست معالم الاقتتال الحالي بين الطوائف التي تنتسب لهذا الدين، والتي تستند في الكثير من حروبها على حكايات الماضي الذي تواترت أخباره بين أبناء كل طائفة.
ولئن كان صاحب رواية « القوقعة «، قد شغل عقل الإنسان السوري بفظاعات سجن تدمر التي عاشها لنحو ثلاثة عشر عاماً، فإنه يعود بعمله الجديد ليشغل المتابع للحدث السوري، بربطٍ تاريخي أساسه الخيال يقوم على قصة تدور أحداثها الكبرى في ظلال حكاية تاريخية مبتكرة، امتدت إلى عصرنا الحديث، عن الصراع الذي دار بين أعظم أسر قريش التي تنازعت الحكم وتناحرت فيما بينها بعيد نشوء الإسلام ووفاة النبي محمد ليكون الصراع الدائر أساسا للمزيد من الصراعات المستقبلية التي نعيشها حتى هذه الأيام.
الملحمة التي كتبها خليفة، ابتدعت تاريخاً جديدا لسوريا، أساسه عائلة الشيخ التي سكنت قرية الخالدية، ونُسبت بتاريخها لعائلة خالد بن الوليد التي أُبيدت على عدة مراحل، فلم يخرج منها سوى أحد أحفاد خالد الذي أسس قرية للعائلة قرب مدينة حلب، حملت اسمها وتربعت العائلة على عرش قيادتها ممتدة بوصية تاريخية على أصقاع الأرض في محاولة للإفلات من عمليات الإبادة المتكررة. القصة المتخيلة تحكى بلسان الراوي الذي التقى بولي عهد العائلة «عبد السلام» داخل سجن المزة العسكري نتيجة نشاطهما السياسي في أحد الأحزاب المعارضة، لينطلق بعد توطيد علاقته بعبد السلام إلى التعرف على إرث العائلة العظيم الممتد بين عدة أقطار ومئات الأحفاد الذين ينتمون إلى الخالدية ويعيشون خارجها خشية لأي إبادة محتملة، مؤسسين عدة مراكز خاصة بعائلة الشيخ التي تمتلك سراديب من الذهب والكنوز المخبأة تحت قصر الشيخ، التي تعود لزمن العائلة الغابر، حيث تحتفظ بإرثها الذي يستخدم فيما يدعم كل من ينتمي إليها.
لتذهب القصة بعد ذلك إلى مزيد من التشابك القائم على التخيل بدءا من زمن النبي محمد وصولا إلى مذابح الأرمن والتاريخ السوري الذي مرت عائلة الشيخ بطقوسه مع توالي الحكومات العائلية، بدءا من الأمويين وانتقالا إلى العباسيين والدول التي قامت في عهدهم، كالدولة الحمدانية التي كانت سببا في إبادة عائلة الشيخ الأولى، على يد أحد أمرائها الذي تعاطف مع العلويين، لتظهر سيرة العائلة الملحمية التي تغلب الأسطورية على أكثر حكايتها التي امتزجت بنهج واقعي، يحاكي علاقة تلك الأسرة المقدسة بالسلطة التاريخية التي حاولت على مر العصور إبادتها، نظرا لما كانت عليه من القوة والغنـــى منذ جدهم الوليد الذي كان أغنى أغنياء قريش، في الحكاية التي يرويها الشيخ عبد الهادي لأبناء عشيرة الخوالد الذين يتجمعون سنويا.
هذه الحكاية وما شابها من تشكيك يذكره الراوي على لسان أصلان ابن الشيخ عبد الهادي بالتبني، ستصبح أساسا لصراعات مقبلة بين أبناء الحاضر أحفاد الماضي، الذين آمنوا بالدم سبيلا للثأر لكرامتهم المهدورة من طرف، ولإبادتهم المزعومة من طرف آخر، فلا تتوقف لعبة مصطفى عند تخيل التاريخ الماضي، بل ينطلق في حبك الحاضر الذي يمنحه جزءا واسعا من خياله الموسوم بالغرابة والواقعية العجائبية، متمثلة في طريقة وصول المارشال إلى السلطة وتعاونه مع الضابط الألماني الهارب من العقوبات التي لاحقت كيان النازية، ليمارس هوايته المفضلة في اللعب بالنفوس وشرائها وتوظيفها خدمة لما يريده، ليلتقي بالضابط الصغير، الذي يلمس فيه خبثا ورثه وحقدا عاش فيه، فيسخره لخدمة مشروعه لقلب نظام الحكم وصولا إلى تعيين هذا الضابط رئيسا للبلاد بعد أن قتل وسجن الكثير من رفاق دربه في الانقلابات السابقة.
الطائفية إحدى ركائز الحكاية وأساسا للحقد الكامن بين شخوص الرواية، فالسلطة الجديدة بمارشالها ابن الطائفة العلوية، يكره الرفيق عبد السلام، ليس بسبب ما كان يصله من أحاديث الأخير الرافضة والساخرة منه، بل لكره تاريخي قديم، يتعلق بما كان من أحد أفراد أسرة الشيخ القدماء الذين حاربوا العلويين وأذلوهم جاعلين من رجالهم عبيدا، ومن نسائهم سبايا وعاهرات كما تذكر الرواية.
يرتكز المارشال ـ الذي يشبه حافظ الأسد ـ في انتقامه على عامل الوقت الذي يدفعه إليه الضابط الألماني، ليصل أخيرا إلى مبتغاه في اعتقال زعيم الحزب الاشتراكي الشيوعي «عبد السلام» مع زوجته، مستغلا صراعات الحزب وتفككه، ليقضي الأخير سنوات من التعذيب الجسدي والنفسي الذي تمثل باغتصاب زوجته على يد الضابط السني الذي لبس ثوب السلطة التي استفاد منها، ليكون الخروج أخيرا من السجن والبدء بالتجهيز للكفاح المسلح. كل هذا كان هي أساسه خيالا، لكنه في الوقت ذاته واقعي سحري، يستند إلى سؤال الرواية الأول «ماذا لو؟»، فالعمل برمته خيالٌ أطلقه الكاتب الذي يحاول أن يبني أطروحته على افتراض تلك الأشياء التي لم تحصل ومنحها مجالا تاريخيا مجبولا بالواقعية لافتراض حصولها، ما يمنح القارئ فكرة أسس لها الكاتب عن الذي يحاول أن يقول لنا إن كل ما نقرأه من تاريخنا ليس إلا افتراضات تحتمل الصواب والخطأ في آن، لتصبح الحقائق التاريخية التي يتعامل معها القارئ في حياته العادية محض فرضيات لم يعد من الممكن الوثوق فيها. ولأن هذا العمل لا يمكن أن يكون إلا مأساويا، فإن «رقصة القبور» ترسم مأساتها من شخوصها ومفاجآتهم التي بدأت بوشاية أصلان اللقيط، بأخيه عبد السلام لدى المخابرات، وانتحاره لأن ذلك كان رغما عنه، ووفاة ولاد مارال زوجة عبد السلام، وجنون أمها، وتحول مارال إلى عاهرة متنقلة بين تجمعات المقاتلين الشيوعيين، ثم إلى مثليتها الجنسية التي اكتشفتها في سجن النساء بعد الحكم عليها بعشرين عاما، وأخيرا في الحزب الاشتراكي الذي كان مصيره الخراب والتفكك.
ولأن الملحمة كانت تتطلب الغرابة، فإن خليفة حاول أن يضيف منها الشيء الكثير، فعبد السلام ابن الشيخ عبد الهادي يسكر، ويمارس الجنس مع ابنة عمه القادم من سراييفو، ذلك الجنس الذي رسمه خليفة بأدق صوره في العديد من القصص الجنسية التي دارت أيضا بين لميس والراوي، والطبيب الألماني وبائعة الهوى العربية، ليكون «الجنس الشيء الحقيقي في هذه الحياة» كما قالت مارال الأرمنية.
رواية «رقصة القبور»، حكاية الواقع والخيال الذي يعد أساس الصراعات التي نعيشها، حكاية كل من مضوا بخسائرهم وانتصاراتهم التي أفضت اليوم إلى البحث الدؤوب عن انتصارات جــــديدة، وربما عن هزائم جديدة، ترسم معها تاريخا لم يعد بالإمكان الوثوق فيه.
القدس العربي