روسيا الإمبريالية… قطب الرجعية العالمية/ جلبير الأشقر
ما هو المشترك بين السياسيين التاليين؟ دونالد ترامب، أول رئيس منتخب ينتمي إلى أقصى اليمين في تاريخ أمريكا المعاصر، وقد فاز بالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بعد حملة جعلت رجال الطاقم التقليدي لذلك الحزب، بمن فيهم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، يبدون وكأنهم في صف الوسط المعتدل، سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي السابق، الذي تولّى ذاك المنصب على دفعات بين عامي 1994 و2011 من موقع هو الأقصى يميناً بين جميع رؤساء الوزارات الذين تعاقبوا على سدة الحكم في إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فرانسوا فيون، الرجل الذي يُرجّح فوزه في الانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي بعد فوزه الساحق في دورتها الأولى، وهو يعارض النهج الديغولي ـ الشيراكي الذي يمثّله خصمه ألان جوبيه، وذلك من منطلق «ثاتشري» نسبة إلى مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء في سنوات 1979ـ1990 التي قادت «ثورة المحافظين» مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (1981ـ1988)، أي المنعطف النيوليبرالي في الاقتصاد العالمي الذي قام على تفكيك الإصلاحات الاجتماعية التي شهدها هذا الاقتصاد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك من أجل إحلال قانون الغاب في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية باسم «الحرية»، مارين لوبين، نجمة أقصى اليمين الفرنسي وأبرز وجه في أقصى اليمين الأوروبي برمّته والتي يُرجّح أنها ستصل إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري في العام المقبل.
القاسم المشترك بين جميع الزعماء السياسيين الغربيين الذين تم ذكرهم هو أنهم يدعون إلى علاقات صداقة مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين. ولا بدّ من أن نضيف إلى ذلك من منظور منطقتنا العربية أن المذكورين يشاطرون الرئيس الروسي الفكرة القائلة إن الاستبداد هو خير نظام حكم للعرب بل للمسلمين أجمعين، بحيث يلتقون مع الزعيم الروسي في تفضيل أمثال الرئيس السوري بشّار الأسد والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي على الديمقراطية التي حلم بها ودعا إليها الملايين أثناء «الربيع العربي».
وإنه لمنعطفٌ تاريخي يجدر التوقّف عنده والتأمل بمغزاه. فطوال القسم الأعظم من القرن العشرين، عندما كانت روسيا تقود الاتحاد السوفياتي «الشيوعي» كان موقف الصداقة إزاءها محكّاً للاعتدال والتقدّمية في السياسة الغربية. وقد تميّز بمثل هذا الموقف على وجه الخصوص كلٌّ من الزعيم الفرنسي شارل ديغول، الذي انفتح على الاتحاد السوفياتي وعارض سياسة أمريكا في مجالات شتى منها حرب فيتنام والنزاع العربي ـ الإسرائيلي، والزعيم الاشتراكي الألماني فيلي برانت الذي اشتهر بسياسة الانفتاح على الكتلة الشرقية التي نادى بها ومارسها خلال سنواته في منصب مستشار ألمانيا.
والحال أن روسيا بين القرن العشرين وقرننا الراهن قد انقلبت من «الشيوعية» إلى نموذج اجتماعي يقف في أقصى اليمين بين الأنظمة القائمة في القارة الأوروبية. وهو نموذجٌ يقوم على تركّز احتكاري فائق في الاقتصاد بعد أن تم نهب القطاع العام من قبل حفنة من الجشعين إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى نظام ضريبي هو الأكثر ظلماً بين كل الأنظمة الضريبية الغربية، ناهيكم برئاسةٍ مدى الحياة قائمة على نفاق التناوب على الرئاسة بين بوتين ومن ينوب عنه وبحكم سلطوي يضطهد معارضيه اضطهاداً بشعاً.
روسيا هذه دولة إمبريالية شرسة، يتزعّمها رجلٌ دشّن تولّيه للحكم بشنّ حرب مدمّرة على الشيشان على طراز إسهامه الحالي في تدمير سوريا، ولا يتردّد في ممارسة الاحتلال والتدخّل العسكري بما يضاهي ما تميّزت به الإمبريالية الأمريكية تاريخياً، بحيث احتلّ القرم وتدخّل في أوكرانيا ويتدخّل في سوريا متعدّياً خلال سنتين سجّل الاتحاد السوفياتي الذي شكّل احتلاله لأفغانستان خروجه الوحيد من منطقة سيطرته المباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.
هكذا باتت اليوم الصداقة مع روسيا بوتين محكّ التطرّف اليميني في السياسة الغربية. ومن عجائب الأمور أن ثمة بعض أدعياء اليسار من العرب وغير العرب يعتقدون أن روسيا الحالية تمثّل استمراراً للاتحاد السوفياتي. طبعاً هذا بسيط بالمقارنة مع اعتقاد الأدعياء أنفسهم أن بشّار الأسد، الخاضع للنظام الإيراني ولروسيا بوتين، هو درع العلمانية والتقدّمية والاستقلال في المنطقة العربية.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي