سلمان رشدي يناقش في روايته الجديدة العقل والنقل في الفكر الديني/ عبداالله الساورة
يعود سلمان رشدي لكتابة مذكراته عن طريق السرد في روايته الجديدة «سنتان، ثمانية أشهر وثمانية وعشرون ليلة» خلال صيف 2015، يريد من خلالها أن يتحول إلى شهرزاد ويفتح من خلالها «جهنم للكثير من الحقائق».
في المستقبل القريب، وبعد عاصفة هوجاء، يبدأ الغضب العنيف والغريب.. يكتشف بستاني أن قدميه لا تطآن الأرض ورسام يتحول إلى بطل خارق ورضيع يحدد الفاسدين بطفحه الجلدي.. هؤلاء لا يعرفون أنهم من سلالة مخلوقات سحرية وغريبة الأطوار مثل الجن.. عالمهم مفصول عن عالمنا بحجاب، سيتمزق ويصبح هؤلاء المختارون من واجبهم النضال والكفاح في معركة بين النور والظلمة والذي يمتد إلى ألف ليلة وليلة.
الرواية هي بالحساب الرياضي ألف ليلة وليلة واحدة، وهي تتركب من التاريخ والفنتازيا والميثولوجيا. حينما يستبد التعصب بالعالم ويصبح المنطق والعقل غير قادر على محاربة وحوش الظلام التي تعبث بكل شيء، مطلوقة العنان، مستهترة بالعقل وبكل شيء، هذا ما يحدث في هذه الرواية.
سلمان رشدي، المقلق، والمستفز، الذي يطرح أسئلة تثير الغضب، هو من الكتاب الأكثر حضوراً في البانوراما الأدبية المعاصرة. روايته «أبناء منتصف الليل» تحكي عن التاريخ الهندي منذ اعلان الاستقلال، فازت بمجموعة من الجوائز المرموقة وبجائزة البوكر. وروايته «انتقام» تحكي تاريخ باكستان، وكلا الروايتين فيها من الاستفزاز ما يبعث على النقمة على الكاتب. هذه النقمة التي تتحول إلى كراهية عمياء عند أجيال من المسلمين في روايته المثيرة «آيات شيطانية»، التي حققت رقما قياسياً في المبيعات يقدر 2.800.000 دولار. وألزمته أن يختبئ تحت اسم مستعار هو جوزيف أتون لمدة أحد عشر عاماً.
رشدي يصنع من الفن، هذه الماهية العجيبة كنقطة انطلاق مركزية لكل ما وقع في التاريخ البشري. القبض على ميكانزم السرد وشهوة الحكي وما يتركه كشهادة في المكان تتأسس على الحقيقة والإيمان والسحر والواقع.
يدقق رشدي في الحاجة التي يمتلكها الكائن البشري، في الحكي والتخيل، وهمُ قوي جداً كما ذاك الذي يدفع إلى الاعتقاد والحب. يعود سلمان رشدي من خلال هذه الرواية إلى ثيماته الرئيسية التي تشكل العمود الفقري لعمله ويمنح معنى لسرده. التفكير في ما يبدو سحريا وتخيلا وميكانزما لإقامة الواقع السياسي ببنيانه التاريخي، والدين كنافذة أو زقاق مطلٍ وكمادة فلسفية قابلة للتفكير والتأمل.
تبدأ رواية «سنتان …» في القرن الثاني عشر الميلادي، مع الفيلسوف والطبيب وأبو العقلانية العربية ابن الرشد، من دون قصد يسقط في حب امرأة جميلة، دنيا، وهي رمز للحياة. ومن ثمة تتحرك الحكاية وتنطلق من الأندلس إلى نيويورك، حيث يكتشف حفدتهم أن لديهم صلاحيات وقوى خاصة. بالمقابل يظهر الإمام الغزالي الوجه الآخر للنقل في مقابل العقل وتشتد، وتيرة الصراع بين من يمثل العقلانية ومن يمثل النقل، يخوضون معارك حاسمة تستعمل فيها كل الوسائل.. تتوج بالصدام وبالمواجهة بين العقل النير والتعصب الأعمى في زمن الغرابة.
ومن أجل أن يتابع هذا الصدام يبحث له سلمان رشدي عن ميكانزم القصة ذات المنطق والطبيعة كألف ليلة وليلة. فشهرزاد التي تحكي تتفادى الموت وموت الآخر، أي أنها تحتل ظل الكاتب الذي ينير إجاباتها.
تأخذ الميثولوجيا في الرواية كخيط رمزي لقصص مختلفة، البستاني، والرضيع والعاشقة والأحفاد والعقل والنقل… مسميات لأسماء مختلفة لشخصيات الرواية. سلمان رشدي يستخرج كل ما في نفسه في هذا الإصدار الجديد، يتصالح مع الذات، يبرر ويطرح الأسئلة العميقة… جذوة العقل وسبل المنارات التي يمنحها حين نستعمله بشكل جيد.
تمتد الرواية على طول مجموعة من العصور، بين صراع عالمين العقل والنقل، مرة يصرح بهما ومرة يأخذ الصراع طابع الدسائس والغدر والكمائن واستعمال الدين كمطية للسياسي وللمصالح الاقتصادية.
يختم الكاتب في هذا الزمن الحاضر أن الرجال فرحون جداً بانتصار المنطق والعقل، لكن بطريقة ما يغلب فيها العشق والخيال عن السحر والشعوذة والتطرف ومتاهات التعصب.
رواية بنغمة ملحمية، فلسفية، نقدية، حرجة، تجترح الأسئلة الصعبة عن مكمن الخلل، غير صالحة بطبيعة الحال لجميع الأذواق. الكاتب في نهاية المطاف لا يرضي جميع الأطراف لأنه يغالب منطق العقل والمنطق والتنوير على دروب التطرف ومتاهاته.
رواية بنظرة ونبرة ساخرة على امتداد 400 صفحة، مليئة بقصص تلتقي وتتفارق وتتباعد مساراتها بالفنتازيا بالوهم بالهذيان بالبوح بتصحيح الأخطاء وبالروح الإنسانية المفعمة والمنتصرة لمنطق الحياة والحب والتسامح.
بعبارة بسيطة يرغب سلمان رشدي في أن يكون شهرزاد لقرننا الجديد، من دون أن يصل إلى العيون التي يغالبها النوم.. ولكن تصل لفجر العقل والحرية معاً… قد يختلف معه البعض وقد يتفق، ولكن ذاك هو الإبداع الذي يولد قراءات مختلفة تصل حد التناقض ولكن الاختلاف يتضمنها ويحتويها…
القدس العربي